قوله تعالى: (الّذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار…)

قوله تعالى: (الّذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار…)(1)

قال السيّد:
«(الّذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)».

قال في الهامش:
«أخرج المحدّثون والمفسّرون وأصحاب الكتب في أسباب النزول بأسانيدهم إلى ابن عبّاس في قوله تعالى: (الّذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرّاً وعلانيةً)قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب، كان عنده أربعة دراهم، فأنفق بالليل واحداً وبالنهار واحداً وفي السرّ واحداً وفي العلانية واحداً… فنزلت الآية.
أخرجه الإمام الواحدي في أسباب النزول بسنده إلى ابن عبّاس. وأخرجه أيضاً عن مجاهد، ثمّ نقله عن الكلبي مع زيادة فيه»(2).

فقيل:
«هذه الرواية كذب على ابن عبّاس، وهي من رواية عبدالوهّاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عبّاس.
وعبدالوهّاب بن مجاهد، كذّبه سفيان الثوري، وقال أحمد: ليس بشيء ضعيف الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة ولا يُكتب حديثه، وقال وكيع: كانوا يقولون إنّه لم يسمع من أبيه، وذكره يعقوب بن سفيان في باب من يُرغب عن الرواية عنهم، وقال الحاكم: روى أحاديث موضوعة، وقال ابن الجوزي: أجمعوا على ترك حديثه.
وكذلك هي رواية عن الكلبي.
راجع الحاشية رقم 13.
ومع إنّ الواحدي سبق وذكر في هذه الآية أربع روايات تخالف ما ذهب إليه المؤلّف، إلاّ أنّه اختار ما لم يصحّ لأنّه يؤيّد مذهبه؛ فتأمّل سلامة منهجه.
وقد علّق شيخ الإسلام ابن تيميّة في ردّه على ابن المطهّر في هذه الآية بقوله: «لكن هذه التفاسير الباطلة يقول مثلها كثير من الجهّال…».

أقول:
قال الحافظ السيوطي في الدرّ المنثور بتفسير هذه الآية:
«وأخرج عبدالرزّاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن عساكر، من طريق عبدالوهّاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عبّاس، في قوله: (الّذين ينفقون أموالهم بالليل والنّهار سرّاً وعلانيةً) قال: نزلت في علي بن أبي طالب، كانت له أربعة دراهم، فأنفق بالليل درهماً وبالنهار درهماً وسرّاً درهماً وعلانيةً درهماً»(3).
فمن رواة هذا الخبر:
1 ـ عبدالرزّاق بن همّام الصنعاني، وهو شيخ البخاري.
2 ـ عبد بن حميد، وهو صاحب المسند المعروف.
3 ـ ابن المنذر، وهو المفسّر الكبير.
4 ـ ابن أبي حاتم، صاحب التفسير وغيره من الكتب المعتمدة.
5 ـ الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة.
6 ـ ابن عساكر، حافظ الشام.
فقد أورد السيوطي هذا الحديث بذيل الآية المذكورة، ونسبه إلى هؤلاء الأعلام، وهم يروونه عن عبدالوهّاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عبّاس.
ورواه الحافظ ابن الأثير بإسناده عن «عبدالرزّاق، حدّثنا عبدالوهّاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عبّاس… (ثم قال):
ورواه عفّان بن مسلم، عن وهيب، عن أيّوب، عن مجاهد، عن ابن عبّاس؛ مثله»(4).
* ووردت الرواية في:
1 ـ تفسير القرطبي: «عن عبدالرزّاق: أخبرنا عبدالوهّاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عبّاس، أنّه قال: نزلت في علي…»(5).
2 ـ تفسير البغوي: «روي عن مجاهد، عن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما…»(6).
3 ـ تفسير ابن كثير: «قال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبو سعيد الأشجّ، أخبرنا يحيى بن يمانة، عن عبدالوهّاب بن مجاهد بن جبر، عن أبيه، قال: كان لعليٍّ أربعة دراهم….
وكذا رواه ابن جرير، من طريق عبدالوهّاب بن مجاهد، وهو ضعيف.
لكن رواه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عبّاس أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب»(7).
4 ـ تفسير الشوكاني: «وأخرج عبدالرزّاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن عساكر، من طريق عبدالوهّاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عبّاس، في هذه الآية… وعبدالوهّاب ضعيف، ولكنْ قد رواه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عبّاس»(8).
5 ـ تفسير الآلوسي: «واختُلف في من نزلت، فأخرج عبدالرزّاق وابن المنذر، عن ابن عبّاس رضي اللّه تعالى عنهما أنّها نزلت في عليٍّ كرّم اللّه تعالى وجهه….
وفي رواية الكلبي: فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: ما حملك على هذا؟ قال: حملني أنْ أستوجب على اللّه تعالى الذي وعدني؛ فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: ألا إنّ ذلك لك»(9).

وتلخّص:
1 ـ إنّ الحقّ مع السيّد في قوله: «أخرج المحدّثون والمفسّرون وأصحاب الكتب في أسباب النزول»؛ فإنْ كان هؤلاء الأئمة الأعلام، والحفّاظ الثقات، كاذبين على ابن عبّاس، فما ذنبنا؟!
وإنْ كانت تفاسيرهم باطلةً، وهم جهّال، فما ذنبنا؟!
2 ـ لكنّ الحديث بالسند المذكور ليس بكذب، وإلاّ لم يورده ابن أبي حاتم في تفسيره الذي نصَّ ابن تيميّة على خلوّه من الأكاذيب(10).
وهذا أحد مواضع تناقضات ابن تيميّة في منهاجه، وما أكثرها!!
3 ـ على إنّه لو كان الإسناد المذكور ضعيفاً، فقد روي عن ابن عبّاس بغير هذا الإسناد، وقد تقدّم عن أُسد الغابة، كما تقدّم التصريح بذلك من ابن كثير والشوكاني؛ فهل جهل به ابن تيميّة ومقلّدوه، أو تجاهلوه عناداً وكتموه؟!!

تنبيه:
قال بعض الكذّابين: «إنّ الآية نزلت في أبي بكر حين تصدّق بأربعين ألف دينار! عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة في السرّ وعشرة في العلانية!».
أورده النسفي(11)، والخطيب الشربيني(12).
وتعرّض له الآلوسي فقال: «وقال بعضهم: إنّها نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي اللّه تعالى عنه، تصدّق بأربعين ألف… وتعقّبه الإمام السيوطي بأنّ حديث تصدّقه بأربعين ألف دينار رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة رضي اللّه تعالى عنها، وخبر أنّ الآية نزلت فيه لم أقف عليه…»(13).

أقول:
وياليته وضع لا على لسان ابنته عائشة!!
ولربّما كان واضعه جاهلاً بمقدار الأربعين ألف دينار!!
ولعلّه كان يرى أنّ هذه إحدى تصدّقات أبي بكر!!
ثمّ جاء أئمّة القوم يذكرون في البحوث الكلاميّة أنّ أبا بكر كان «ضعيف الحال، عديم المال»(14)!!

* * *

(1) سورة البقرة 2 : 274.
(2) المراجعات: 36.
(3) الدرّ المنثور 2 : 100.
(4) أُسد الغابة 3 : 601.
(5) الجامع لأحكام القرآن 3 : 347.
(6) معالم التنزيل 1 : 396.
(7) تفسير القرآن العظيم 1 : 708.
(8) فتح القدير 1 : 294.
(9) روح المعاني 3 : 48.
(10) منهاج السُنّة 7 : 13.
(11) تفسير النسفي 1 : 153.
(12) تفسير السراج المنير 1 : 183.
(13) روح المعاني 3 : 48.
(14) شرح المقاصد 5 : 260.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *