التشيّع في اصطلاح القوم

* التشيّع في اصطلاح القوم:
ولكنّ القوم ـ كما أشرنا من قبل ـ اختلفوا في معني هذا الإسم اصطلاحاً، وكذا في مصداقه والمسمّى به.. واضطربت كلماتهم اضطراباً شديداً.
فالذي يظهر من كلماتهم في بعض المواضع أنّ مرادهم من «التشيّع» هو ما ذكرناه من تقديم عليٍّ عليه السلام وتفضيله على غيره من الصحابة، ففي ترجمة الشافعي أنّ أحمد بن حنبل سئل عن الشافعي فقال: ما رأينا منه إلاّ كلّ خير، فقيل له: يا أبا عبداللّه! كان يحيى وأبو عبيد لا يرضيانه ـ يشير إلى التشيّع، وأنّهما نسباه إلى ذلك ـ، فقال أحمد بن حنبل: ما ندري ما يقولان! واللّه ما رأينا منه إلاّ خيراً.
قال الذهبي ـ بعد نقله ـ: «قلت: من زعم أنّ الشافعي يتشيّع فهو مفتر لا يدري ما يقول» وقال الذهبي بعد روايته شعر الشافعي:
يا راكباً قف بالمحصَّب من منى *** واهتف بقاعد خيفنا والناهضِ
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى *** فيضاً كملتطم الفرات الفائضِ
إنْ كان رفضاً حبُّ آلِ محمّد *** فليشهد الثقلان أنّي رافضي
قال: «قلت: لو كان شيعياً ـ وحاشاه من ذلك ـ لَما قال: الخلفاء الراشدون خمسة، بدأ بالصدّيق، وختم بعمر بن عبدالعزيز»(1).
فالتشيّع هو القول بإمامة عليٍّ عليه السلام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وليس مجرّد محبّته، أو القول بأفضليّته مع القول بإمامة الشيخين، ولو كان بأحد هذين المعنيين أو نحوهما لَما نَزَّه عنه الشافعي، كما هو واضح.
وعن ابن المبارك في «عوف بن أبي جميلة» ـ من رجال الصحاح الستّة ـ: «ما رضي عوف ببدعة حتّى كان فيه بدعتان: قدري وشيعي».. فهو يريد من «التشيّع» تقديم أمير المؤمنين على جميع الصحابة، ولذا جعله «بدعةً»؛ إذ ليس مجرّد محبّته ببدعة بالإجماع..
وممّا يشهد بذلك قول بندار في عوف المذكور: «كان قدرياً رافضياً».
وقال الذهبي بعد نقل الكلامين: «قلت: لكنّه ثقة مكثر»(2).
وبما ذكرنا يظهر أنّ قول الذهبي وابن حجر من أنّ: «الشيعي الغالي في زمان السلف وعُرفهم هو من يتكلّم في عثمان والزبير وطلحة وطائفة ممّن حارب عليّاً رضي اللّه عنه وتعرّض لسبّه»(3) غير صحيح؛ لأنّ «الشيعي» بلا غلوٍّ ـ في عرفهم ـ هو تقديمه على سائر الصحابة جميعاً.
وأمّا قول ابن حجر: «والتشيّع محبّة عليّ وتقديمه على الصحابة، فمنْ قدّمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيّعه، ويطلق عليه رافضي، وإلاّ فشيعي»(4).
فإن أراد عُرف السلف، فقد عرفت ما فيه..
وإنْ أراد عُرف زمانه كما جاء في كلامه ـ تبعاً للذهبي ـ: «والغالي في زماننا وعُرفنا هو الذي يكفّر هؤلاء السادة ويتبرّأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضالّ مفتر»(5)؛ دلّ على نقطتين مهمّتين:
إحداهما: اختلاف العُرف والاصطلاح أو تبدّله، وهذا ما ينبغي التمحيص عن أسبابه والغرض منه.
والأُخرى: الترادف بين «غلوّ التشيّع» و«الرفض».
وقال الذهبي بترجمة «الدارقطني» «شيخ الإسلام» المتّهم بالتشيّع:
«جمهور الأُمّة على ترجيح عثمان على الإمام عليّ، وإليه نذهب، والخطب في ذلك يسير، والأفضل منهما بلا شكّ أبو بكر وعمر، من خالف في ذا فهو شيعي جلد، ومن أبغض الشيخين واعتقد صحّة إمامتهما فهو رافضي مقيت، ومن سبّهما واعتقد أنّهما ليسا بإمامَي هدىً فهو من غلاة الرافضة، أبعدهم اللّه»(6).
إلاّ أنّه قال بترجمة «الفأفاء» «الإمام الفقيه» «الناصبي» في كلام له:
«صار اليوم شيعة زماننا يكفّرون الصحابة، ويبرؤون منهم جهلاً وعدواناً، ويتعدّون إلى الصدّيق…»(7).
فتراه لا يصفهم بـ: «الغلوّ»، ولا يسمّيهم بـ: «الرافضة».. فيناقض نفسه، ولا يبقى فرق في العرف بين السلف والخلف.
ثمّ إنّ لهم في «التشيّع» اصطلاحات:
منها: «فيه تشيّع يسير» أو «خفيف» كقول الذهبي بترجمة «وكيع بن الجرّاح» ـ وهو من رجال الصحاح الستّة ـ بعد نقل وصف بعضهم إيّاه بـ: «الرفض».. «والظاهر أنّ وكيعاً فيه تشيّع يسير لا يضرّ إن شاء اللّه!! فإنّه كوفي في الجملة، وقد صنّف كتاب فضائل الصحابة، سمعناه، قدّم فيه باب مناقب عليٍّ على مناقب عثمان»(8).
فتقديم ذِكر مناقب عليٍّ على عثمان «تشيّع يسير» لكنّه «لا يضرّ إن شاء اللّه»!!
وقوله بترجمة أبي نعيم الفضل بن دكين ـ وهو من رجال الصحاح الستّة ـ: «كان في أبي نعيم تشيّع خفيف» ثمّ روى أنّه قال: «حبّ عليٍّ عبادة، وخير العبادة ما كتم»(9).
ومنها: «فيه أدنى تشيّع» كقوله في «أبي غسّان النهدي» ـ وهو من رجال الصحاح الستّة ـ: «فيه أدني تشيّع، أخبرنا أحمد بن عبدالرحمن بن يوسف المقرئ… عن زيد بن أرقم: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال لعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين: أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم» ثمّ روى عن الحسين الغازي، قال:
«سألت البخاري عن أبي غسّان، قال: وعمّاذا تسأل؟! قلت: التشيّع!
فقال: هو على مذهب أهل بلده، ولو رأيتم عبيداللّه بن موسى وأبا نُعيم وجماعة مشايخنا الكوفيّين لَما سألتمونا عن أبي غسّان».
وهنا اضطرّ الذهبي لأنْ يقول: «قلت: وقد كان أبو نعيم وعبيداللّه معظّمَين لأبي بكر وعمر، وإنّما ينالان من معاوية وذويه. رضي اللّه عن جميع الصحابة»(10).

أقول:
لا شكّ أنّ معاوية وذويه قد حاربوا أهل البيت عليهم السلام، وإنّما قصد أبو غسّان من رواية هذا الحديث النيل ممّن حاربهم، فكان فيه «أدنى تشيّع».. لكنّ عبيداللّه بن موسى وأبا نعيم ومشايخ البخاري الكوفيّين كانت عقيدتهم فوق عقيدة أبي غسّان، وإلاّ لَما قال البخاري كذلك، فكيف يكونون إنّما ينالون «من معاوية وذويه» فقط؟!
كلاّ! ليس الأمر كذلك، وممّا يشهد لِما قلناه، تصريح غير واحد منهم بأنّ محدّثي الكوفة كانوا يقدّمون عليّاً على عثمان، وقد ذكر الذهبي أيضاً ذلك، وعدّد أسماء بعضهم، وفيهم «عبيداللّه بن موسى» و«عبدالرزّاق بن همّام»(11).
وجاء بترجمة «عبدالرزّاق»: «قلت لعبدالرزاق: ما رأيك أنت؟! ـ يعني في التفضيل ـ قال: فأبى أن يخبرني، وقال: كان سفيان يقول: أبو بكر وعمر، ويسكت. ثمّ قال لي سفيان: أُحبّ أن أخلوَ بأبي عروة ـ يعني معمراً ـ فقلنا لمعمر فقال: نعم؛ فخلا به، فلمّا أصبح، قلت: يا أبا عروة! كيف رأيته؟ قال: هو رجلٌ، إلاّ أنّه قلّما تكاشف كوفيّاً إلاّ وجدت فيه شيئاً ـ يريد التشيّع ـ ثمّ قال عبدالرزّاق: وكان مالك يقول: أبو بكر وعمر، ويسكت. وكان معمر يقول: أبو بكر وعمر وعثمان، ويسكت، ومثله كان يقول هشام بن حسّان»(12).
فمن هذا يُعرف حال عبدالرزّاق بن همّام، وحال أهل الكوفة، ومنه يفهم أنّ المعنى الصحيح للتشيّع هو ما ذكرناه، وإلاّ لَما قال ابن عيينة في عبدالرزّاق: «أخاف أنْ يكون من الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا»(13).
وإلاّ لَما قيل بترجمة «اليامي»: «من أهل الكوفة الّذين لا يحمدون على مذاهبهم»!!
كما يفهم ذلك أيضاً من قول الذهبي بترجمة «محمّد بن فضيل بن غزوان الكوفي» ـ وهو من رجال الصحاح الستّة ـ: «على تشيّع كان فيه»، فإنّه وإنْ حاول جعل تشيّعه على حدّ تكلّمه في من حارب أو نازع الأمر عليّاً، إلاّ أنّه روى عن يحيى الحماني: «سمعت فضيلاً ـ أو حُدّثت عنه ـ قال: ضربت ابني البارحة إلى الصباح أنْ يترحّم على عثمان، فأبى عليَّ»(14).
بل لقد وصفوا «تليد بن سليمان» ـ وهو من مشايخ أحمد ومن رجال الترمذي ـ بالتشيّع ـ كما عن أحمد بن حنبل وغيره ـ مع أنّه «كان يشتم عثمان» و«يشتم أبا بكر وعمر»(15).
وسيأتي مزيد من الكلام عن هذا الموضوع….

(1) سير أعلام النبلاء 10 : 58 ـ 59، وللشافعي أشعار أخرى من هذا القبيل مرويّة عنه في المصادر المعتبرة، وإنْ كان بعض المعاندين لأهل البيت عليهم السلام يحاولون كتمها أو إنكارها أو التقليل من عددها أو التشكيك في نسبتها…!!
(2) سير أعلام النبلاء 6 : 384.
(3) ميزان الاعتدال 1 : 6، لسان الميزان 1 : 9 ـ 10.
(4) مقدّمة فتح الباري: 460.
(5) ميزان الاعتدال 1 : 6، لسان الميزان 1 : 10.
(6) سير أعلام النبلاء 16 : 458.
(7) سير أعلام النبلاء 5 : 374.
(8) سير أعلام النبلاء 9 : 154.
(9) سير أعلام النبلاء 10 : 151.
(10) سير أعلام النبلاء 10 : 432.
(11) ميزان الاعتدال 2 : 588.
(12) سير أعلام النبلاء 9 : 569.
(13) سير أعلام النبلاء 9 : 571.
(14) سير أعلام النبلاء 9 : 174.
(15) تاريخ بغداد 7 : 138.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *