ردّ أحاديث نقصان القرآن

ردّ أحاديث نقصان القرآن:
وأمّا أحاديث نقصان القرآن، فالمعروف بينهم حملها على نسخ التلاوة، لئلاّ يلزم ضياع شيء من القرآن، ولا الطعن فيما أخرجه الشيخان وما رواه الأئمّة الأعيان، وقد ذكروا لها أيضاً وجوهاً من التأويل سنذكرها.
ولكن ـ مع ذلك ـ نجد فيهم من يطعن في بعض تلك الأحاديث، فعن ابن الأنباري في: «ابن آدم لو أُعطي وادياً»، ورواية عكرمة: «قرأ عليَّ عاصم (لَمْ يَكُنِ) ثلاثين آية هذا فيها»: «إنّ هذا باطل عند أهل العلم، لأنّ قراءتي ابن كثير وأبي عمرو متّصلتان بأُبَيّ بن كعب، لا يفرقان فيهما هذا المذكور في لم يكن»(1).
وقال بعضهم في «آية الحميّة»: «روي عن عطيّة بن قيس، عن أبي إدريس الخولاني: إنّ أبا الدرداء ركب إلى المدينة في نفر من أهل دمشق ومعه المصحف ليعرضوه على أُبَيّ بن كعب وزيد وغيرهما، فغدوا على عمر، فلمّا مرّوا بهذه الآية: إذ جعل الّذين كفروا في قلوبهم الحميّة… فقال عمر: ما هذه القراءة؟ فقالوا: أقرأنا أُبَيّ…، فهذه وما يشبهها أحاديث لم تشتهر بين نقلة الحديث، وإنّما يرغب فيها من يكتبها طلباً للغريب»(2).
وقال فيما ورد عن زرّ عن أُبَيّ بن كعب في عدد سورة الأحزاب(3): «يحمل ـ إنْ صحّ، لأنّ أهل النقل ضعّفوا سنده ـ على أنّ تفسيرها…(4).
وقال الطحاوي في «آية الرضاع»: «هذا ممّا لا نعلم أحداً رواه كما ذكرنا غير عبداللّه بن أبي بكر، وهو عندنا وهم منه، أعني ما فيه ممّا حكاه عن عائشة: أنّ رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ توفي وهنّ ممّآ يُقرأ من القرآن. لأنّ ذلك لو كان كذلك لكان كسائر القرآن، ولجاز أن يُقرأ به في الصّلوات، وحاشا للّه أن يكون كذلك، أو يكون قد بقي من القرآن ما ليس في المصاحف التي قامت بها الحجّة علينا… ونعوذ باللّه من هذا القول ممّن يقوله.
ولكن حقيقة هذا الحديث عندنا ـ واللّه أعلم ـ ما قد رواه من أهل العلم عن عمرة من مقداره في العلم وضبطه له فوق مقدار عبداللّه بن أبي بكر وهو القاسم بن محمد بن أبي بكر… فهذا الحديث أولى من الحديث الذي ذكرناه قبله… لأنّ محالاً أن تكون عائشة تعلم أن قد بقي من القرآن شيء لم يكتب في المصاحف، ولا تنبّه على ذلك من أغفله… .
وممّا يدلّ على فساد ما قد زاده عبداللّه بن أبي بكر على القاسم بن محمد ويحيى بن سعيد في هذا الحديث: أنّا لا نعلم أحداً من أئمّة أهل العلم روى هذا الحديث عن عبداللّه بن أبي بكر غير مالك بن أنس، ثمّ تركه مالك فلم يقل به وقال بضدّه، وذهب إلى أنّ قليل الرضاع وكثيره يحرّم. ولو كان ما في هذا الحديث صحيحاً أنّ ذلك في كتاب اللّه لكان ممّا تخالفه ولا يقول بغيره»(5).
وقال النحّاس بعد ذكر حديث آية الرضاع: «فتنازع العلماء هذا الحديث لما فيه من الإشكال، فمنهم من تركه وهو مالك بن أنس وهو راوي الحديث… وممّن تركه أحمد بن حنبل وأبو ثور… .
وفي الحديث لفظة شديدة الإشكال، وهو قولها: فتوفي رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ ، وهنّ ممّا يُقرأ في القرآن. فقال بعض أجلّة أصحاب الحديث: قد روى هذا الحديث رجلان جليلان أثبت من عبداللّه بن أبي بكر، فلم يذكرا أنّ هذا فيها، وهما: القاسم بن محمد بن أبي بكر، ويحيى بن سعيد الأنصاري. وممّن قال بهذا الحديث وأنّه لا يحرم إلاّ بخمس رضعات: الشافعي.
وأمّا القول في تأويل «وهنّ ممّا يُقرأ في القرآن» فقد ذكرنا ردّ من ردّه، ومن صحّحه قال: الذي يُقرأ من القرآن: (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ).
وأمّا قول من قال: إنّ هذا كان يُقرأ بعد رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وآله ـ فعظيم، لأنّه لو كان ممّا يُقرأ لكانت عائشة قد نبّهت عليه، ولكان قد نقل إلينا في المصاحف التي نقلها الجماعة الّذين لا يجوز عليهم الغلط. وقد قال اللّه تعالى: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ) وقال: (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ…) ولو كان بقي منه شيء لم يُنقل إلينا لجاز أن يكون ممّا لم ينقل ناسخاً لما نقل، فيبطل العلم بما نقل، ونعوذ باللّه من هذا فإنّه كفر»(6).
وقال السرخسي: «والدليل على بطلان هذا القول قوله تعالى: (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ)… وبه يتبيّن أنّه لا يجوز نسخ شيء منه بعد وفاته، وما ينقل من أخبار الآحاد شاذّ لا يكاد يصحّ شيء منها… وحديث عائشة لا يكاد يصحّ»(7).
وقال الزركشي في الكلام على آية الرضاع: «وحكى القاضي أبو بكر في الإنتصار عن قوم إنكار هذا القسم، لأنّ الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجّة فيها»(8).
وقال صاحب المنار: «وروي عنها أيضاً أنّها قالت: كان فيما نزل من القرآن: (عشر رضعات معلومات يحرّمن) ثمّ نسخن بـ(خمس رضعات معلومات يحرّمن) فتوفي النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وهي فيما يُقرأ من القرآن. وقد اختلف علماء السّلف والخلف في هذه المسألة… ورواية الخمس هي المعتمدة عن عائشة وعليها العمل عندها… قال الذاهبون إلى الإطلاق أو إلى التحريم بالثلاث فما فوقها: إنّ عائشة نقلت رواية الخمس نقل قرآن لا نقل حديث، فهي لم تثبت قرآناً، لأنّ القرآن لا يثبت إلاّ بالتواتر، ولم تثبت سُنّة فنجعلها بياناً للقرآن، ولابُدّ من القول بنسخها لئلاّ يلزم ضياع شيء من القرآن، وقد تكفّل اللّه بحفظه وانعقد الإجماع على عدم ضياع شيء منه، والأصل أن ينسخ المدلول بنسخ الدالّ إلاّ أن يثبت خلافه. وعمل عائشة به ليس حجّة على إثباته، وظاهر الرواية عنها أنّها لا تقول بنسخ تلاوته فيكون من هذا الباب.
ويزاد على ذلك أنّه لو صحّ أنّ ذلك كان قرآناً يُتلى، لما بقي علمه خاصّاً بعائشة، بل كانت الروايات تكثر فيه ويعمل به جماهير الناس ويحكم به الخلفاء الراشدون، وكلّ ذلك لم يكن، بل المرويّ عن رابع الخلفاء وأوّل الأئمّة الأصفياء القول بالإطلاق كما تقدّم. وإذا كان ابن مسعود قد قال بالخمس، فلا يبعد أنّه أخذ ذلك عنها، وأمّا عبداللّه بن الزبير فلا شك في أنّ قوله بذلك اتّباع لها، لأنّها خالته ومعلّمته، واتّباعه لها لا يزيد قولها قوّة ولا يجعله حجّة.
ثمّ إنّ الرواية عنها في ذلك مضطربة، فاللّفظ الذي أوردناه في أول السّياق رواه عنها مسلم كما تقدّم وكذا أبو داود والنسائي، وفي رواية لمسلم: نزل في القرآن عشر رضعات معلومات، فنسخ من ذلك خمس رضعات إلى خمس رضعات معلومات، فتوفي رسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ والأمر على ذلك. وفي رواية ابن ماجة: كان فيما أنزل اللّه ـ عزّ وجلّ ـ من القرآن ثمّ سقط: لا يحرّم إلاّ عشر رضعات أو خمس معلومات.
فهي لم تبيّن في شيء من هذه الروايات لفظ القرآن ولا السّورة التي كان فيها، إلاّ أن يراد برواية ابن ماجة أنّ ذلك لفظ القرآن… .
ـ ثمّ قال بعد إيراد تأويل قاله «الجامدون على الروايات من غير تمحيص» كما وصفهم ـ :
إنّ ردّ هذه الرواية عن عائشة لأهون من قبولها، مع عدم عمل جمهور من السّلف والخلف بها كما علمت. فإن لم نعتمد روايتها، فلنا أُسوة بمثل البخاري وبمن قالوا باضطرابها، خلافاً للنووي، وإن لم نعتمد معناها، فلنا أُسوة بمن ذكرنا من الصحابة والتابعين ومن تبعهم في ذلك كالحنفية. وهي عند مسلم من رواية عمرة عن عائشة. أوَ ليس ردّ رواية عمرة وعدم الثقة بها أولى من القول بنزول شيء من القرآن لا تظهر له حكمة ولا فائدة، ثمّ نسخه أو سقوطه أو ضياعه، فإنّ عمرة زعمت أنّ عائشة كانت ترى أنّ الخَمس لم تُنسخ؟! وإذاً لا نعتدّ بروايتها»(9).
وأبطل صاحب الفرقان الأحاديث الواردة في «الرضاع» و«الرجم» و«لو كان لابن آدم…» ونصّ على «دسّ الأباطيل في الصحاح»(10).
وقال بعض المعاصرين: «نحن نستبعد صدور مثل هذه الآثار عنهما بالرغم من ورودها في الكتب الصحاح… وفي بعض هذه الروايات جاءت بعض العبارات التي لا تتّفق ومكانة عمر ولا عائشة، ممّا يجعلنا نظمئنّ إلى اختلاقها ودسّها على المسلمين»(11).
وقال آخر في خبر ابن أشتة في المصاحف: «إنّ عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها زيد لأنّه كان وحده: «هذه الرواية مخالفة للمعقول والمنقول»(12).
وتنازع العلماء حديث إنكار ابن مسعود الفاتحة والمعوّذتين، ففي (الإتقان) عن الفخر الرازي: «نقل في بعض الكتب القديمة أنّ ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة والمعوّذتين من القرآن. وهو في غاية الصّعوبة، لأنّا إن قلنا: إنّ النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة يكون ذلك من القرآن، فإنكاره يوجب الكفر، وإن قلنا: لم يكن حاصلاً في ذلك الزمان فيلزم أنّ القرآن ليس بمتواتر في الأصل. قال: وإلاّ غلب على الظنّ أنّ نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل باطل، وبه يحصل الخلاص عن هذه العقدة».
قال السيوطي: «وكذا قال القاضي أبوبكر: لم يصح عنه أنّها ليست من القرآن ولا حُفظ عنه، وإنّما حكّها وأسقطها من مصحفه إنكاراً لكتابتها لا جحداً لكونها قرآناً… .
وقال النووي في شرح المهذّب: أجمع المسلمون على أنّ المعوّذتين والفاتحة من القرآن، وأنّ من جحد منها شيئاً كفر. وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح.
وقال ابن حزم في المحلّى: هذا كذب على ابن مسعود وموضوع، وإنّما صحّ عنه قراءة عاصم، عن زرّ، عنه; وفيها المعوّذتان والفاتحة».
قال السيوطي: «وقال ابن حجر في شرح البخاري: قد صحّ عن ابن مسعود إنكار ذلك، فأخرج أحمد وابن حبّان عنه: أنّه كان لا يكتب المعوّذتين في مصحفه. وأخرج عبداللّه بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن عبدالرحمن بن يزيد النخعي، قال: كان عبداللّه بن مسعود يحكّ المعوّذتين من مصاحفه ويقول: إنّهما ليستا من كتاب اللّه. وأخرج البزّار والطبراني من وجه آخر عنه أنّه: كان يحكّ المعوّذتين من المصحف ويقول: إنّما أمر النبي ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ أن يتعوّذ بهما وكان لا يقرأ بهما. أسانيده صحيحة. قال البزّار: لم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة، وقد صحّ أنّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ قرأ بهما في الصّلاة.
قال ابن حجر: فقول من قال: إنّه كُذِب عليه مردودٌ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يُقبل، بل الروايات صحيحة والتأويل محتمل»(13).
أقول: لكن لم نر من ابن حجر تأويلاً لهذه الأحاديث، فهو إحالة إلى غيره كما فعل بالنسبة إلى الأحاديث السابقة!!

(1) المصدر، الفصل الرابع: 85.
(2) المصدر، الفصل الرابع: 92.
(3) في لفظ رواية كتاب «مقدّمتان في علوم القرآن»: «الأعراف».
(4) مقدّمتان في علوم القرآن، الفصل الرابع: 82.
(5) مشكل الآثار، بيان مشكل ما روي أنه كان أنزل عشر رضعات يحرّمن، في القرآن، فنسخن بخمس رضعات: 3 / 7 و 8 .
(6) الناسخ والمنسوخ: 10 ـ 11.
(7) الأُصول، فصل في بيان وجوه النسخ 2 : 78.
(8) البرهان في علوم القرآن، النوع الرابع والثلاثون 2 : 39 ـ 40.
(9) المنار 4 : 471 ـ 474، سورة النساء، الآية 23.
(10) الفرقان: 157.
(11) النسخ في القرآن 1 : 283.
(12) الجواب المنيف في الردّ على مدّعي التحريف: 121.
(13) الإتقان في علوم القرآن، النوع الثاني والثالث، تنبيهات، الأول، 1 : 270 ـ 272.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *