دحض المراوغة

دحض المراوغة:
طلبتم ـ نصر اللّه بكم الحقّ ـ أن نقنع بأنّ المراد من حديث الغدير أنّ عليّاً أوْلى بالإمامة حين يختاره المسلمون لها ويبايعونه بها، فتكون أوْلويّته المنصوص عليها يوم الغدير مآلية لا حالية، وبعبارة أُخرى تكون أوْلوية بالقوّة لا بالفعل، لئلاّ تنافي خلافة الأئمّة الثلاثة الّذين تقدّموا عليه..
فنحن ننشدكم بنور الحقيقة، وعزّة العدل، وشرف الإنصاف وناموس الفضل: هل في وسعكم أن تقنعوا بهذا لنحذو حذوكم، وننحو فيه نحوكم؟!
وهل ترضون أن يؤثر هذا المعنى عنكم، أو يعزى إليكم، لنقتصّ أثركم، وننسج فيه على منوالكم؟!
ما أراكم قانعين ولا راضين، وأعلم يقيناً أنّكم تتعجّبون ممّن يحتمل إرادة هذا المعنى، الذي لا يدلّ عليه لفظ الحديث ولا يفهمه أحد منه، ولا يجتمع مع حكمة النبيّ ولا مع بلاغته صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، ولا مع شيء من أفعاله العظيمة وأقواله الجسيمة يوم الغدير، ولا مع ما أشرنا إليه سابقاً من القرائن القطعية، مع ما فهمه الحارث بن النعمان الفهري من الحديث، فأقرّه اللّه تعالى على ذلك ورسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم والصحابة كافّة.
على أنّ الأوْلوية المآلية لا تجتمع مع عموم الحديث؛ لأنّها تستوجب أن لا يكون عليّ مولى الخلفاء الثلاثة، ولا مولى واحد ممّن مات من المسلمين على عهدهم، كما لا يخفى، وهذا خلاف ما حكم به الرسول؛ حيث قال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: ألست أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم؟! قالوا: بلى. فقال: مَن كنت مولاه ـ يعني من المؤمنين فرداً فرداً ـ فعليّ مولاه، من غير استثناء كما ترى.
وقد قال أبوبكر وعمر لعليّ(1) ـ حين سمعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول فيه يوم الغدير ما قال ـ: أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كلّ مؤمن ومؤمنة، فصرّحا بأنّه مولى كلّ مؤمن ومؤمنة، على سبيل الاستغراق لجميع المؤمنين والمؤمنات منذ أمسى مساء الغدير.
وقيل لعمر(2): إنّك تصنع بعليّ شيئاً لا تصنعه بأحد من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؟! فقال: إنّه مولاي. فصرّح بأنّه مولاه، ولم يكونوا حينئذ قد اختاروه للخلافة ولا بايعوه بها، فدلّ ذلك على أنّه مولاه ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة بالحال لا بالمآل، منذ صدع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بذلك عن اللّه تعالى يوم الغدير.
واختصم أعرابيّان إلى عمر، فالتمس من عليّ القضاء بينهما، فقال أحدهما: هذا يقضي بيننا؟! فوثب إليه عمر(3) وأخذ بتلابيبه، وقال: ويحك! ما تدري من هذا؟ هذا مولاك ومولى كلّ مؤمن، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن. والأخبار في هذا المعنى كثيرة.
وأنت ـ نصر اللّه بك الحقّ ـ تعلم أن لو تمّت فلسفة ابن حجر وأتباعه في حديث الغدير، لكان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كالعابث يومئذ في هممه وعزائمه ـ والعياذ باللّه ـ الهاذي في أقواله وأفعاله ـ وحاشا للّه ـ إذ لا يكون له ـ بناءً على فلسفتهم ـ مقصد يتوخّاه في ذلك الموقف الرهيب، سوى بيان أنّ عليّاً بعد وجود عقد البيعة له بالخلافة يكون أوْلى بها، وهذا معنىً تضحك من بيانه السفهاء فضلاً عن العقلاء، لا يمتاز ـ عندهم ـ أمير المؤمنين به على غيره، ولا يختصّ فيه ـ على رأيهم ـ واحد من المسلمين دون الآخر؛ لأنّ كلّ من وجد عقد البيعة له كان ـ عندهم ـ أوْلى بها، فعليّ وغيره من سائر الصحابة والمسلمين في ذلك شرع سواء، فما الفضيلة التي أراد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يومئذ أن يختصّ بها عليّاً دون غيره من أهل السوابق، إذا تمّت فلسفتهم يا مسلمون؟!
أمّا قولهم بأنّ أوْلوية عليّ بالإمامة لو لم تكن مآلية لكان هو الإمام مع وجود النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فتمويه عجيب، وتضليل غريب، وتغافل عن عهود كلّ من الأنبياء والخلفاء والملوك والأمراء إلى من بعدهم، وتجاهل بما يدلّ عليه حديث: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»، وتناس لقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، في حديث الدار يوم الإنذار: «فاسمعوا له وأطيعوا»، ونحو ذلك من السنن المتضافرة.
على أنّا لو سلّمنا بأنّ أوْلوية عليّ بالإمامة لا يمكن أن تكون حالية لوجود النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فلا بُدّ أن تكون بعد وفاته بلا فصل، عملاً بالقاعدة المقرّرة عند الجميع، أعني حمل اللفظ ـ عند تعذّر الحقيقة ـ على أقرب المجازات إليها، كما لا يخفى.
وأمّا كرامة السلف الصالح فمحفوظة بدون هذا التأويل، كما سنوضّحه إذا اقتضى الأمر ذلك.

فقيل:
غدير خمّ هو موضع بالجحفة بين المدينة ومكّة، والرافضة يقولون: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم خطب الناس في هذا المكان وبلَّغهم بولاية عليّ رضي اللّه عنه من بعده، وكان هذا البلاغ من النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم امتثالاً لأمر اللّه سبحانه وتعالى في الآية 67 من سورة المائدة: (يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللّه يعصمك من الناس إنّ اللّه لا يهدي القوم الكافرين)، فكانت الآية خاصّة بعليّ رضي اللّه عنه، وتكليفاً من اللّه لنبيّه بتبليغ الأُمّة أنّ عليّاً خليفته من بعده بلا فصل، فكان حديثه في غدير خمّ استجابة منه وامتثالاً لهذا التكليف. كما صرّح بذلك الموسوي وأشياخه من قبله مدّعين أنّ حديث الغدير هذا حديث متواتر، وأنّه نصّ قاطع في إمامة عليّ رضي اللّه عنه. والجواب على هذا كلّه من وجوه:
أحدها: أنّ الآية لم تنزل في عليّ بن أبي طالب كما زعموا….
ثانيها: أنّ الآية نزلت في المدينة، بل هي من أوائل ما نزل في المدينة وقبل حجّة الوداع بمدّة طويلة، بدليل ما قبلها وما بعدها من الآيات التي تتحدّث عن أهل الكتاب وما كان من أمرهم في المدينة، أمّا حديث الغدير فقد كان بعد رجوعه عليه الصلاة والسلام من حجّة الوداع وهو في طريقه إلى المدينة، وكان ذلك في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة، وهذا ممّا لا ينازع الرافضة فيه، بدليل أنّهم ما زالوا يتّخذون هذا اليوم عيداً.
قال ابن تيمية: (… فمَن قال أنّ المائدة نزل فيها شيء بعد غدير خمّ فهو كاذب مفتر باتّفاق أهل العلم…). (المنهاج 4 : 84).
ثالثها: لو أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أمر بتبليغ الناس إمامة عليّ بعده لبلّغهم ذلك وهم مجتمعون حوله أثناء الحجّ أو بعده وقبل أن يرجعوا إلى أوطانهم، كما هو الحال في كلّ ما بلّغه النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من أُمور في حجّته هذه. فدلّ هذا على أنّ الذي جرى يوم الغدير لم يكن ممّا أُمر بتبليغه، كالذي بلّغه في حجّة الوداع.
قال ابن تيمية: (ولم ينقل أحد بإسناد صحيح ولا ضعيف أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ذكر إمامة عليّ، ولا ذكر عليّاً في شيء من خطبته في حجّة الوداع). انتهى. (المنهاج 4 : 85).
رابعها: يزعم الرافضة أنّ حديث الغدير حديث متواتر، في حين أنّه حديث آحاد مختلف في صحّته، فقد طعن جماعة من أئمّة الحديث في صحّته، كأبي داود السجستاني وأبي حاتم الرازي وغيرهم وابن تيمية وابن الجوزي، فكيف يسوغ لهم أن يعدّوه من المتواتر وهذه حاله عند أئمّة الحديث؟!! لكنّ الرافضة تعتبر كلّ حديث يوافق هواهم ومذهبهم حديثاً متواتراً ولو كان موضوعاً، ويجعلون علامة كذب الحديث مخالفته لهواهم ولو كان متواتراً، ويحكمون على الأحاديث الصحيحة بأنّها ناقصة مبتورة، إذ لم تتضمن ما يدلّ على أهوائهم وأباطيلهم….
كما أنّ الناظر في رواية الإمام مسلم لا يجد فيها إلاّ الوصية باتّباع كتاب اللّه والتذكير فقط بأهل بيته رضوان اللّه تعالى عليهم، وليس فيه أمر باتّباعهم.
قال ابن تيمية في منهاج السُنّة 4 : 85: (والحديث الذي في مسلم إذا كان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قد قاله فليس فيه إلاّ الوصية باتّباع كتاب اللّه، وهذا أمر قد تقدّمت الوصية به في حجّة الوداع قبل ذلك، وهو لم يأمر باتّباع العترة، ولكن قال: أُذكّركم اللّه في أهل بيتي. وتَذَكُّر الأُمّة لهم يقتضي أن يذكروا ما تقدّم الأمر به قبل ذلك من إعطائهم حقوقهم والامتناع من ظلمهم وهذا أمر قد تقدّم بيانه قبل غدير خمّ، فعلم أنّه لم يكن في غدير خمّ أمر بشرع نزل إذ ذاك لا في حقّ عليّ، ولا في حقّ غيره، لا إمامته ولا غيرها). انتهى.
وقد زاد الترمذي على رواية مسلم: «وإنّهما لم يتفرّقا حتّى يردا علَيَّ الحوض»؛ قال ابن تيمية في المنهاج 4 : 85:
(وقد طعن غير واحد من الحفّاظ في هذه الزيادة، وقال: إنّها ليست من الحديث، والّذين اعتقدوا صحّتها قالوا: إنّما يدلّ على أنّ مجموع العترة الّذين هم بنو هاشم لا يتّفقون على ضلالة، وهذا قد قاله طائفة من أهل السُنّة، وهو من أجوبة القاضي أبي يعلى وغيره). انتهى.
أمّا الزيادة وهي قوله: «اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه… الخ»؛ فقد قال ابن تيمية: (إنّها كذب، ونقل الأثرم في سُننه عن أحمد أن العبّاس سأله عن حسين الأشقر وأنّه حدّثه بحديثين: قوله لعليّ: «إنّك ستُعرض على البراءة منّي فلا تبرأ»، والآخر: «اللّهمّ وال مَن والاه، وعاد مَن عاداه» فأنكره أبو عبيداللّه جدّاً ولم يشكّ أنّ هذين كذب، وكذلك قوله: «أنت أوْلى بكلّ مؤمن ومؤمنة» كذب أيضاً..
وأمّا قوله: «مَن كنت مولاه فعليّ مولاه» فليس هو في الصحاح لكن هو ممّا رواه العلماء وتنازع الناس في صحّته، فنقل عن البخاري وإبراهيم الحربي، وطائفة من أهل العلم بالحديث أنّهم طعنوا فيه وضعّفوه، ونقل عن أحمد بن حنبل أنّه حسّنه كما حسّنه الترمذي). انتهى. (المنهاج 4 : 86).
خامسها: وعلى فرض ثبوت هذه الألفاظ وصحّتها، فإنّه لا دلالة لها على ما ذهب إليه الموسوي من أنّها نصوص في أوْلوية عليّ رضي اللّه عنه بالخلافة؛ لأنّ المولى لا تأتي بمعنى الأوْلى بالتصرّف عند أهل اللغة، كما بيّناه سابقاً..
قال العلاّمة الدهلوي: (وأنكر أهل العربية قاطبة ثبوت ورود «المولى» بمعنى «الأوْلى»؛ إذ لو صحّ للزم أن يقال: فلان مولى منك. بدل: فلان أوْلى منك، وهذا باطل منكر بالإجماع..
كما أنّ «المولى» لو كان بمعنى «الأوْلى» أيضاً لا يلزم أن تكون صلة بالتصرّف، وكيف تُقَرَّر هذه الصلة ومن أية لغة؟ إذ يُحتمل أن يكون المراد: أوْلى بالمحبّة، وأوْلى بالتعظيم ـ وأية ضرورة في كلّ ما يسمع لفظ «الأوْلى» أن يحمله على أنّ المراد ـ أوْلى بالتصرّف ـ ؟! كما في قوله تعالى: (إنّ أولى الناس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النبيّ والّذين آمنوا) وظاهر أنّ أتباع إبراهيم لم يكونوا أوْلى بالتصرّف في جنابه.
وذكر المحبّة والعداوة دليل صريح على أنّ المقصود إيجاب محبّته والتحذير من عداوته، لا التصرّف وعدمه.
فعلم أنّ مقصوده صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بهذا الكلام إنّما كان إفادة هذا المعنى الذي يفهم منه بلا تكلّف يوقف قاعدة لغة العرب يعني محبّة عليّ فرض كمحبّته عليه السلام، وعداوته حرام كعداوته عليه السلام. وهذا مذهب أهل السُنّة، ومطابق لفهم أهل البيت في ذلك.
كما أورد أبو نُعيم عن الحسن المثنى بن الحسن السبط الأكبر أنّهم سألوه عن حديث: «مَن كنت مولاه» هل هو نصّ على خلافة عليّ؟
قال: لو كان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أراد خلافته بذلك الحديث لقال قولاً واضحاً هكذا: «يا أيّها الناس! هذا وليُّ أمري والقائم عليكم بعدي فاسمعوا وأطيعوا»، ثمّ قال الحسن: أُقسم باللّه أنّ اللّه تعالى ورسوله لو آثروا عليّاً لأجل هذا الأمر، ولم يمتثل عليُّ لأمر اللّه ورسوله ولم يُقِدم على هذا الأمر لكان أعظم الناس خطأ بترك امتثال ما أمر اللّه ورسوله به.
قال رجل: أما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «مَن كنت مولاه فعليّ مولاه»؟!
قال الحسن: لا واللّه، إنّ رسول اللّه لو أراد الخلافة لقال واضحاً وصرّح بها، كما صرّح بالصلاة والزكاة، وقال: يا أيّها الناس! إنّ عليّاً وليُّ أمركم من بعدي والقائم في الناس بأمري). مختصر التحفة الاثني عشرية: 161.
قال الشيخ الدهلوي: (وفي هذا الحديث دليل صريح على اجتماع الولايتين في زمان واحد؛ إذ لم يقع التقييد بلفظ «بعدي» بل سَوْقُ الكلام لتسوية الولايتين في جميع الأوقات من جميع الوجوه، كما هو الأظهر، وشركة الأمير للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في التصرّف في عهده ممتنعة، فهذا أدلُّ دليل على أنّ المراد وجوب محبّته، إذ لا محذور في اجتماع محبّتين، بل إحداهما مستلزمة للأُخرى، وفي اجتماع التصرّفين محذورات كثيرة، كما لا يخفى. وإن قيّدتموه بما يدلّ على إمامته في المآل دون الحال فمرحباً بالوفاق، لأنّ أهل السُنّة أيضاً قائلون بذلك في حين إمامته). انتهى. مختصر التحفة الاثني عشرية: 161.
كما أنّ الرافضة قد فسّروا كلمة: «الأوْلى» الواقعة في صدر حديث الغدير حيث قال عليه الصّلاة والسلام: أوَ لستم تشهدون أنّي أوْلى بكلّ مؤمن مِن نفسه؟! فسّروها بالأوْلى بالتصرّف، وهو باطل، والمراد الأوْلى في المحبّة، فيكون المعنى أوَ لستم تشهدون أنّي أوْلى بكلّ مؤمن في المحبّة من نفسه؟! وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من والده وولده، والناس أجمعين». رواه مسلم، وبذلك تتلاءم أجزاء الكلام).
قال الشيخ الدهلوي: (ولفظ الأوْلى قد ورد في غير موضع بحيث لا يناسب أن يكون معناه الأوْلى بالتصرّف أصلاً، كقوله تعالى: (النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أُمّهاتهم)، (وأُولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه)(4)؛ فإنّ سوق هذا الكلام لنفس(5) نسب الأدعياء عمّن يتبنَّونهم، وبيانه: أنّ زيد بن حارثة لا ينبغي أن يقال في حقّه زيد بن محمّد لأنّ نسبة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى جميع المسلمين كالأب الشفيق بل أزيد، وأزواجه أُمّهات أهل الإسلام، والأقرباء في النسب أحقّ وأوْلى من غيرهم، وإن كانت الشفقة والتعظيم للأجانب أزيد، ولكن مدار النسب على القرابة وهي مفقودة في الأدعياء، وحكم ذلك في كتاب اللّه، ولا دخل ها هنا لمعنى الأوْلى بالتصرّف في المقصود أصلاً). انتهى. مختصر التحفة الاثني عشرية: 161 و 162.
ولقد كشف الموسوي عن جهله بالحديث وإسناده، شأنه في ذلك شأن قومه الرافضة الّذين ليس لهم أسانيد صحيحة متّصلة، فالحديث الصحيح عندهم ما وافق مذهبهم وإن كان موضوعاً، والضعفيف عندهم ما خالف مذهبهم. لقد كشف جهله هذا عندما استدلّ على تواتر حديث الغدير بتخريج أبي إسحاق الثعلبي له في تفسير سورة المعارج من تفسيره الكبير، وكأنّ الثعلبي لا يخرّج إلاّ المتواتر من الأحاديث.
أرأيت أخي المسلم إلى هذا الجهل الذي ما بعده جهل وإلى هذا الاستدلال الذي يستحيي من ذكره الجاهل بله العالم، والصغير قبل الكبير، إنّه الجهل الذي ينبع من هوىً وضلال، وزيغ وانحراف.
وما عرف هذا الضالّ المضلّ أنّ أهل العلم بالحديث متّفقون على أنّ مجرّد العزو إلى الثعلبي مشعِرٌ بضعف تلك الرواية حتّى تثبت صحّتها من طرق أُخرى.
وروايته هذه عن الثعلبي لم يروها أحد من علماء الحديث في شيء من كتبهم التي يرجع إليها الناس في الحديث، لا الصحاح ولا السُنن ولا المسانيد ولا غير ذلك..
قال ابن تيمية في معرض حديثه عن هذه الرواية: (وكذب هذه الرواية لا يخفى على من له أدنى معرفة بالحديث).
وقد فنّد [ابن تيمية] هذه الرواية من وجوه عدّة، نسوقها هنا بتصرّف يسير:
أوّلاً: أجمع الناس كلّهم على أنّ ما قاله النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بغدير خمّ كان مرجعه من حجّة الوداع، والشيعة تسلّم بذلك، وتجعل هذا اليوم عيداً وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة، في حين أنّ سورة (سأل سائل)مكّية باتّفاق أهل العلم، نزلت بمكّة قبل الهجرة، قبل غدير خمّ بعشر سنين أو أكثر من ذلك، فكيف نزلت بعده؟!
ثانياً: وقوله تعالى: (وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك…)، الآية [32] في سورة الأنفال، فقد نزلت ببدر بالاتّفاق وقبل غدير خمّ بسنين كثيرة.
وأهل التفسير متّفقون على أنّها نزلت بسبب ما قاله المشركون للنبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قبل الهجرة، كأبي جهل وأمثاله، وأنّ اللّه ذَكَّر نبيّه بما كانوا يقولون، بقوله تعالى: (وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) أي: اذكر قولهم. فدلّ على أنّ هذا القول كان قبل نزول هذه السورة.
ثالثاً: اتّفق الناس على أنّ أهل مكّة لم تنزل عليهم حجارة من السماء لمّا قالوا ذلك، فلو كان هذا آية لكان من جنس آية أصحاب الفيل، ومثل هذا لم ينقله أحد من المصنّفين في العلم، لا الصحيح ولا المسند ولا الفضائل ولا التفسير ولا السير ونحوها، رغم توفّر الهمم والدواعي على نقله، فعلم بذلك كذب هذه الرواية.
رابعاً: إنّ أهل مكّة لمّا استفتحوا بيّن اللّه أنّه لا ينزل عليهم العذاب ومحمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فيهم؛ فقال تعالى: (وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) ثمّ قال: (وما كان اللّه ليعذّبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذّبهم وهم يستغفرون).
خامساً: لقد جاء في رواية الثعلبي التي ساقها الموسوي قول السائل: يا محمّد! أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّك رسول اللّه فقبلنا منك. وهي عبارة تدلّ على إسلام هذا السائل. ومن المعلوم بالضرورة أنّ أحداً من المسلمين على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لم يصبه هذا.
سادساً: وهذا الرجل لا يعرف في الصحابة بل هو من جنس الأسماء التي يذكرها الطرقية من جنس الأحاديث التي في سيرة عنترة ودلهمة. وقد صنّف الناس كتباً كثيرة في أسماء الصحابة الّذين ذكروا في شيء من الحديث، حتّى في الأحاديث الضعيفة، مثل كتاب الاستيعاب لابن عبدالبرّ، وكتاب ابن مندة، وأبي نعيم الأصبهاني، والحافظ أبي موسى، ونحو ذلك، ولم يذكر أحد منهم هذا الرجل فعلم أنّه ليس له ذكر في شيء من الروايات. انتهى. منهاج السُنّة 4 / 13 و 14.
ثمّ إنّ الموسوي يتّهم أهل السُنّة ـ ممثّلين بشيخ الأزهر ـ بالمراوغة في المراجعة 59 و 60 لا لشيء إلاّ لأنّ شيخ الأزهر ـ على فَرضِ صحّة ما نُسب إليه من مراجعات ـ قد أوضح تفسير بعض العلماء المعتبرين في نظر الموسوي لحديث الغدير، وهو تفسير يغاير مذهب الموسوي.
والردّ على هذا الاتّهام أن نقول:
أوّلاً: هل مجرّد الاستدلال برأي ابن حجر في الصواعق، والحلبي في سيرته يعتبر مراوغة؟! فإن كان الأمر كذلك فالموسوي أوْلى بأن يوصف بالمراوغة لأنّه كثيراً ما يستدلّ بكلام هذين العالِمَيْنِ بما يوافق هواه ومذهبه، وإن كان الوصف بالمراوغة بسبب مخالفة كلامهما لمذهبه فكيف يجعل مذهبه حكماً ومرجعاً ودليلاً، في الوقت الذي يفتقر هو إلى دليل يثبت صحّته؟!
ثانياً: وإن كانت المراوغة إنّما تعني الحيدة عن الأدلّة الشرعية الصحيحة، والأُصول الثابتة فإنّ الموسوي وشيعته لم يتركوا من أساليب المراوغة شيئاً لأحد من الناس؛ لأنّهم باتّفاق أهل العلم قوم استباحوا الكذب وعدم الانصياع إلى الدليل، والتَفَلُّتَ منه بإنكاره، وتحريفه إنقاصاً منه، أو زيادة فيه، أو تحميله ما لا يحتمل، فهم أبعد الناس عن الدليل وأجهل الناس به.
ثالثاً: إنّ المراوغة في نظر الموسوي وشيعته الرافضة وصف لازم لكلّ من خالف مذهبهم، ولو كان أصدق الصادقين، والصدق عندهم وصف لازم لكلّ من وافقهم ولو كان من أكذب الكاذبين؛ لذا فإنّه لا يلتفت إلى حكمهم ورأيهم في قليل ولا كثير.
رابعاً: إذا كان القرآن والسُنّة ليس فيهما نصّ على خلافة أحد من الناس، وأنّ ما جاء فيهما كان مجرّد ذكر لفضائل الصحابة جملة أو تفصيلاً باتّفاق الصحابة والتابعين وأصحاب القرون الثلاثة الأُولى لم يخالف في ذلك منهم أحد حتّى آل البيت والعترة الطاهرة بما فيهم عليّ بن أبي طالب. ولم يفهم أحد منهم أنّ هذه الفضائل نصوص تدلّ على خلافة أو استخلاف صاحبها بعد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بحال من الأحوال.
فإنّ المراوغ هو الذي زاغ عن الحقّ الذي جاء في كتاب اللّه وسُنّة رسول اللّه، وأجمعت عليه الأُمّة بما فيهم العترة الطاهرة، فتأمّل هذا.
وإنّ العلماء من أهل السُنّة بحثوا في كتب السُنّة كثيراً ليجدوا ما يحتجّوا به على إمامة عليّ رضي اللّه عنه، فلو ظفروا بحديث موافق لهذا الغرض لفرحوا به لأنّهم كانوا حريصين على هذا الأمر. كلّ هذا يدلّ على أنّ كلّ ما ينقله الرافضة في هذا المجال إنّما هو محض كذب وافتراء..
قال ابن تيمية: (وأحمد بن حنبل مع أنّه أعلم أهل زمانه بالحديث احتجّ على إمامة عليّ بالحديث الذي في السُنن: «تكون خلافة النبوّة ثلاثين سنة ثمّ تصير مُلكاً»، وبعض الناس ضعّف هذا الحديث لكنّ أحمد وغيره يثبتونه، فهذا عمدتهم من النصوص على خلافة عليّ، فلو ظفروا بحديث مسند أو مرسل موافق لهذا لفرحوا به، فعلم أنّه ما تدّعيه الرافضة من النصّ هو ممّا لم يسمعه أحد من أهل العلم بأقوال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لا قديماً ولا حديثاً، ولهذا كان أهل العلم بالحديث يعلمون بالضرورة كذب هذا النقل، كما يعلمون كذب غيره من المنقولات المكذوبة.) انتهى. المنهاج 4 / 14.
خامساً: إنّه لم يثبت عن أحد من أصحاب القرون الثلاثة الأولى أنّه استدلّ بحديث واحد على خلافة عليّ رضي اللّه عنه رغم توفّر الهمم والدواعي على إظهار مثل هذا النصّ، ورغم كثرة شيعة عليّ رضي اللّه عنه إبان الفتنة والتي كانت قد تنتهي أو تنقضي بإظهار مثل هذا النصّ. فدلّ هذا على أنّه لا نصّ في هذا الأمر، وأنّ كلّ ما تنقله الرافضة من منقولات هو محض كذب.
قال ابن تيمية: (وقد جرى تحكيم الحكمين ومعه أكثر الناس، فلم يكن في المسلمين من أصحابه ولا غيرهم مَن ذكر هذا النصّ مع كثرة شيعته، ولا فيهم من احتجّ به في مثل هذا المقام الذي تتوفّر فيه الهمم والدواعي على إظهار مثل هذا النصّ، ومعلوم أنّه لو كان النصّ معروفاً عند شيعة عليّ فضلاً عن غيرهم لكانت العادة المعروفة تقتضي أن يقول أحدهم هذا نصّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على خلافته فيجب تقديمه على معاوية، وأبو موسى نفسه كان من خيار المسلمين لو علم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم نصّ عليه لم يستحلّ عزله، ولو عزله لكان من أنكر عزله عليه يقول: كيف تعزل من نصّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على خلافته، وقد احتجّوا بقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «تقتل عمّاراً الفئة الباغية»، وهذا الحديث خبر واحد أو اثنين أو ثلاثة ونحوهم وليس هذا متواتراً، والنصّ عند القائلين به متواتر فياللّه العجب كيف ساغ عند الناس احتجاج شيعة عليّ بذلك الحديث ولم يحتجّ أحد منهم بالنصّ). انتهى. المنهاج 4 / 15.

أقول:
يتلخّص كلام السيّد في حديث الغدير في نقاط:
1 ـ أورد نصوص روايات جمع من أكابر القوم، أمثال:
أحمد بن حنبل..
والنسائي..
والطبراني..
والحاكم..
والذهبي.
2 ـ وذكر وجوهاً لتواتره.
3 ـ وتعرّض لدلالته ودعوى التأويل فيها من بعضهم.
أمّا كلام المفتري الأثيم فيتلخّص في:
1 ـ أنّه طرح أوّلاً الآية المباركة: (يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك…) ثمّ جعل يردّ القول بنزولها في غدير خمّ، بثلاثة وجوه.
2 ـ ثمّ ـ في الوجه الرابع ـ ادّعى أنّ حديث الغدير «خبر آحاد مختلف في صحّته».
3 ـ فقال ـ في الوجه الخامس ـ: (وعلى فرض ثبوت هذه الألفاظ وصحّتها، فإنّه لا دلالة لها على ما ذهب إليه الموسوي… لأنّ «المولى» لا تأتي بمعنى «الأوْلى بالتصرّف» عند أهل اللغة)..
ثمّ نقل عن العلاّمة الدهلوي: (أنكر أهل العربية قاطبة ثبوت ورود «المولى» بمعنى الأوْلى)..
ثمّ ذكر عن الدهلوي إشكالاً آخر في دلالة الحديث حيث قال: «قال الشيخ الدهلوي: وفي هذا الحديث دليل صريح على اجتماع الولايتين…».
هذا، ولا يخفى على القارئ الكريم أنّ أغلب ما كتبه هذا الرجل إنّما هو تكرارٌ لما جاء في المنهاج لابن تيمية، وفي مختصر التحفة الاثني عشرية للدهلوي فقط، وأغفل آراء الذهبي وابن كثير وأمثالهما من علماء قومه الّذين شحن كتابه بأقوالهم واستند إليها في مختلف المسائل، وسيتّضح السبب في ذلك..

فنقول:
أمّا تعرّضه ـ قبل كلّ شيء ـ للآية المباركة: (يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك…)فما هو إلاّ فرار من البحث، وتطويل بلا طائل؛ إذ المهمّ هو الردّ على الإستدلال بحديث الغدير، بالمناقشة في سنده أو دلالته؛ لأنّه هو موضوع المراجعة، وعلينا إثبات الحديث ودلالته على ما نذهب إليه، والردّ على المناقشات… كلّ ذلك استناداً إلى كتب القوم وكلمات أعلام علمائهم، ثمّ يأتي دور القضايا المتعلّقة بالموضوع..
وأمّا الآية المذكورة فقد تقدّم البحث عنها في الكتاب بالتفصيل.

(1) في ما أخرجه الدارقطني؛ كما في أواخر الفصل الخامس من الباب الأوّل من صواعق ابن حجر، فراجع منها ص 67. وقد رواه غير واحد أيضاً من المحدّثين بأسانيدهم وطرقهم..
وأخرج أحمد نحو هذا القول عن عمر من حديث البراء بن عازب في ص 355 من الجزء الخامس من مسنده. وقد مرّ عليك في المراجعة 54 من هذا الكتاب.
(2) في ما أخرجه الدارقطني؛ كما في ص 67 من الصواعق أيضاً.
(3) أخرجه الدارقطني؛ كما في أواخر الفصل الأوّل من الباب الحادي عشر من الصواعق المحرقة ـ لابن حجر ـ.
(4) سورة الأحزاب 33 : 6.
(5) كذا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *