الكلام على مدلوله بالتفصيل

الجهة الثالثة: مدلول الخبر:
ثم إنه ـ بغضّ النظر عن التعارضات الموجودة في روايات القصّة ـ لابدّ من النظر فيها من الناحية الفقهيّة، والناحية الأخلاقيّة، لننظر: ما صنع علي عليه السلام، وما فعلت فاطمة عليها السلام، وأي شيء صدر من النبي صلّى اللّه عليه وآله حسب هذه الروايات؟
تقول الروايات: إن عليّاً خطب بنت أبي جهل. فأتت فاطمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، هذا علي ناكح بنت أبي جهل، ورسول اللّه صعد المنبر وخطب الناس، وقد اشتمل كلامه على:
1 ـ الثناء على صهر له من بني عبد شمس.
2 ـ الخوف من أن تفتن فاطمة في دينها!
3 ـ إنه ليس يحرّم حلالاً ولا يحلّ حراماً… ولكن لا يأذن!
4 ـ لا تجتمع بنت رسول اللّه وبنت عدوّ اللّه. وفي لفظ: ليس لأحد أن يتزوّج ابنة عدوّ اللّه على ابنة رسول اللّه. وفي ثالث: لم يكن ذلك له… .
5 ـ إلاّ أن يريد ابن أبي طالب أن يطلّق ابنته وينكح ابنتهم. وفي لفظ: إن كنت تزوّجتها فردّ علينا ابنتنا… .
6 ـ فاطمة بضعة مني… .
أترى من الجائز وقوع هذه الأمور؟
لقد حار الشرّاح القائلون بصحّة هذه الأخبار، لكونها في الصّحاح!
يقولون: إن عليّاً لم يأخذ إلا بعموم الجواز، والنبي صلّى اللّه عليه وآله ليس يحرّم حلالاً، وليس يعتبر الإذن من أبي الزوجة في تزوّج الصهر بأخرى، كما ليس له حمله على طلاق زوجته إن تزوّج عليها.. ومع ذلك يقول صلّى اللّه عليه وآله: لا آذن، لا آذن، لا آذن…!!
إن هذه الأخبار إلاّ أكاذيب، وإلاّ فما الجواب؟
يقولون: إن فاطمة أخذتها الغيرة، والنبي أخذته الغيرة لابنته! وهذه افتراءات واضحة!
ولو سلّمنا.. فلماذا صعد المنبر وأعلن القصّة وشهّر؟
يقول ابن حجر: «وإنما خطب النبي ليشيع الحكم المذكور بين الناس ويأخذوا به، إما على سبيل الإيجاب وإما على سبيل الأولويّة»(1).
وتبعه العيني(2).
والمراد بالحكم: حكم الجمع بين بنت رسول اللّه وبنت عدوّ اللّه.
لكن ألفاظ الحديث مختلفة، ففي لفظ: «لا تجتمع» وفي آخر: «ليس لأحد» وفي ثالث: «لم يكن له ذلك».. ومن هنا اختلف العلماء في هذا الحكم:
قال النووي: «في هذا الحديث تحريم إيذاء النبي صلّى اللّه عليه وآله بكلّ حال وعلى كلّ وجه، وإن تولّد ذلك الإيذاء مما كان أصله مباحاً وهو حي. وهذا بخلاف غيره.
قالوا: وقد أعلم صلّى اللّه عليه وآله بإباحة نكاح بنت أبي جهل لعلي بقوله: لست أحرّم حلالاً، ولكن نهى عن الجمع بينهما لعلّتين منصوصتين.
إحداهما: أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة فيتأذى حينئذ النبي صلّى اللّه عليه وآله فيهلك من آذاه، فنهى عن ذلك لكمال شفقته على علي وعلى فاطمة.
والثانية: خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة.
وقيل: ليس المراد به النهي عن جمعهما، بل معناه: أعلم من فضل اللّه أنهما لا تجتمعان، كما قال أنس بن النضر: واللّه لا تكسر ثنية الربيع.
ويحتمل: أن المراد تحريم جمعهما، ويكون معنى: لا أحرّم حلالاً. أي: لا أقول شيئاً يخالف حكم اللّه، فإذا أحلّ شيئاً لم أحرّمه، وإذا حرّمه لم أحللّه ولم أسكت عن تحريمه، لأن سكوتي تحليل له، ويكون من جملة محرّمات النكاح الجمع بين بنت عدو اللّه وبنت نبي اللّه»(3).
وقال العيني: «نهى عن الجمع بينها وبين فاطمة ابنته لعلّتين منصوصتين…» فذكر ما تقدَّم كذلك.
أقول: وهل قوله: «إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلّق…» لا ينافي كمال شفقته على علي وفاطمة؟
فاضطرّ ابن حجر إلى أن يقول بشرحه: «هذا محمول على أن بعض من يبغض عليّاً وشى به أنه مصمّم على ذلك، وإلاّ فلا يظنّ به أن يستمرّ على الخطبة بعد أن استشار النبي صلّى اللّه عليه وآله فمنعه. وسياق سويد بن غفلة يدلّ على أن ذلك وقع قبل أن تعلم به فاطمة، فكأنه لمّا قيل لها ذلك وشكت إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله بعد أن أعلمه علي أنه ترك، أنكر عليه ذلك.
وزاد في رواية الزهري: وإني لست أحرّم حلالاً ولا أحلّل حراماً، ولكن واللّه لا تجمع بنت رسول اللّه وبنت عدوّ اللّه عند رجل أبداً. وفي رواية مسلم: مكاناً واحداً أبداً. وفي رواية شعيب: عند رجل واحد أبداً.
قال ابن التين: أصح ما تحمل عليه هذه القصّة: إن النبي صلّى اللّه عليه وآله حرّم على علي أن يجمع بين ابنته وبين ابنة أبي جهل، لأنه علّل بأن ذلك يؤذيه، وأذيّته حرام بالاتفاق. ومعنى قوله: لا أحرّم حلالاً. أي: هي له حلال لو لم تكن عنده فاطمة، وأمّا الجمع بينهما، الذي لا يستلزم تأذي النبي صلّى اللّه عليه وآله لتأذي فاطمة به، فلا.
وزعم غيره: إن السّياق يشعر بأن ذلك مباح لعلي، لكنه منعه النبي صلّى اللّه عليه وآله رعاية لخاطر فاطمة، وقبل هو ذلك امتثالا لأمر النبي صلّى اللّه عليه وآله.
والذي يظهر لي: إنه لا يبعد أن يعدّ في خصائص النبي صلّى اللّه عليه وآله أن لا يتزوّج على بناته. ويحتمل أن يكون ذلك خاصّاً بفاطمة عليها السلام»(4).
أقول:
أنظر إلى الاضطراب في كلماتهم، ومحاولتهم تصحيح معنى الحديث ومدلوله بـ(لعلّ) و(يحتمل) و(يحمل) ونحوها.
لكن إمامهم الأكبر البخاري صاحب الصحيح! لم يرتض شيئاً من هذه الوجوه، فجعل كلام النبي صلّى اللّه عليه وآله خلعاً، ولذا أورده في باب الشقاق من كتاب الطلاق!! فردّ عليه القوم بما يبطله بشدّة:
قال العيني: «قال ابن التين: ليس في الحديث دلالة على ما ترجم. أراد أنه لا مطابقة بين الحديث والترجمة. وعن المهلّب: حاول البخاري بإيراده أن يجعل قول النبي صلّى اللّه عليه وآله: (فلا آذن) خلعاً، ولا يقوى ذلك، لأنه قال في الخبر: (إلاّ أن يريد ابن أبي طالب أن يطلّق ابنتي) فدلّ على الطلاق، فإن أراد أن يستدلّ بالطلاق على الخلع فهو ضعيف.
وقيل في بيان المطابقة بين الحديث والترجمة: يمكن أن تؤخذ من كونه صلّى اللّه عليه وآله أشار بقوله: (فلا آذن) إلى أن عليّاً رضي اللّه تعالى عنه يترك الخطبة، فإذا ساغ جواز الإشارة بعدم النكاح التحق به جواز الإشارة بقطع النكاح. انتهى.
وأحسن من هذا وأوجه ما قاله الكرماني بقوله: أورد هذا الحديث هنا، لأن فاطمة رضي اللّه تعالى عنها ما كانت ترضى بذلك، وكان الشقاق بينها وبين علي رضي اللّه تعالى عنه متوقّعاً، فأراد صلّى اللّه عليه وآله دفع وقوعه. انتهى.
وقيل: يحتمل أن يكون وجه المطابقة من باقي الحديث وهو: (إلا أن يريد على أن يطلّق ابنتي) فيكون من باب الإشارة بالخلع. وفيه تأمل»(5).
وقال القسطلاني: «استشكل وجه المطابقة بين الحديث والترجمة، وأجاب في الكواكب فأجاد: بأن كون فاطمة ما كانت ترضى بذلك، فكان الشقاق بينها وبين علي متوقّعاً، فأراد النبي صلّى اللّه عليه وآله دفع وقوعه بمنع علي من ذلك بطريق الإيماء والإشارة. وقيل غير ذلك ممّا فيه تكلّف وتعسّف»(6).
أقول: وهذا الوجه الذي استجوده القسطلاني من أردأ الوجه، لأن ما كان من النبي صلّى اللّه عليه وآله لم يكن بطريق الإيماء والإشارة، بل كان بالخطبة والتنقيص والتهديد. والحاصل: إن الوجه الذي استظهره البخاري باطل جدّاً، والوجوه التي ذكرها القوم أيضاً كلّها ساقطة.
وتلخّص: أن هذا الحديث باطل سنداً ومتناً ومدلولاً.. وإن القصّة إنما وضعها قوم نواصب، فجاء من بعدهم علماء الحديث عندهم، وحاولوا إصلاح الفاسد بأيّ وجه، لكنهم أخفقوا، وليتهم قالوا ببطلان القصّة وكذبها واعترفوا… .
ثم جاء ابن تيمية وجعل هذا الحديث الكذب أساساً يبني عليه تقوّلاته في غير موضع من كتابه.

(1) فتح الباري 7 / 68.
(2) عمدة القاري 16 / 230.
(3) المنهاج ـ شرح صحيح مسلم 16 / 2 ـ 4.
(4) فتح الباري 9 / 270.
(5) عمدة القاري في شرح البخاري 20 / 265.
(6) إرشاد الساري في شرح البخاري 8 / 152.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *