احتجاج الإمام موسى بن جعفر

احتجاج الإمام موسى بن جعفر
روى يعقوب بن جعفر الجعفري عن أبي إبراهيم موسى عليه السّلام قال: «ذكر عنده قوم زعموا أن الله تبارك وتعالى ينزل الى السماء الدنيا(1) فقال: ان الله لا ينزل ولا يحتاج أن ينزل انما منظره في القرب والبعد سواء، لم يبعد منه بعيد ولا يقرب منه قريب، ولم يحتج الى شيء بل يحتاج اليه كل شيء، وهو ذو الطّول لا اله الاّ هو العزيز الحكيم.
أما قول الواصفين انه ينزل تبارك وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، فانما يقول ذلك من ينسبه الى نقص أو زيادة، وكل متحرك يحتاج الى من يحركه أو يتحرك به فمن ظن بالله الظنون فقد هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حدّ تحدونه بنقص أو زيادة، أو تحريك أو تحرك، زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود، فان الله جل وعز عن صفة الواصفين ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين»(2).
قال الطبرسي: «روى أنه دخل أبو حنيفة المدينة ومعه عبد الله بن مسلم فقال له: يا أبا حنيفة ان ها هنا جعفر بن محمّد من علماء آل محمّد فاذهب بنا اليه نقتبس منه علماً، فلما أتيا إذا هما بجماعة من علماء شيعته ينتظرون خروجه أو دخولهم عليه، فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث فقام الناس هيبة له فالتفت أبو حنيفة فقال: يا ابن مسلم، من هذا؟
قال: موسى ابنه، قال: والله أخجله بين يدي شيعته.
قال له: لن تقدر على ذلك.
قال: والله لأفعلنه، ثم التفت الى موسى فقال: يا غلام أين يضع الغريب في بلدتكم هذه؟ قال: يتوارى خلف الجدار ويتوقى أعين الجار وشطوط الأنهار، ومسقط الثمار ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها، فحينئذ يضع حيث شاء.
ثم قال: يا غلام ممن المعصية؟
قال: يا شيخ لا تخلو من ثلاث: اما أن تكون من الله وليس من العبد شيء، فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما لم يفعله.
واما أن تكون من العبد ومن الله، والله أقوى الشريكين، فليس للشريك الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه.
واما أن تكون من العبد وليس من الله شيء، فان شاء عفى وان شاء عاقب.
قال: فأصابت أبا حنيفة سكتة كأنما ألقم فوه الحجر، قال: فقلت له: ألم أقل لك لا تتعرض لأولاد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم»(3).
روى أبو أحمد هاني بن محمّد العبدي، قال: «حدثني أبو محمّد رفعه إلى موسى بن جعفر عليه السّلام قال: لما أدخلت على الرشيد سلمت عليه فرد علي السلام ثم قال: يا موسى بن جعفر خليفتان يجبى اليهما الخراج؟ فقلت: يا أميرالمؤمنين أعيذك بالله أن تبوء باثمي واثمك فتقبل الباطل من اعدائنا علينا، فقد علمت بأنه قد كذب علينا منذ قبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أما علم ذلك عندك؟ فان رأيت بقرابتك من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن تأذن لي أحدثك بحديث أخبرني به أبي عن آبائه عن جدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: قد أذنت لك، فقلت: أخبرني أبي عن آبائه عن جدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: ان الرحم إذا مست الرحم تحركت واضطربت، فناولني يدك جعلني الله فداك . قال: ادن مني، فدنوت منه، فأخذ بيدي ثم جذبني الى نفسه وعانقني طويلا ثم تركني وقال: اجلس يا موسى، فليس عليك بأس، فنظرت اليه فإذا به قد دمعت عيناه، فرجعت الى نفسي فقال: صدقت وصدق جدك صلّى الله عليه وآله وسلّم، لقد تحرك دمي واضطربت عروقي حتى غلبت علي الرّقة وفاضت عيناي وأنا أريد أن أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين لم أسأل عنها أحداً، فان أنت أجبتني عنها خليت عندك ولم أقبل قول أحد فيك، وقد بلغني أنّك لم تكذب قط، فاصدقني فيما اسألك ما في قلبي، فقلت: ما كان علمه عندي فاني مخبرك به ان أنت أمنتني.
قال: لك الأمان ان صدقتني وتركت التقية التي تعرفون بها معاشر بني فاطمة، فقلت: ليسأل أميرالمؤمنين عمّا يشاء.
قال: أخبرني لم فضلّتم علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة، وبنو عبد المطلب ونحن وأنتم واحد، إنا بنو عباس وأنتم ولد أبي طالب، وهما عمّا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقرابتهما منه سواء؟.
فقلت: نحن أقرب قال: وكيف ذاك؟ قلت: لأن عبد الله وأبا طالب لأب وأمّ، وأبوكم العباس ليس هو من أم عبد الله ولا من أم أبي طالب.
قال: فلم ادعيتم أنكم ورثتم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والعم يحجب ابن العم، وقبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد توفي أبو طالب قبله والعباس عمّه حي؟ فقلت له: ان رأى أميرالمؤمنين أن يعفيني عن هذه المسألة ويسألني عن كل باب سواه يريده فقال: لا أو تجيب.
فقلت: فآمني، قال: امنتك قبل الكلام. فقلت: ان في قول علي بن أبي طالب عليه السّلام: أنه ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو انثى لأحد سهم الأبوين والزوج والزوجة. ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنة، الاّ أن تيماً وعدياً وبني امية قالوا: العم والد، رأياً منهم بلا حقيق ولا أثر عن رسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن قال بقول علي من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن درّاج يقول في هذه المسألة بقول علي وقد حكم به، وقد ولاه أميرالمؤمنين المصرين الكوفة والبصرة وقضى به، فاُنهي الى أمير المؤمنين فأمر باحضاره واحضار من يقول بخلاف قوله، منهم: سفيان الثوري وإبراهيم المازني والفضيل بن عياض، فشهدوا أنه قول علي عليه السّلام في هذه المسألة، فقال لهم فيما بلغني بعض العلماء من أهل الحجاز: لم لا تفتون وقد قضى نوح بن دراج؟ فقالوا جسر وجبنّا، وقد أمضى أميرالمؤمنين قضية بقول قدماء العامة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «أقضاكم علي» وكذلك عمر بن الخطاب قال: «عليٌّ أقضانا» وهو اسم جامع، لأن جميع ما مدح به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه من القرابة والفرائض والعلم داخلٌ في القضاء.
قال: زدني يا موسى، قلت: المجالس بالأمانات وخاصة مجلسك فقال: لا بأس به.
فقلت: ان النبي لم يورث من لم يهاجر ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر فقال: ما حجتك فيه؟ قلت: قول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْء حَتَّى يُهَاجِرُواْ)(4) وان عمي العبّاس لم يهاجر.
فقال لي: اني أسألك يا موسى، هل أفتيت بذلك أحداً من أعدائنا أو أخبرت أحداً من الفقهاء في هذه المسألة بشيء؟ فقلت: اللهم لا، وما سألني عنها الا أميرالمؤمنين.
ثم قال لي: جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم الى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ويقولوا لكم: يا بني رسول الله وأنتم بنو علي، وانما ينسب المرء الى أبيه وفاطمة انما هي وعاء والنبي جدكم من قبل أمكم؟ فقلت: يا أميرالمؤمنين، لو أن النبي نشر فخطب اليك كريمتك هل كنت تجيبه؟
قال: سبحان الله ولم لا اُجيبه؟ بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.
فقلت له: لكنه لا يخطب الي ولا أزوجه فقال: ولم؟ فقلت: لأنه ولدني ولم يلدك، فقال: أحسنت يا موسى، ثم قال: كيف قلتم: انا ذرية النبي والنبي لم يعقب؟ وانما العقب الذكر لا الاُنثى، وانتم ولد الابنة ولا يكون ولدها عقباً له. فقلت: اسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه الاّ اعفيتني عن هذه المسألة.
فقال: لا أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي، وأنت يا موسى يعسوبهم وامام زمانهم، كذا أنهي الي، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، وأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شيء ألف ولا واو الاّ وتأويله عندكم واحتججتم بقوله عزّوجل: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء)(5) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم.
فقلت: تأذن في الجواب؟ قال: هات.
فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرّحمن الرّحيم، (وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيَْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ)(6) من أبو عيسى يا أميرالمؤمنين؟ فقال: ليس لعيسى أبٌ. فقلت: انما ألحقناه بذراري الأنبياء من طريق مريم، وكذلك ألحقنا بذراري النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من قبل اُمّنا فاطمة، ازيدك يا أميرالمؤمنين؟ قال: هات.
قلت: قول الله عزّوجل: (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)(7) ولم يدّع أحد أنه أدخله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تحت الكساء عند مباهلة النصارى الاّ علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين، أبناؤنا: الحسن والحسين، ونساؤنا: فاطمة، وأنفسنا: علي بن أبي طالب عليه السّلام، على أن العلماء قد أجمعوا على أن جبرئيل قال يوم أحد: يا محمّد ان هذه لهي المواساة من علي قال: لأنه منّي وأنا منه، فقال جبرئيل، وأنا منكما يا رسول الله ثم قال: لا سيف الاّ ذو الفقار ولا فتى الاّ علي، فكان كما مدح الله عزّوجل به خليله عليه السّلام اذ يقول: (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)(8) إنا نفتخر بقول جبرئيل: انه منا. فقال: أحسنت يا موسى! إرفع الينا حوائجك.
فقلت له: ان أول حاجة لي أن تأذن لابن عمك أن يرجع الى حرم جده وإلى عياله، فقال: ننظر ان شاء الله»(9).

(1) قال ابن بطوطة: «كنت بدمشق يوم الجمعة، وكان من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم فكان من جملة كلامه ان قال: ان الله ينزل الى السماء الدنيا كنزولي هذا، ونزل درجةً من درج المنبر، فعارضه فقيه مالكي يعرف بأبي الزهراء الخ». رحلة ابن بطوطة ج1 ص57 طبع مصر سنة 1382.
(2) الاحتجاج للطبرسي ج2 ص386.
(3) المصدر ص387.
(4) سورة الانفال: 72.
(5) سورة الأنعام: 38.
(6) سورة الأنعام: 84 و85.
(7) سورة آل عمران: 61.
(8) سورة الانبياء: 60.
(9) الاحتجاج للطبرسي ج2 ص389.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *