موجز الكلام في: فدك، وحديث «إنّا معاشر الأنبياء…»

موجز الكلام في: فدك، وحديث «إنّا معاشر الأنبياء…»
وقد اضطرّتنا جسارة هذا المفتري على الصدّيقة الطاهرة، لطرح موضوع فدك بإيجاز(1)، حتّى يتبيّن سقوط دفاعه عن إمامه، الذي أغضب بضعة النبيّ وجعلها تدعو عليه بعد كلّ صلاة تصلّيها… فنقول:
1 ـ لا خلاف في أنّ فدكاً ممّا لم يوجف عليه بخَيل ولا ركاب، ولذا كانت ملكاً لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
2 ـ قد ثبت عندنا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أعطى فاطمة فدكاً(2)، ولذا جاء في كلام مثل ابن حجر المكّي: «إنّ أبا بكر انتزع من فاطمة فدكاً»(3)، وفي كلام التفتازاني في ردّ عمر بن عبدالعزيز فدكاً إلى بني الزهراء: «ثمّ ردّها عمر بن عبدالعزيز أيّام خلافته إلى ما كانت عليه»(4).
3 ـ إنّه على فرض ثبوت قوله صلّى اللّه عليه وآله: نحن معاشر الأنبياء لا نورثّ… فالحديث لا يشمل فدكاً.
4 ـ وحينئذ نقول: بأيّ وجه انتزع أبو بكر فدكاً من الصدّيقة الطاهرة؟!
ثمّ نقول في خصوص الحديث المذكور:
1 ـ إنّه قد كذّب جماعة هذا الحديث، وعلى رأسهم أمير المؤمنين عليه السلام والعبّاس؛ فقد أخرج مسلم بإسناده عن مالك بن أوس، عن عمر، أنّه قال لهما: «لمّا توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال أبو بكر: أنا وليّ رسول اللّه، فجئتما، تطلب ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر: قال رسول اللّه لا نورّث ما تركناه صدقة، فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً…»(5).
هذا الحديث الذي أخرجه البخاري وحرّفه بتحريفات قبيحة فاحشة(6).
2 ـ إنّه قد كذّبه عمر بن عبدالعزيز بردّه فدكاً على أولاد فاطمة.
3 ـ إنّه قد كذّبته نساء النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بمطالبتهنّ بإرثهنّ منه. وما قيل من أنّ عائشة ذكّرتهنّ فتراجعن عن ذلك، فالجواب عنه:
أوّلاً: كيف علمت عائشة وحدها بذلك دونهنّ، ودون أهل البيت عليهم الصّلاة والسلام؟!
وثانياً: لقد رووا عن عائشة قولها: «اختلفوا في ميراثه، فما وجدوا عند أحد في ذلك علماً، فقال أبو بكر: سمعت رسول اللّه يقول: إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث»(7)؛ فإنّه ظاهر في أنّها أيضاً لم يكن عندها علم بذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
4 ـ إنّه قد كذّبه أبو بكر نفسه؛ فإنّ الزهراء الطاهرة قالت له: «أفي كتاب اللّه أن ترث ابنتك ولا أرث أبي؟ فاستعبر أبو بكر باكياً، ثمّ نزل فكتب لها بفدك. ودخل عليه عمر فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها، قال: فماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى؟! ثمّ أخذ عمر الكتاب فشقّه»(8).
5 ـ وإذا انضمّت هذه الأُمور إلى انفراد أبي بكر برواية هذا الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم… لم يبق ريب في أنّه كذب….
أمّا انفراده بروايته، فهو صريح الحديث المتقدّم، وقد نصّ عليه غير واحد من أئمّة الحديث والكلام وأُصول الفقه، كـ: القاضي العضد، والفخر الرازي، والغزالي، والآمدي، وعلاء الدين البخاري، والتفتازاني، والشريف الجرجاني، وغيرهم(9).
6 ـ فيكون الحقّ مع الحافظ ابن خراش ـ المتوفّى سنة 283 ـ الذي نصّ على أنّه باطل، واتّهم راويه مالك بن أوس بالكذب(10)، ومن هنا، فقد تهجّم عليه الذهبي بشدّة حيث ترجم له، لكنّ غير واحد من الحفّاظ حرّف كلام ابن خرّاش في الحديث، أو حاول التكتّم عليه(11)!
7 ـ ولقد كذّب أو شكّك فيه: الفخر الرازي؛ إذ قال: «إنّ المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلاّ فاطمة وعليّ والعبّاس، وهؤلاء كانوا من أكابر الزهّاد والعلماء وأهل الدين، وأمّا أبو بكر، فإنّه ما كان محتاجاً إلى معرفة هذه المسألة ألبتّة؛ لأنّه ما كان ممّن يخطر بباله أنّه يرث من الرسول، فكيف يليق بالرسول أن يبلّغ هذه المسألة إلى مَن لا حاجة به إليها، ولا يبلّغها إلى مَن له إلى معرفتها أشدّ الحاجة؟!»(12).
أقول:
ونظير هذا: تكلّم بعض فقهاء الحنفيّة في ما رووه عن الصحابيّة بسرة بنت صفوان، من حديث انتقاض الوضوء بمسّ الذكر، المعارَض بحديث قيس بن طلق عن أبيه في عدم الانتقاض؛ إذ قال ما نصّه: «وقد ثبت عن أمير المؤمنين عليّ وعمّار و… أنّهم لا يرون النقض، ولو كان هذا الحديث ثابتاً لكان لهم معرفة بذلك، والقائلون بنقض الوضوء من مسّ الذكر لم يستدلّوا بذاك الحديث، ولم يقل أحد إني سمعت رسول اللّه، وروى مَن روى عن بسرة….
ويبعد كلّ البعد أن يلقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم حكماً إلى مَن لا يحتاج إليه، ولا يلقي إلى مَن يحتاج إليه».

قيل:
وأمّا ما زعمه الموسوي من وصيّة النبيّ إلى عليّ في مبدأ الدعوة الإسلاميّة….

أقول:
هذا ممّا لا ريب فيه، وقد تقدّم إثباته بالأخبار المعتبرة عن كتب القوم.

قيل:
أمّا وصيّته التي أراد أن يكتبها في مرض موته… فقد زعم الموسوي… ثمّ ادّعى أنّ النبي قد أوصاهم بثلاثة أُمور: أوّلها أن يولّوا عليهم عليّاً… ولا شكّ في بطلان دعوى الموسوي….

أقول:
قد تغافل هنا عن الوصيّة التي أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يكتبها، فمنع عمر بن الخطّاب وأتباعه عن ذلك، وتجاسروا عليه بما يوجب الخروج عن الدين… وهو من القضايا القطعيّة في تاريخ الإسلام….
وأمّا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قد أوصى المسلمين بأن يولّوا عليهم عليّاً عليه السلام… فهذا موجود في المصادر المعتبرة عند القوم وبأسانيدهم:
أخرج الحاكم بإسناده عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، أنّه قال: «إن وليّتموها عليّاً فهاد مهتد، يقيمكم على صراط مستقيم»، ثمّ قال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه»(13).
ورواه جماعة بلفظ: «إن تولّوا عليّاً تجدوه هادياً مهديّاً، يسلك بكم الطريق المستقيم»(14).
وآخرون بلفظ: «إن تأمّروا عليّاً ـ ولا أراكم فاعلين ـ تجدوه هادياً مهديّاً، يأخذ بكم الطريق المستقيم»(15).
فإن لم يكن هذا الكلام منه وصيّةً منه للأُمّة، فما هي الوصيّة؟!
فظهر: كذب هذا المفتري… لا كذبةً واحدة، بل كذبات. والنبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يكتم شيئاً من الوحي، ولا تراجع عن كتابة الوصيّة بالولاية، بل إنّ عمر وأتباعه حالوا دون كتابته أصل الوصيّة.
كما أنّ الوصيّة بالولاية، التي رواها جمع من أئمّتهم، كـ: أحمد بن حنبل، والحاكم، وغيرهما، لم يروها البخاري ومسلم ـ مع كون الحديث على شرطهما، كما نصّ عليه الحاكم ـ وقد رأينا كيف أنّ البخاري قد حرّف الحديث الواحد فأخرجه عدّة مرّات بتحريفات مختلفة في كتابه، وكم له من نظير؟! فليس غريباً أن لا يرويا وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بصورة كاملة….
ولا فائدة في الدفاع عنهما، ولا في حمل دعوى النسيان على الصحّة من باب أنّ النسيان من طبيعة الإنسان؛ فإنّ موضع مثل هذا الحمل هو في ما إذا لم يكن الراوي مغرضاً بيقين.
ويؤيّد ذلك: اضطرابهم في تعيين مَن نُسب إليه النسيان في روايته هذا الحديث، كما هو واضح من العبارات التي أوردها المفتري..
والعجب أنّه أيضاً متردّد في أنّه كان سكوتاً أو نسياناً؟!
وأمّا قول السيّد ـ رحمه اللّه ـ: بأنّ دعوى عائشة ـ بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لحق بربّه وهو في صدرها ـ معارضة بحكم أحاديث الفريقين، فسيأتي بيانه منه وتشييده منّا، في المراجعة الآتية إن شاء اللّه تعالى.

* * *

(1) بالاستفادة من رسالة لنا مفردة في الموضوع.
(2) الدرّ المنثور 5 : 273 ـ 274، مجمع الزوائد 7 : 49، وغيرهما عن: البزّار، وأبي يعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم، والطبراني، وابن النجّار.
(3) الصواعق المحرقة: 79.
(4) شرح المقاصد 5 : 279.
(5) صحيح مسلم 3 : 284 كتاب الجهاد ـ باب حكم الفيء.
(6) صحيح البخاري 2 : 299 / 3094، 3 : 27 / 4033، 3 : 513 / 5358، 4 : 314 / 6728، 4 : 507 / 7305؛ فراجع وتعجّب!!
(7) تاريخ الخلفاء: 55، الصواعق المحرقة: 52 ـ 53.
(8) السيرة الحلبيّة 3 : 362.
(9) شرح المختصر في الأُصول 1 : 161، المحصول في علم الأُصول 3 : 86 و 4 : 368، المستصفى في علم الأُصول 3 : 338، الإحكام في أُصول الأحكام 2 : 298، كشف الأسرار في شرح الأُصول ـ للبزدوي ـ 2 : 374، فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت ـ هامش المستصفى ـ 2 : 132، شرح المواقف 8 : 355، شرح المقاصد 5 : 278.
(10) تذكرة الحفّاظ 2 : 684، سير أعلام النبلاء 13 : 510.
(11) تاريخ بغداد 10 : 280، المنتظم 12 : 362، طبقات الحفّاظ: 301.
(12) تفسير الرازي 9 : 210.
(13) المستدرك على الصحيحين 3 : 142.
(14) حلية الأولياء 1 : 64، كفاية الطالب: 163؛ وقال: هذا حديث حسن عال.
(15) مسند أحمد 1 : 174 / 861، الإصابة 4 : 271، تاريخ مدينة دمشق 42 : 421، أُسد الغابة 3 : 609، البداية والنهاية 7 : 360، كنز العمّال 11 : 360.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *