وهل ذكر المحبّة والعداوة دليل على الحمل المذكور؟

وهل ذكر المحبّة والعداوة دليل على الحمل المذكور؟
وقد يُدّعى أنّ قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في ذيل الحديث: «اللّهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه…» دليل على عدم إرادة «الأوْلى بالتصرّف» من «المولى»، وعلى هذا «فيجب أنْ يحمل على المحبّة وولاء الإسلام ونحوهما».

فنقول:
أوّلاً: هذا الاستدلال ممّن يقلِّد ابن تيميّة في أباطيله عجيبٌ للغاية، وذلك لأنّ ابن تيمية يكذّب بهذه الفقرة من حديث الغدير؛ إذ يقول(1) في وجوه الجواب عنه: «الوجه الخامس: إنّ هذا اللفظ ـ وهو قوله: «اللّهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله» ـ كذبٌ باتّفاق أهل المعرفة بالحديث…»(2).
وقد عرفت الكاذب!!
وثانياً: إنّ في جملة من ألفاظ هذا الدعاء في حديث الغدير كلمة «والِ من والاه…» وكلمة «أحب من أحبّه…» معاً، وهذا من الشواهد على أنّ «المولى» وكذا «والِ من ولاه» ليس بمعنى «المحبّة» وإلاّ لزم عطف الشيء على نفسه..
قال ابن كثير: «قال الطبراني: ثنا أحمد بن إبراهيم بن عبداللّه بن كيسان المديني سنة 290، ثنا إسماعيل بن عمرو البجلي….
ورواه أبوالعبّاس ابن عقدة الحافظ الشيعي، عن الحسن بن علي بن عفّان العامري، عن عبيداللّه بن موسى، عن فطر، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ذي مر وسعيد بن وهب، وعن زيد بن يثيع، قالوا: سمعنا عليّاً يقول في الرحبة: فذكر نحوه. فقام ثلاثة عشر رجلاً فشهدوا إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه، وأحب من أحبّه وابغض من أبغضه، وانصر من نصره واخذل من خذله.
قال أبو إسحاق ـ حين فرغ من هذا الحديث ـ: يا أبا بكر! أيّ أشياخ هم؟»(3).
ورواه المتّقي عن البزّار وابن جرير والخلعي في الخلعيّات، وقال: قال الهيثمي: رجال إسناده ثقات. قال ابن حجر: ولكنّهم شيعة»(4).
وثالثاً: إنّه قد استبعد بعض أكابر القوم هذا الحمل، كالحافظ محبّ الدين الطبري الشافعي؛ إذ قال: قد حكى الهروي عن أبي العبّاس: إنّ معنى الحديث: من أحبّني ويتولاّني فليحبَّ عليّاً وليتولّه.
وفيه عندي بُعد؛ إذ كان قياسه على هذا التقدير أن يقول: من كان مولاي فهو مولى عليّ، ويكون المولى ضدّ العدو، فلمّا كان الإسناد في اللفظ على العكس بعُد هذا المعنى…»(5).
ورابعاً: إنّ قول النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «اللّهمّ والِ من والاه…» دعاء دعا به بعد الفراغ من الخطبة، ولو كانت لفظة «المولى» بحاجة إلى تبيين، فإنّ الجملة السابقة على «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه»، وهي: «ألست أوْلى بكم من أنفسكم؟!» أو: «ألست أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم؟!» وخاصّةً ما اشتمل من ألفاظ الحديث على «فاء» التفريع؛ إذ قال: «فمن كنت مولاه…» هي القرينة المعيّنة للمعنى والرافعة للإبهام المزعوم في الكلام.
ومن رواة تلك المقدّمة في حديث الغدير:
أحمد بن حنبل، وأبو عبدالرحمن النسائي، وأبو عبداللّه ابن ماجة، وأبو بكر البزّار، وأبو يعلى الموصلي، وأبو جعفر الطبري، وأبو القاسم الطبراني، وأبو الحسن الدارقطني، وأبو موسى المديني، وأبو العبّاس الطبري، وابن كثير الدمشقي..
وقد أشار النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فيها إلى قوله تعالى: (النبيّ أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم…)(6)، الذي نصّ المفسّرون على دلالته على أولويّة النبيّ بالمؤمنين من أنفسهم في التصرّف(7).
ومن رواة حديث الغدير «بفاء التفريع»: أحمد والنسائي وابن كثير عن أبي يعلى والحسن بن سفيان، والمتّقي عن ابن جرير والمحاملي والطبراني(8).
وصاحب التحفة الاثنا عشرية، الذي قلّده الخصم، قد روى الحديث بهذا اللفظ، كما تقدّم.
وخامساً: إنّه قد ورد في بعض ألفاظ الحديث كلمة: «بعدي» مع تهنئة عمر بن الخطّاب..
قال ابن كثير: «قال عبدالرزّاق: أنا معمر، عن علي بن زيد بن جدعان، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، قال: نزلنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عند غدير خم، فبعث منادياً ينادي، فلمّا اجتمعنا، قال: ألست أوْلى بكم من أنفسكم؟! قلنا: بلى يا رسول اللّه! قال: ألست؟ ألست؟ قلنا: بلى يا رسول اللّه! قال: من كنت مولاه فإنّ عليّاً بعدي مولاه، اللّهمّ والِ من ولاه وعادِ من عاداه.
فقال عمر بن الخطّاب: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب، أصبحت اليوم وليّ كلّ مؤمن»(9).
فلو كان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أراد «المحبّة» لَما كان للتقييد بقوله: «بعدي» وجه، ولَما صحّ لعمر أن يقول: «أصبحت اليوم…».
وسادساً: إنّه لو كان المراد هو «المحبّة» فأيّ معنىً لقول بعض الصحابة ـ لمّا سمع عليّاً عليه السلام يناشدهم حديث الغدير ـ: «فخرجت وفي نفسي شيء»؟!
أخرج أحمد بإسناده عن أبي الطفيل: «فخرجت وكأنّ في نفسي شيئاً، فلقيت زيد بن أرقم فقلت له: إنّي سمعت عليّاً يقول كذا وكذا. قال: فما تنكر؟ قد سمعت رسول اللّه يقول ذلك له»(10).
وأخرجه النسائي من حديث حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل(11).
وسابعاً: إنّه لو كان المراد «المحبّة» فلماذا سلّم أبو أيوب وجماعته على الإمام بالولاية، استناداً إلى ما سمعوه من النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يوم غدير خم؛ ورواه الأئمّة بالأسانيد الصحيحة:
«جاء رهط إلى عليّ بالرحبة فقالوا: السلام عليك يا مولانا. قال: وكيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟ قالوا: سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول يوم غدير خم: من كنت مولاه فهذا مولاه.
قال: فلمّا مضوا تبعتهم وسألت من هم؟
قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبو أيّوب الأنصاري»(12).
وهكذا.. القرائن والقضايا الأُخرى التي ذكرناها سابقاً، والتي لم نذكرها، كنزول الآية: (يا أيّها الرسول بلّغ…)(13) قبل الخطبة، ونزول الآية: (اليوم أكملت لكم دينكم…)(14) بعد الخطبه، ونزول: (سأل سائل بعذاب واقع…)(15) لمّا اعترض الأعرابي على الخطبة..
وكقضيّة مناشدة أمير المؤمنين عليه السلام الصحابة بحديث الغدير(16)، وشعر حسّان بن ثابت في ذلك اليوم(17)، وشعر قيس بن سعد بن عبادة(18)… وغيرها.

(1) منهاج السُنّة 7 : 55.
(2) لكنّ الفقرة هذه ثابتة بالأسانيد المعتبرة على أُصولهم؛ راجع: مسند أحمد بن حنبل 1 : 189، 5 : 494 و 498 و 501، المصنّف 12 : 67، 78، الخصائص ـ للنسائي ـ: 220، سُنن ابن ماجة 1 : 88، البداية والنهاية 7 : 347، كنز العمّال 13 : 168، مشكل الآثار 2 : 308، المستدرك على الصحيحين 3 : 116، وغيرها.
(3) البداية والنهاية 7 : 347.
(4) كنز العمّال 13 : 158.
(5) الرياض النضرة في مناقب العشرة 1 : 227.
(6) سورة الأحزاب 33 : 6.
(7) انظر: تفسير البغوي 4 : 433، الكشّاف 5 : 50، تفسير البيضاوي: 552، تفسير النسفي 2 : 335، تفسير النيسابوري 5 : 447، تفسير الجلالين بهامش تفسير البيضاوي 2 : 239، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري 7 : 293، كتاب التفسير. الدرّ المنثور 6 : 566.
(8) مسند أحمد 5 : 494، 501، الخصائص: 134، البداية والنهاية 7 : 347، كنز العمّال 13 : 131، 157، 171، وغيرها.
(9) البداية والنهاية 7 : 349.
(10) البداية والنهاية 7 : 346.
(11) خصائص عليّ: 117.
(12) مسند أحمد 6 : 583، المعجم الكبير 4 : 173، الرياض النضرة 3 : 126، البداية والنهاية 7 : 347 ـ 348، مرقاة المفاتيح 5 : 574.
(13) ونزولها في يوم الغدير رواه كلٌّ من: ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر، وأبي نعيم، والثعلبي، والواحدي، والفخر الرازي، والنيسابوري، والعيني، والسيوطي.. راجع: نفحات الأزهار 8 : 195 ـ 257.
(14) ونزولها في يوم الغدير رواه كلٌّ من: ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر، وأبي نعيم، والثعلبي، والواحدي، والفخر الرازي، والنيسابوري، والعيني، والسيوطي.. راجع: نفحات الأزهار 8 : 195 ـ 257.
(15) ونزولها في القصّة رواه جماعة من المفسّرين والمحدّثين.. وللتفصيل راجع: نفحات الأزهار 8 : 325 ـ 381.
(16) من رواة المناشدة: عبدالرزّاق، أحمد، البزّار، النسائي، أبو يعلى، الطبراني، الخطيب، ابن الأثير، ابن كثير، ابن حجر العسقلاني، السمهودي، السيوطي، وغيرهم؛ راجع: نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار 8 : 7 ـ 37.
(17) من رواة شعر حسّان: ابن مردويه، أبو نعيم، سبط ابن الجوزي، السيوطي، وجماعة؛ راجع: نفحات الأزهار 8 : 290 ـ 309.
(18) راجع: نفحات الأزهار 8 : 313 ـ 316.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *