من الإمام؟

من الإمام؟
ماذا يقول القائل في امامة علي بن أبي طالب عليه السّلام وشخصيّته وعظمته وكيف يستطيع أحدٌ احصاء فضائل من هو مصداق لكلمات الله التي لا تنفد بحكم القرآن والحديث قال تعالى: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)(1) (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الاَْرْضِ مِن شَجَرَة أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(2).
وقال في حقه الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)(3): «لو أن البحر مداد، والغياض أقلام، والإنس كتاب، والجن حسّاب، ما أحصوا فضائلك يا أبا الحسن».
لقد قدمنا في سائر الأبواب والفصول مناقب الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام وفضائله، حسبما ورد من تأويل الآيات القرآنية والأحاديث، وحسب اعتراف الصحابة والتابعين وأقوال العلماء، ولما كان الباب التاسع والثلاثون معقوداً للأئمة الاثني عشر أوصياء رسول الله، فعلينا أن نتعرف على شروط الإمام ومنزلة، وأهمية الإمام في هداية المسلمين واستنارتهم بنور الدين والأحكام.
ونحن مدعوون الى الرجوع إلى أهل الذكر كما قال تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)(4) لنتعرف على من له الأهلية لتصدي إمامة المسلمين والقيام بهذا المنصب الخطير، كي لا تكون الإمامة تشهياً من أهل الهوى وعبدة الجاه.
وخير ما يدلنا على شروط الإمام وخصائص الإمامة هو الحديث الوارد عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه آلاف التحية والثناء، فقد روى الكليني باسناده، عن عبد العزيز بن مسلم، قال: «كنا مع الرضا بمرو، فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأداروا أمر الإمامة، وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها فدخلت على سيدي عليه السّلام فأعلمته خوض الناس فيه، فتبسم عليه السّلام، ثم قال: يا عبد العزيز بن مسلم، جهل القوم وخدعوا عن آرائهم، ان الله عزّوجل لم يقبض نبيه حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تبيان كلّ شيء. بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام، وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا، فقال عزّوجل: (مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء)(5) وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمره صلّى الله عليه وآله وسلّم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)(6). وأمر الإمامة من تمام الدين.
ولم يمض حتى بين لأمته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحق، وأقام لهم علياً علماً وإماماً وما ترك لهم شيئاً تحتاج إليه الأمة الاّ بيّنه، فمن زعم ان الله عزّوجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله فهو كافر به.
هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم، إن الإمامة أجل قدراً، وأعظم شأناً، وأعلى مكاناً، وأمنع جانباً، وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماماً باختيارهم، إن الإمامة خصّ الله عزّوجل بها إبراهيم الخليل بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثةً وفضيلة شرفه بها وأشاد بها ذكره، فقال: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) فقال الخليل عليه السّلام سروراً بها: (وَمِن ذُرِّيَّتِي) قال الله تبارك وتعالى: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(7) فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة، ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطارة فقال: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)(8) فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً حتى ورثها الله تعالى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال جلّ وتعالى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(9) فكانت له خاصة فقلدها صلّى الله عليه وآله وسلّم علياً عليه السّلام بأمر الله تعالى على رسم ما فرض الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والأيمان بقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالاِْيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ)(10) فهي في ولد علي عليه السّلام خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟ ان الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إن الإمامة خلافة الله وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين عليه السّلام وميراث الحسن والحسين عليهما السّلام.
إن الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، إن الإمامة أسّ الإسلام النامي وفرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وامضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف. الإمام يحل حلال الله ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله ويذبّ عن دين الله ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة.
الإمام: كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم، وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار.
الإمام: البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدُجى، وأجواز البلدان(11) والقفار ولجج البحار.
الإمام: الماء العذب على الظمأ؛ والدال على الهدى، والمنجي من الردى، الإمام النار على اليفاع(12) الحار لمن اصطلى به، والدليل في المهالك، من فارقه فهالك.
الإمام: السحاب الماطر والغيث الهاطل(13) والشمس المضيئة، والسماء الظليلة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة، والغدير والروضة.
الإمام: الأنيس الرفيق، والوالد الشفيق، والأخ الشقيق، والأم البرة بالولد الصغير، ومفزع العباد في الداهية النآد(14).
الإمام: أمين الله في خلقه وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله والذاب عن حرم الله.
الإمام: المطهر من الذنوب، والمبرى عن العيوب، المخصوص بالعلم، الموسوم بالحلم، نظام الدين وعز المسلمين، وغيظ المنافقين، وبوار الكافرين.
الإمام: واحد دهره، لا يدانيه أحدٌ، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل، ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب، بل اختصاص من المفضّل الوهّاب، فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختيارهُ، هيهات هيهات! ضلت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب وخسئت(15) العيون، وتصاغرت العظماء وتحيرت الحكماء وتقاصرت الحلماء، وحصرت الخطباء، وجهلت الألبّاء، وكلّت الشعراء، وعجزت الأدباء وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله، وأقرّت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكله، أو ينعت بكنهه، أو يفهم شيء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه، ويغنى غناه؟ لا! كيف وأنى؟ وهو بحيث النجم من يد المتناولين ووصف الواصفين فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟ أتظنون أن ذلك يوجد في غير آل الرسول محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ كذبتهم والله أنفسهم ومنتهم الأباطيل(16) فارتقوا مرتقى صعباً دحضاً تزل عنه إلى الحضيض اقدامُهُم، راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة وآراء مضلة، فلم يزدادوا منه إلاّ بعداً (قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(17)(18) ولقد راموا صعباً وقالوا إفكاً وضلّوا ضلالا بعيداً، ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام عن بصيرة، (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)(19) رغبوا عن اختيار الله واختيار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل بيته الى اختيارهم والقرآن يناديهم: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(20) وقال عزّوجل: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(21) وقال: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا يَتَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَادِقِينَ)(22) وقال عزّوجل: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا)(23) أم (طُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ)(24) أم (قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لاَّسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ)(25) أم (قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)(26) بل هو (فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(27) فكيف لهم باختيار الإمام؟ والإمام عالم لا يجهل وراع لا ينكل، معدن القدس والطهارة، والنسك والزهادة، والعلم والعبادة. مخصوص بدعوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونسل المطهرة البتول، لا مغمز فيه في نسب ولا يدانيه ذو حسب في البيت من قريش والذروة من هاشم، والعترة من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والرضا من الله عزّوجلّ شرف الأشراف والفرع من عبد مناف، نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله عزّوجل، ناصح لعباد الله، حافظ لدين الله. ان الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى: (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(28)، وقوله تبارك وتعالى: (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)(29) وقوله في طالوت: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(30) وقال لنبيّه (وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(31)، وقال في الأئمة من أهل بيت نبيه وعترته وذريته صلوات الله عليهم: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً * فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً)(32) وان العبد إذا اختارهُ الله عزّوجل لأمور عباده شرح صدره لذلك وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاماً، فلم يعي بعده بجواب ولا يحيد فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيد موفق مسددٌ قد أمن من الخطايا والزلل والعثار، يخصّه الله بذلك ليكون حجته البالغة على عباده وشاهده على خلقه (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(33) فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه، أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه؟ تعدّوا وبيت الله الحق ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، وفي كتاب الله الهدى والشفاء فنبذوه واتبعوا أهواءهم فذمّهم الله ومقتهم وأتعسهم، فقال جل وتعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(34) وقال: (فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)(35) وقال: (كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّر جَبَّار)(36) وصلى الله على النبي محمّد وآله وسلّم تسليماً كثيراً»(37).
قال القندوزي: «وفي عيون الأخبار عن أبي الصلت الهروي قال الإمام علي الرضا بن موسى الكاظم: الإمام وحيد دهره لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل، ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له، ولا اكتساب بل اختصاص من المفضل الوهاب، فمن ذا الذي يبلغ معرفة حقيقة الإمام؟ ويمكنه اختياره؟ هيهات، ضلت العقول وتاهت الحلوم وتصاغرت العظماء وتقاصرت الحكماء وعميت البلغاء عن وصف شأن من شؤونه أو فضيلة من فضائله، كيف يوصف أو ينعت بكنهه، أو يفهم شيء من أمره؟ فأين الاختيار من هذا؟ وأين إدراك العقول من هذا واين يوجد مثل هذا(38).
قال العلامة الحلي: «أجمعت الإثنا عشرية بأن نصب الإمامة لطف، واللطف واجب فالإمامة واجبة، بيان الصغرى: أنا نعلم بالضرورة أن الناس متى كان لهم رئيس قاهر يمنعهم من المحرمات ويزجرهم عنها ويأمرهم بالواجبات ويرغبهم فيها، كانوا من الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد، وأما الكبرى فلأن اللطف كالتمكين، فان من دعا غيره إلى طعام وعلم أنه لا يجيبه إلاّ إذا فعل معه نوعاً من التأدب فلو لم يفعله كان ناقضاً لغرضه.
واحتجوا على أن طريق معرفته النص الجلي خاصة، بأن الإمام يجب أن يكون معصوماً من الصغائر والكبائر، وإلا لزم التسلسل، لأن المقتضي للحاجة إلى الإمام جواز الخطأ على الأمة، فلو جاز الخطأ عليه افتقر إلى إمام آخر وحافظ للشرع، ولأنه لو ارتكب الخطأ وجب الإنكار عليه فيسقط محله من القلوب، ولأنه إن لم يجب اتباعه فيه انتفت فايدة نصبه، وإلا لزم وجوب الحرام. والعصمة من الأمور الباطنة التي لا يعلمها إلاّ الله تعالى، فلا طريق إلى معرفة الإمام سوى النص منه.
وأما الجمهور فلم يشترطوا العصمة، لأن أبا بكر كان إماماً ولم يكن معصوماً، بل ولم يشترطوا عصمة الأنبياء وجعلوا طريقة الإمامة هو البيعة من أهل الحل والعقد، لانتفاء الوجوب على الله تعالى فيجب على الخلق، ومنعت الامامية من ذلك لأن أبا بكر لم يكن عندهم إماماً فلا يحتج عليهم في عدم اعتبار العصمة بإمامته، والبيعة ليست طريقاً للإمامة لعدم العلم بالمعصوم إلاّ من قبله تعالى، ولأن الإمام نائب لله تعالى ولرسوله ونيابة الغير إنما تحصل بإذنه فلا تثبت الإمامة إلاّ بنص من الله تعالى ورسوله، ولأن الإمام أعلم الخلق وأفضلهم وأزهدهم، لامتناع المساواة وإلا لزم الترجيح من غير مرجح، والنقصان لامتناع تقديم المفضول على الفاضل لقبحه عقلا ولا يطلع على هذه الصفات إلاّ الله تعالى، ولأن الخلق يعجز عن نصب أمير وقاض فعجزهم عن نصب الرئيس العام أولى فلا يجوز أن يناط بهم نصبه، ولأن ذلك يفضي إلى وقوع الفتن والهرج والمرج لرغبة أهل كل بلد إلى نصب إمام منهم، وإنما نصب لدفع ذلك»(39).

(1) سورة الكهف: 109.
(2) سورة لقمان: 27.
(3) سورة النجم: 3.
(4) سورة النحل: 43، وسورة الانبياء: 7.
(5) سورة الأنعام: 38.
(6) سورة المائدة:.
(7) سورة البقرة: 124.
(8) سورة الأنبياء: 72، 73.
(9) سورة آل عمران: 68.
(10) سورة الروم: 56.
(11) الغيهب: الظلمة وشدة السواد، وأجواز: جمع الجوز، وهو من كلّ شيء وسطه.
(12) اليفاع: ما ارتفع من الأرض.
(13) الهاطل: المطر المتتابع العظيم القطر.
(14) الداهية: الأمر العظيم، والنآد ـ كسحاب ـ بمعناها.
(15) الحلوم كالألباب: العقول. وضلّت وتاهت وحارت متقاربة المعاني، وخسئت أي كلّت.
(16) أي أوقعت في انفسهم الأماني الباطلة أو أضعفتهم.
(17) سورة التوبة: 30.
(18) هذا على رواية الصفواني كما أشار إليه المجلسي.
(19) سورة العنكبوت: 38.
(20) سورة القصص: 68.
(21) سورة الأحزاب: 36.
(22) سورة القلم: 36ـ41.
(23) سورة محمّد: 24.
(24) سورة التوبة: 87.
(25) سورة الأنفال: 21ـ23.
(26 و9) سورة البقرة: 93.
(28) سورة يونس: 35.
(29) سورة البقرة: 269.
(30 و4) سورة النساء: 113.
(32) سورة النساء: 54ـ55.
(33) سورة الحديد: 21 والجمعة: 4.
(34) سورة القصص: 50.
(35) سورة محمّد: 8.
(36) سورة غافر: 35.
(37) الكافي كتاب الحجّة، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته ج1 ص154 من الطبعة المشكولة.
(38) ينابيع المودة: 24.
(39) كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد ص78.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *