دعوى ابن تيميّة وجود النصّ لكنه خفي عن الناس! / دعوى ابن تيميّة أفضلية أبي بكر عند الصّحابة!

وأورد ابن تيميّة أحاديث في كلام طويل يتضمّن وجود النص والوصيّة على خلافة أبي بكر، ولكن ذلك خفي عليه وعلى ابنته وعمر وسائر المهاجرين والأنصار!!.
وهل من عاقل يرتضي هذا القول؟! وكيف ظهر لهذا القائل ما خفي على أولئك القوم؟!. هذا… ويناقضه ما جاء بعده من أن «التحقيق: أن النبي صلّى اللّه عليه وآله دلّ المسلمين على استخلاف أبي بكر، وأرشدهم إليه بأمور متعدّدة من أقواله وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك حامد له، وعزم على أن يكتب بذلك في مرضه يوم الخميس، ثم لما حصل لبعضهم شكّ هل ذلك القول من جهة المرض أو هو قول يجب اتباعه، ترك الكتابة اكتفاء بما علم أن اللّه يختار والمؤمنون من خلافة أبي بكر، فلو كان التعيين ممّا يشتبه على الأمّة لبيّنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بياناً قاطعاً للعذر، لكن لمّا دلّهم دلالات متعدّدة على أن أبا بكر هو المتعيّن وفهموا ذلك، حصل المقصود… ولم ينكر ذلك منهم منكر، ولا قال أحد من الصحابة أن غير أبي بكر من المهاجرين أحقّ بالخلافة منه، ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار; طمعاً في أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير… ولم يقل قطّ أحد من الصحابة أن النبي صلّى اللّه عليه وآله نصّ على غير أبي بكر…»(1).
أقول:
أولاً، أن الكلام في (النصّ) و (الوصيّة) وهما غير (الدلالة) و (الإرشاد).
وثانياً: إن كان دلّهم وأرشدهم فكيف خفي عليهم؟ وإن كان أخبر بخلافته إخبار راض بذلك حامد عليه، فلماذا أبوا عن بيعته أو نازعوه خلافته؟
وثالثاً: إن كان عزم على أن يكتب له بالخلافة، فما الذي منعه عن ذلك؟ ولماذا ترك؟ والخلافة أهمّ الأمور، وهو يعلم بأنه سيطلبها عدّة من الناس؟ وسيقع النزاع بينهم بل القتال حولها؟
ورابعاً: إن كان علمه بأن المسلمين يجتمعون عليه هو السبب في ترك الكتاب، فقد علم ـ وعلم الكلّ ـ بانتفاء هذا الإجتماع، حتى أن بعض المسلمين بقي على معارضته حتى آخر لحظة من حياته، فكان عليه أن يكتب، وإذ وجدناه لم يكتب، علمنا أنه لم يكن من عزمه ذلك.
وخامساً: إن كان قد ترك الكتاب اكتفاء بالإجماع كما زعم، فلماذا عزم على الكتاب مرّة أخرى في مرضه يوم الخميس؟
وسادساً: من أين علم هذا الرجل أن الذي أراد أن يكتبه يوم الخميس فحصل لبعضهم شك فيه… كان الوصية والنص على خلافة أبي بكر؟ ولماذا حصل لهم الشكّ؟ ولماذا حالَ عمر بن الخطاب ومن تبعه دون كتابة الوصية في حق أبي بكر، سواء كانت من جهة المرض أو هو قول يجب اتباعه، وأنت تدّعي إجماع القوم على خلافة أبي بكر ودلالة النبي صلّى اللّه عليه وآله المسلمين عليها؟
إن حديث القرطاس، وما كان يوم الخميس.. ذو شجون.. وسنتعرّض له في محلّه المناسب له، استناداً إلى أخبار القوم الموثوقة عندهم.
وسابعاً: قوله: «فلو كان التعيين قاطعاً للعذر…» إعتراف بعدم وجود البيان القاطع للعذر من رسول اللّه في خلافة أبي بكر.
وثامناً: إن ما روي عن أبي بكر وعمر وعائشة وغيرهم، والوجوه الدالّة على عدم النص والإستخلاف، مثل ما كان من علي وبني هاشم وأتباعهم، وما كان من سعد بن عبادة، دليل على أن التعيين ممّا يشتبه على الأمّة.. لكن النبي صلّى اللّه عليه وآله لم يبيّن البيان القاطع فيما زعم!
وتاسعاً: إنه وإن هوّن أمر نزاع الأنصار لكنّه ذكره، أمّا إباء علي وبني هاشم ومن تابعهم عن البيعة، فلم يذكره ولم يشر إليه أصلاً.
وعاشراً: إن كلمات هذا الرجل متهافتة، فهو من جهة ينفي وجود أيّة شبهة بين الأمّة في تعيين النبي صلّى اللّه عليه وآله أبا بكر، حتى أنه لم يجد حاجة إلى كتابة ذلك، ومن جهة، يعترف بأن سعد بن عبادة كان يطلب الولاية لنفسه، وأن جماعة من الأنصار طلبوا تولية غير أبي بكر، حتى أنه جعل يدفع هذا بقوله:
«ففي الجملة: جميع من نقل عنه من الأنصار من بني عبد مناف أنه طلب تولية غير أبي بكر لم يذكر حجّة دينيّة شرعيّة، ولا ذكر أن غير أبي بكر أحقّ بها وأفضل من أبي بكر، وإنما نشأ كلامه عن حبّ لقومه وقبيلته، وإرادة منه أن تكون الإمامة في قبيلته. ومعلوم أن مثل هذا ليس من الأدلّة الشرعيّة ولا الطرق الدينيّة، ولا هو ممّا أمر اللّه ورسوله المؤمنين باتّباعه، بل هو شعبة جاهليّة ونوع عصبيّة للأنساب والقبائل. وهذا مما بعث اللّه محمداً بهجره وإبطاله»(2).
قلت: وهل هذا إلا تفسيق لجماعة كبيرة من الصّحابة؟
هذا; ولا يخفى ما في هذا الكلام من الإقرار بأن الإمامة لا بدّ وأن تستند إلى حجّة دينيّة، وأنه يعتبر فيها الأحقيّة والأفضليّة.
ثم قال: «ومعلوم أن هذا العلم الذي عندهم بفضله وتقدّمه إنما استفادوه من النبي صلّى اللّه عليه وآله بأمور سمعوها وعاينوها، وحصل بها لهم من العلم ما علموا به أن الصدّيق أحقّ الأمّة بخلافة نبيّهم وأفضلهم عند نبيّهم، وأنه ليس فيهم من يشابهه حتى يحتاج في ذلك إلى مناظرة. ولم يقل أحد من الصحابة أن عمر بن الخطاب أو عثمان أو عليّاً أو غيرهم أفضل من أبي بكر أو أحقّ بالخلافة منه… .
حتى أن أعداء النبي صلّى اللّه عليه وآله من المشركين وأهل الكتاب والمنافقين يعلمون أن لأبي بكر من الاختصاص ما ليس لغيره، كما ذكره أبو سفيان بن حرب يوم أحد… حتى أني أعلم طائفة من حذّاق المنافقين ممن يقول أن النبي صلّى اللّه عليه وآله كان رجلاً عاقلاً أقام الرياسة بعقله وحذقه يقولون: إن أبا بكر كان مباطناً له على ذلك، يعلم أسراره على ذلك»(3).
أقول:
أوّلاً: إن كان هذا العلم موجوداً عندهم وحاصلاً لهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فلماذا لم يعملوا به؟ وخالفوه؟
وثانياً: نفيه قول أحد من الصحابة بأفضليّة غير أبي بكر منه، مردود بأن جماعة من كبار الصحابة قالوا بأفضليّة أمير المؤمنين عليه السلام منه ومن جميع الصحابة، نصّ على ذلك كبار الحفّاظ.
قال الحافظ ابن عبد البر: «وروي عن سلمان، وأبي ذر، والمقداد، وخباب، وجابر، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن أرقم أن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أوّل من أسلم، وفضّله هؤلاء على غيره»(4).
وقال: «اختلف السّلف أيضاً في تفضيل علي وأبي بكر»(5).
«وأمّا اختلاف السلف في تفضيل علي، فقد ذكر ابن أبي خيثمة في كتابه من ذلك ما فيه كفاية»(6).
وعزا ابن حزم القول بأنه أفضل الأمّة بعد النبي إلى (بعض أهل السنّة) و(بعض المعتزلة) و(بعض المرجئة) و(جميع الشيعة) و(جماعة من التابعين والفقهاء) قال: «وروينا عن نحو عشرين من الصحابة أن أكرم الناس على رسول اللّه علي ابن أبي طالب»(7).
وثالثاً: نفيه قول أحد من الصحابة بأحقيّة أحد بالخلافة من أبي بكر، مردود بقول جماعة من الأنصار بأحقيّة سعد بن عبادة، وقول بني هاشم وجماعة من المهاجرين والأنصار بأحقيّة علي عليه السلام… وكلّ ذلك مذكور في أخبار كيفيّة أخذ البيعة لأبي بكر.
ورابعاً: إستدلاله بقول أبي سفيان يوم أحد: «أفي القوم محمد… أفي القوم أبو بكر…» عجيب جدّاً، لأنه غير معلوم ثبوته، وإن عزا روايته إلى كتابي البخاري ومسلم، ولأنه ـ لو ثبت ـ قول كافر لا يدري معنى الفضيلة وما تثبت به الأفضليّة في الإسلام، كما أنا لا نعلم أنه على أيّ وجه قاله.
على أنّه قد نصّ في موضع من كتابه ـ كما سيأتي ـ بأنّ «الكافر لا يقبل قوله في دين المسلمين» فبين كلاميه في الموضعين تناقض ظاهر.
ثم إنه إن كان أبو سفيان يعتمد على قوله كافراً، فلماذا لا يعتمد على قوله حال إسلامه ظاهراً، فإن أبا سفيان كان من المعترضين على تولّي أبي بكر، حتى أنه جاء إلى أمير المؤمنين ليبايعه ويعاهده على النصرة، كما هو مذكور في كتب التاريخ.
وخامساً: إستناده إلى قول حذّاق المنافقين!! عجيب كذلك، ومن أين حصل له العلم بمقالة هؤلاء؟ وما العلاقة بينه وبين حذّاق المنافقين؟!

(1) منهاج السنة 1 / 516 ـ 519.
(2) منهاج السنّة 1 / 520.
(3) منهاج السنة 1 / 522 ـ 524.
(4) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 1090.
(5) نفس المصدر 3 / 1116.
(6) نفس المصدر 3 / 1117.
(7) الفصل في الأهواء والملل والنحل 4 / 111.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *