تكلّم علماء أهل السنّة في يزيد و الحكم بكفره

قال الطبري: «وحدّثني أبو عبيدة معمر بن المثنى: أن يونس بن حبيب الجرمي حدّثه قال: لما قتل عبيد اللّه بن زياد الحسين بن علي عليه السلام وبني أبيه، بعث برؤوسهم إلى يزيد بن معاوية، فسرّ بقتلهم أوّلاً، وحسنت بذلك منزلة عبيد اللّه عنده.
ثم لم يلبث إلا قليلاً حتى ندم على قتل الحسين، فكان يقول: وما كان عليّ لو احتملت الأذى وأنزلته معي في داري، وحكمته فيما يريد، وإن كان عليّ في ذلك وكف ووهن في سلطاني، حفظاً لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ورعاية لحقه وقرابته، لعن اللّه ابن مرجانة، فإنه أخرجه واضطرّه، وقد كان سأله أن يخلّي سبيله ويرجع فلم يفعل، أو يضع يده في يدي، أو يلحق بثغر من ثغور المسلمين، حتى يتوفّاه اللّه عز وجل، فلم يفعل، فأبى ذلك ورده عليه وقتله، فبغّضني بقتله إلى المسلمين، وزرع لي في قلوبهم العداوة، فبغضّني البرّ والفاجر بما استعظم الناس من قتلي حسيناً، ما لي ولابن مرجانة، لعنه اللّه وغضب عليه»(1).
ونقله الذهبي عن الطبري، ولم يتعقبه بشيء(2).
وكذا ابن الأثير، قال: «وقيل: لما وصل رأس الحسين إلى يزيد حسنت حال ابن زياد عنده وزاده ووصله وسره ما فعل، ثم لم يلبث إلا يسيراً حتى بلغه بغض الناس له ولعنهم وسبّهم، فندم على قتل الحسين، فكان يقول: وما عليّ لو احتملت الأذى..»(3).
وقال السيوطي: «ولما قتل الحسين وبنو أبيه بعث ابن زياد برؤوسهم إلى يزيد، فسرّ بقتلهم أوّلاً، ثم ندم لمّا مقته المسلمون على ذلك، وأبغضه الناس وحق لهم أن يبغضوه»(4).
وقال ابن حجر: «ولما أنزل ابن زياد رأس الحسين وأصحابه جهزها مع سبايا آل الحسين إلى يزيد، فلما وصلت إليه قيل: إنه ترحم عليه، وتنكّر لابن زياد وأرسل برأسه وبقية بنيه إلى المدينة. وقال سبط ابن الجوزي وغيره:
المشهور أنه جمع أهل الشام وجعل ينكت الرأس بالخيزران، وجمع بأنه أظهر الأول وأخفى الثاني، بقرينة أنه بالغ في رفعة ابن زياد حتى أدخله على نسائه»(5).
قلت:
ولعلّ من أهمّ أسباب بغض الناس ليزيد وسبّهم إياه وتفرّقهم عنه، حتى التجأ إلى إظهار الندم ولعن ابن مرجانة، إنشاده أشعار ابن الزبعرى، فقد نصّ غير واحد من «أهل النقل» بعد ذكر ذلك: «إنه واللّه ما بقي في عسكره أحد إلا تركه. أي عابه وذمّه»(6).
قال ابن حجر: «قالت طائفة من أهل السنة بأنه كافر لذلك»(7).
هذا، ومما يكشف عن أنه لم يكن صادقاً في إظهاره الندم: عدم تسليمه الرأس الشريف إلى أهل البيت كي يلحقوه بجسده الطاهر، بل أرسله ـ فيما يروون ـ إلى عامله بالمدينة المنورة، الذي قال: «وددت أنه لم يبعث به إلي»(8).
هذا، وقد لعنه غير واحد من الأئمة الأعلام: كالسعد التفتازاني(9) والجلال السيوطي(10)، وجماعة من المتقدّمين، وقد ذكر جماعة منهم ابن الجوزي في كتابه (الردّ على المتعصب العنيد المانع من لعن يزيد) الذي أورد فيه بعض الأدلة على لعن يزيد.
وممّن فصّل البحث في هذا المقام: الآلوسي البغدادي، إذ قال بتفسير قوله تعالى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الاَْرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ * أُولئِكَ الَّذينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ…) بعد كلام له: «وعلى هذا القول لا توقف في لعن يزيد، لكثرة أوصافه الخبيثة وارتكابه الكبائر في جميع أيام تكليفه… والطامّة الكبرى ما فعله بأهل البيت ورضاه بقتل الحسين ـ على جدّه وعليه الصلاة والسلام ـ واستبشاره بذلك وإهانته لأهل بيته مما تواتر معناه، وإن كانت تفاصيله آحاداً… .
وقد جزم بكفره وصرّح بلعنه جماعة من العلماء، منهم ناصر السنة ابن الجوزي وسبقه القاضي أبو يعلى، وقال العلاّمة التفتازاني: لا نتوقّف في شأنه بل في إيمانه، لعنة اللّه تعالى عليه وعلى أنصاره وأعوانه. وممن صرّح بلعنه الجلال السيوطي عليه الرحمة.
وفي تاريخ ابن الوردي(11) وكتاب الوافي بالوفيات(12): أن السبي لما ورد من العراق على يزيد خرج، فلقي الأطفال والنساء من ذرية علي والحسين رضي اللّه تعالى عنهما، والرؤس على أطراف الرماح، وقد أشرفوا على ثنية جيرون، فلما رآهم نعب غراب فأنشأ يقول:
لما بدت تلك الحمول وأشرقت *** تلك الرؤس من شفا جيرون
نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل *** فقد اقتضيت من الرسول ديوني
يعني: إنه قتل بمن قتله رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم يوم بدر، كجدّه عتبة وخاله ولد عتبة وغيرهما، وهذا كفر صريح، فإذا صح عنه فقد كفر به.
ومثله تمثّله بقول عبد اللّه بن الزبعرى قبل إسلامه:
ليت أشياخي.. الأبيات.
وأفتى الغزالي ـ عفا اللّه عنه ـ بحرمة لعنه، وتعقب السفاريني من الحنابلة نقل البرزنجي والهيثمي السابق عن أحمد رحمه اللّه تعالى فقال: المحفوظ عن الإمام أحمد خلاف ما نقلا، ففي الفروع ما نصّه: من أصحابنا من أخرج الحجاج عن الإسلام فيتوجه عليه يزيد ونحوه، ونص أحمد خلاف ذلك، وعليه الأصحاب، ولا يجوز التخصيص باللعنة، خلافاً لأبي الحسين وابن الجوزي وغيرهما. وقال شيخ الإسلام ـ يعني واللّه تعالى أعلم: ابن تيمية ـ ظاهر كلام أحمد الكراهة.
قلت: والمختار ما ذهب إليه ابن الجوزي وأبو حسين القاضي ومن وافقهما. إنتهى كلام السفاريني.
وأبو بكر ابن العربي المالكي ـ عليه من اللّه تعالى ما يستحق ـ أعظم الفرية، فزعم أن الحسين قتل بسيف جدّه، صلى اللّه عليه تعالى وسلّم. وله من الجهلة موافقون على ذلك (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّ كَذِبًا).
قال ابن الجوزي ـ عليه الرحمة ـ في كتابه السرّ المصون: من الاعتقادات العاميّة التي غلبت على جماعة منتسبين إلى السنة أن يقولوا: إن يزيد كان على الصواب، وإن الحسين ـ رضي اللّه تعالى عنه ـ أخطأ في الخروج عليه، ولو نظروا في السير لعلموا كيف عقدت له البيعة، وألزم الناس بها، ولقد فعل في ذلك كلّ قبيح.
ثم لو قدّرنا صحة عقد البيعة، فقد بدت منه بواد كلّها توجب فسخ العقد، ولا يميل إلى ذلك إلا كلّ جاهل عامي المذهب يظن أنه يغيظ بذلك الرافضة.
وأنا أقول: الذي يغلب على ظني أن الخبيث لم يكن مصدّقاً برسالة النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلّم، وأن مجموع ما فعل مع أهل حرم اللّه تعالى وأهل حرم نبيّه عليه الصّلاة والسلام وعترته الطيبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات، وما صدر منه من المخازي، ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر، ولا أظن أن أمره كان خافياً على أجلّة المسلمين إذ ذاك، ولكن كانوا مغلوبين مقهورين لم يسعهم إلا الصبر ليقضي اللّه أمراً كان مفعولاً. ولو سلّم أن الخبيث كان مسلماً فهو مسلم جمع من الكبائر ما لا يحيط به نطاق البيان.
وأنا أذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين، ولو لم يتصوّر أن يكون له مثل من الفاسقين.
والظاهر أنه لم يتب، واحتمال توبته أضعف من إيمانه.
ويلحق به ابن زياد وابن سعد وجماعة، فلعنة اللّه عز وجلّ عليهم أجمعين، وعلى أنصارهم وأعوانهم وشيعتهم، ومن مال إليهم إلى يوم الدين، ما دمعت عين على أبي عبد اللّه الحسين.
ويعجبني قول شاعر العصر ذو الفضل الجلي عبد الباقي أفندي العمري الموصلي، وقد سئل عن لعن يزيد اللعين:
يزيد على لعني عريض جنابه *** فأغدو به طول المدى ألعن اللعنا
ومن كان يخشى القال والقيل من التصريح بلعن ذاك الضليل، فليقل: لعن اللّه عزّ وجلّ من رضي بقتل الحسين، ومن آذى عترة النبي صلى اللّه عليه وسلم بغير حق، ومن غصبهم حقهم، فإنه يكون لاعناً له، لدخوله تحت العموم دخولاً أوّليّاً في نفس الأمر.
ولا يخالف في جواز اللعن بهذه الألفاظ ونحوها سوى ابن العربي المارّ ذكره وموافقيه، فإنهم على ظاهر ما نقل عنهم لا يجوزون لعن من رضي بقتل الحسين رضي اللّه تعالى عنه، وذلك لعمري هو الضلال البعيد الذي يكاد يزيد على ضلال يزيد»(13).
أقول:
وقد تشبث هؤلاء المانعون بأشياء يحكم بوهنها كلّ من يقف عليها، ويفهم بأن السبب الأصلي للمنع ليس شيء منها، ولا يبعد أن يكون السبب ما ذكره السعد التفتازاني بقوله:
«وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل البيت النبي صلى اللّه عليه وسلّم، فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء، إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء. ويبكي له من في الأرض والسماء، وتنهد منه الجبال وتنشق الصخور، ويبقى سوء عمله على كر الشهور ومرّ الدهور، فلعنة اللّه على من أمر أو رضي أو سعى (وَلَعَذابُ اْلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى).
فإن قيل: فمن علماء المذهب من لم يجوّز اللعن على يزيد، مع علمهم بأنه يستحق ما يربو على ذلك ويزيد.
قلنا: تحامياً عن أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى، كما هو شعار الروافض على ما يروى في أدعيتهم ويجري في أنديتهم، فرأى المعتنون بأمر الدين إلجام العوام بالكليّة طريقاً إلى الاقتصاد في الاعتقاد، وبحيث لا تزل الأقدام عن السواء ولا تضل الأفهام بالأهواء، وإلا فمن يخفى عليه الجواز والاستحقاق؟ وكيف لا يقع عليهما الاتفاق؟»(14).
قلت:
يشير إلى ما في بعض أدعيتنا حيث نقول: اللهم العن أول ظالم ظلم حق محمد وآل محمد وآخر تابع له على ذلك، اللهم العن العصابة التي جاهدت الحسين وشايعت وبايعت وتابعت على ذلك، اللهم العنهم جميعاً.

(1) تاريخ الطبري 5 / 506.
(2) تاريخ الإسلام حوادث 61 ص 20، سير أعلام النبلاء 3 / 317.
(3) الكامل في التاريخ 4 / 87.
(4) تاريخ الخلفاء: 208.
(5) الصواعق المحرقة: 119.
(6) الرد على المتعصب العنيد: 48، ابن كثير 8 / 192.
(7) الصواعق المحرقة: 131.
(8) تاريخ الإسلام حوادث 61 ص 20.
(9) ستأتي عبارته.
(10) تاريخ الخلفاء: 207.
(11) تتمة المختصر في أخبار البشر حوادث: 60.
(12) الوافي بالوفيات 12 / 426.
(13) روح المعاني 26 / 72 ـ 74.
(14) شرح المقاصد 5 / 311.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *