علّيٌ فدى نفسه ليلة الهجرة

علّيٌ فدى نفسه ليلة الهجرة
روى أحمد بأسناده عن ابن عبّاس في قوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ)(1)قال: «تشاورت قريش ليلا بمكّة فقال بعضهم: إذا اصبح فاثبتوه بالوثاق، يريدون النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم. وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل اخرجوه، فاطلع الله عزّوجلّ نبّيه على ذلك، فبات عليّ عليه السّلام على فراش النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تلك الليلة وخرج النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليّاً يحسبونه النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلمّا اصبحوا ثاروا إليه، فلمّا رأوا عليّاً ردّ الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا: قال: لا أدري فاقتصّوا اثره، فلمّا بلغوا الجبل خُلّط عليهم فصعدوا في الجبل، فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه ثلاث ليال»(2).
وروى الخوارزمي بأسناده عن ابن عبّاس: «وشرى علي عليه السّلام نفسه، فلبس ثوب النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ثم نام مكانه، قال ابن عبّاس: وكان المشركون يرمون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فجاء أبو بكر وعليّ عليه السّلام نائم وأبو بكر يحسب أنّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: فقال له علي عليه السّلام: انّ نبي الله قد انطلق نحو بئر امّ ميمون فأدركه، فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار، قال: وجعل علي عليه السّلام يُرمى بحجارة كما كان يرمى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو يتضّور وقد لفّ رأسه في الثّوب لا يخرجه حتّى اصبح ثمّ كشف عن رأسه، فقالوا: انّك لئيم وكان صاحبك لا يتضوّر ونحن نرميه وانت تتضّور وقد استنكرنا ذلك»(3).
وروى الحمويني باسناده عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: «انّ اوّل من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، قال علّي عند مبيته على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى *** ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إله خاف ان يمكروا به *** فنجاه ذو الطّول الإله من المكر
وبات رسول الله في الغار آمناً *** موّقى وفي حفظ الإله وفي ستر
وبت اُراعيهم وما يثبتونني *** وقد وطنت نفسي على القتل والاسر(4)
وروى الطّبري بسنده عن ابن عبَّاس، قال: «لمّا اجتمعوا لذلك واتّعدوا أن يدخلوا دار النّدوة ويتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم غدوا في اليوم الّذي اتّعدوا له، وكان ذلك اليوم يسمى الزّحمة، فاعترضهم ابليس في هيئة شيخ جليل عليه بتّ(5)له فوقف على باب الدّار، فلمّا رأوه واقفاً على بابها قالوا: من الشّيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى الاّ يعدمكم منه رأي ونصح قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم، وقد اجتمع فيها اشراف قريش كلهّم من كلّ قبيلة من بني عبد شمس شيبة وعتبة ابنا ربيعة، وابو سفيان بن حرب، ومن بني نوفل بن عبد مناف طعيمة بن عدي وجبير بن مطعم والحارث بن عامر بن نوفل، ومن بني عبد الدّار بن قصي النضر بن الحارث بن كلدة ومن بني اسد بن عبد العزّى أبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود بن المطلّب وحكيم بن حزام ومن بني مخزوم أبو جهل بن هشام، ومن بني سهم نبيه ومنبه ابنا الحجّاج، ومن بني جمع اميّة بن خلف، ومن كان معهم وغيرهم ممّن لا يعد من قريش، فقال بعضهم لبعض: ان هذا الرّجل قد كان من أمره ما قد كان وما قد رأيتم، وأنّا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتّبعه من غيرنا، فاجمعوا فيه رأياً، قال: فتشاوروا ثمّ قال قائل منهم: احبسوه في الحديد واغلقوا عليه باباً، ثمّ تربصوا به ما اصاب أشباهه من الشعراء الذّين قبله: زهيراً، والنّابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه منه ما اصابهم قال: فقال الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله لو حبستموه ـ كما تقولون ـ لخرج أمره من وراء الباب الّذي اغلقتموه دونه إلى اصحابه فلأوشكوا ان يثبوا عليكم فينتزعوه من ايديكم، ثمّ يكاثروكم حتّى يغلبوكم على أمركم هذا، ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره.
ثمّ تشاوروا، فقال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلدنا فإذا خرج عنّا فو الله ما نبالي اين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. قال الشّيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنت ان يحلّ على حيّ من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتّى يتابعوه عليه ثمّ يسير بهم اليكم حتّى يطأكم بهم، فيأخذ أمركم من أيديكم ثمّ يفعل بكم ما أراد، اديروا فيه رأياً غير هذا.
قال: فقال أبو جهل بن هشام: والله انّ لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد، قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن تأخذوا من كلّ قبيلة فتىً شابّاً جلداً، نسيباً وسيطاً فينا، ثمّ نعطي كلّ فتى منهم سيفاً صارماً، ثمّ يعمدون إليه، ثمّ يضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه، فنستريح، فانّهم إذا فعلوا ذلك تفرّق دمه في القبائل كلّها، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، ورضوا منّا بالعقل فعقلناه لهم، قال: فقال الشيخ النجدىِّ: القول ما قال الرّجل، هذا الرأي لا رأي لكم غيره. فتفّرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.
فأتى جبريل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الّذي كنت تبيت عليه! قال: فلمّا كان العتمة من الليل، اجتمعوا على بابه فترصّدوه متى ينام فيثبون عليه، فلمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مكانهم، قال لعلي بن أبي طالب: نم على فراشي، واتّشح ببردي الحضرمي الأخضر فنم فانّه لا يخلص اليك شيء تكرهه منهم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ينام في برده ذلك إذا نام… وخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخذ حفنة من تراب، وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس (يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاط مُّسْتَقِيم)(6) إلى قوله: (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ)(7) حتّى فرغ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من هؤلاء الآيات فلم يبق منهم رجل الاّ وقد وضع على رأسه تراباً، ثمّ انصرف إلى حيث أراد أن يذهب فأتاهم آت ممّن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون ها هنا؟ قالوا محمّداً، قال: خيّبكم الله، قد والله خرج عليكم محمّد ثمّ ما ترك منكم رجلا الاّ وقد وضع على رأسه تراباً وانطلق لحاجته، أما ترون ما بكم؟ قال: فوضع كلّ رجل منهم يده على رأسه، فاذا عليه تراب، ثمّ جعلوا يطّلعون فيرون عليّاً على الفراش متشحاً ببرد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقولون: والله انّ هذا لمحمّد نائم عليه بُرده، فلم يبرحوا كذلك حتّى اصبحوا، فقام علي عن الفراش، قالوا: والله لقد صدقنا الّذي كان حدّثنا فكان ممّا نزل من القرآن في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)(8) وقول الله عزّوجلّ: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ)(9)… واصبح الرّهط الذين كانوا يرصدون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فدخلوا الدّار وقام علي عليه السّلام عن فراشه، فلمّا دنوا منه عرفوه فقالوا له: أين صاحبك؟ قال: لا ادري أو رقيباً كنت عليه؟ أمرتموه بالخروج فخرج، فانتهروه وضربوه واخرجوه إلى المسجد، فحبسوه ساعة ثمّ تركوه، ونجّى الله رسوله من مكرهم وأنزل عليه في ذلك: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)»(10).
وروى ابن عساكر بأسناده عن ابن عبّاس، قال: «بات علي ليلة خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المشركين على فراشه ليعمي على قريش وفيه نزلت هذه الآية: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ)(11)»(12).
وقال الشّبلنجي: «فمن شجاعته نومه على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما امره بذلك وقد اجتمعت قريش على قتل النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يكترث علي رضي الله عنه بهم، قال بعض اصحاب الحديث: أوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل ان انزلا إلى علي و احرساه في هذه اللّيلة إلى الصباح، فنزلا إليه وهم يقولون: بخّ بخّ من مثلك يا علي؟ قد باهى الله بك ملائكته.
وأورد الإمام الغزالي في كتابه احياء العلوم: انّ ليلة بات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل: انّي آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة وأحبّاها، فأوحى الله اليهما: أفلا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمّد، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا الأرض فاحفظاه من عدوّه، فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ينادي ويقول: بخّ بخّ من مثلك يا ابن أبي طالب؟ يباهي الله بك الملائكة، فأنزل الله عزّوجلّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ)(13) وفي تلك الليلة أنشأ علّي رضي الله عنه:
وقيت بنفسي خير من وطأ الحصى *** وأكرم خلق طاف بالبيت والحجر
وبتّ اراعي منهم ما يسوءني *** وقد صبرت نفسي على القتل والاسر
وبات رسول الله في الغار آمناً *** وما زال في حفظ الإله وفي السّتر(14)
أقول:
قال الخليلي: «وقد اجمع على رواية ذلك الخبر أجل علماء السّنة واعلمهم كالإمام أحمد في مسنده ومحمّد بن جرير بطرق مختلفة، وابن سبع المغربي في شفاء الصّدور، والطّبراني في الاوسط والكبير، وابن الأثير في أسد الغابة ج4 ص25، وابن الصّباغ المالكي في الفصول المهمّة ص33، والثّعلبي والنيسابوري والفخر الرّازي والسيوطي في تفاسيرهم، وأبي نعيم الاصفهاني في ما نزل من القرآن في علّي، والخطيب الخوارزمي في المناقب، والحمويني في الفرائد والكنجي في كفاية الطّالب وابن هشام في سيرة النّبي، والحافظ محدّث الشّام في الأربعين الطّوال، والإمام الغزالي في احياء العلوم ج3 ص223 وأبي السّعادات في فضائل العترة الطاهرة، وابن أبي الحديد في الشّرح، وسبط ابن الجوزي في تذكرة خواص الأمة والشّيخ سليمان البلخي الحنفي في ينابيع المودّه»(15).
فهذه جملة من الأعاظم من أهل السنّة وتلك روايات بعضهم…
ثم إنّ الفداء والفدى، قال الجوهري في الصحاح: «الفداء إذا كسر أول يمدّ ويقصر، وإذا فتح فهو مقصور، يقال: قم فدى لك أبي… وفداه بنفسه، وفدّاه تفدية إذا قال له: جعلت فداءك.
فيكون المراد بالفداء: التعظيم والإكبار، لأن الانسان لا يفدي الاّ من يعظمه فيبذل نفسه له(16).
وقال الرّاغب الاصبهاني: «حفظ الانسان عن النائبة بما يبذله عنه… يقال فديته بمال وفديته بنفسي وفاديته بكذا(17) وهو إقامة شيء مقام شيء في دفع المكروه»(18).
وإذ كان عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يعرف مقام النّبي عند الله، كان يعظّمه ويبجله ويفديه بالنفس والنفيس، ومن ذلك مبيته مكان الرّسول في الشّعب وليلة المبيت كي يدفع عنه المكروه.

(1) سورة الأنفال : 30 .
(2) مسند أحمد ج1 ص348.
(3) المناقب، الفصل الثاني عشر ص73، ورواه النسائي في الخصائص ص9.
(4) فرائد السمطين ج1 ص330.
(5) البّت: الكساء الغليظ.
(6) سورة يس: 1ـ4.
(7) سورة يس: 9.
(8) سورة الانفال: 30.
(9) سورة الطّور: 30 و31.
(10) تاريخ الطبري ج2 ص370ـ374 طبعة دار المعارف بمصر.
(11) سورة البقرة: 207.
(12) ترجمة الامام علّي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق ج1 ص137، الحديث 187.
(13) سورة البقرة : 207 .
(14) نور الابصار ص 100.
(15) الإمام علي ص28.
(16) نهاية اللّغة لابن الأثير ج3 ص422.
(17) المفردات في غريب القرآن ص374.
(18) تاج العروس ج 10 ص278.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *