قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد…)

قوله تعالى: (أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد…)(1)

قال السيّد:
«وفيهم وفيمن فاخرهم بسقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام أنزل اللّه تعالى: (أجعلتم سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل اللّه لا يستوون عند اللّه واللّه لا يهدي القوم الظالمين)».

قال في الهامش:
«نزلت هذه الآية في عليٍّ وعمّه العبّاس وطلحة بن شيبة؛ وذلك أنّهم افتخروا فقال طلحة: أنا صاحب البيت، بيدي مفاتيحه وإليَّ ثيابه. وقال العبّاس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها. وقال علي: ما أدري ما تقولان! لقد صلّيت ستّة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد. فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.
هذا ما نقله الإمام الواحدي في معنى الآية في كتاب أسباب النزول، عن كلٍّ من الحسن البصري والشعبي والقرظي.
ونقل عن ابن سيرين ومرّة الهمداني أنّ عليّاً قال للعبّاس: ألا تهاجر؟ ألا تلحق بالنبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؟! فقال: ألستُ في أفضل من الهجرة؟! ألست أسقي حاجّ بيت اللّه وأعمر المسجد الحرام؟! فنزلت الآية»(2).

قيل:
«إنّ أمر هذا المؤلّف من أعجب العجب، كانت الأمانة العلميّة تقتضيه أن يشير ـ مجرّد إشارة ـ إلى الرواية الأُولى عند الواحدي في سبب نزول هذه الآية، لكنّه لم يفعل! إذ وجدها تنقض استشهاده.
فقد روى مسلم في صحيحه 13 : 26 من حديث النعمان بن بشير، قال: كنت عند منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقال رجل: ما أُبالي أنْ لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلاّ أنْ أسقي الحاجّ.
وقال الآخر: ما أُبالي أنْ لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلاّ أنْ أعمر المسجد الحرام.
وقال آخر: الجهاد في سبيل اللّه أفضل ممّا قلتم.
فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وهو يوم الجمعة، ولكنّي إذا صلّيت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول اللّه في ما اختلفتم فيه؛ فنزلت هذه الآية.
الطبري 14 : 169 ومسلم 13 : 26، وأورده السيوطي في الدّر 3 : 218 وزاد نسبته لأبي داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه.
وهكذا، ترك المؤلّف الرواية الصحيحة المسندة، وعمد إلى الروايات الأُخرى التي لا سند لها وبعضها مرسل، وكلّها تسقط أمام الرواية الأُولى الصحيحة، واستشهد بها، على أنّ في متن بعضها ما يشهد بعدم صحّتها، فطلحة الذي يشير إليه المؤلّف لم يسلم وإنّما الذي أسلم هو عثمان بن طلحة».

أقول:
أوّلاً: إنّ مقصود السيّد رحمه اللّه في هذه المراجعة المطوّلة التي تصلح لأنْ تكون كتاباً مستقلاً ـ هو إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بلا فصل، من القرآن الكريم، على ضوء روايات الفريقين وأقوال العلماء من الطرفين؛ لأنّ المتّفق عليه أوْلى بالقبول في مقام البحث، والحديث الذي استشهد به من هذا القبيل، ورواته من أعلام القوم كثيرون كما سيأتي.
وأمّا الحديث الذي ذكره هذا المفتري فهو ممّا تفرّدوا به، ولا يجوز لهم الاحتجاج به علينا بحسب قواعد المناظرة، كما صرّح به غير واحد من أعلامهم كالحافظ ابن حزم الأندلسي(3).
وثانياً: إنّ الحديث الذي أخرجه مسلم وغيره. ليس فيه ذِكر لاسم أحد، فهو «قال رجل» و«قال آخر» و«قال آخر»، أمّا الحديث الذي استدلّ به السيّد ففيه أسماء القائلين بصراحة، فنقول:
1 ـ أيّ فائدة في هذا الحديث في مقام المفاضلة بين الأشخاص؟!
2 ـ وأيّ مناقضة بين هذا الحديث وبين الحديث الذي استشهد به السيّد؟!
3 ـ بل إنّ الحديث الذي استند إليه السيّد يصلح لأنْ يكون مفسّراً لحديث مسلم، الذي أبهم فيه أسماء القائلين!
وثالثاً: إنّ الحديث الذي رواه الواحدي قد أورده السيوطي في الدرّ المنثور كذلك(4) نَسَبَه إلى:
1 ـ عبدالرّزاق بن همّام الصنعاني، وهو شيخ البخاري.
2 ـ أبي بكر ابن أبي شيبة، وهو شيخ البخاري.
3 ـ محمّد بن جرير الطبري.
4 ـ ابن أبي حاتم.
5 ـ ابن المنذر.
6 ـ ابن عساكر الدمشقي.
7 ـ أبي نعيم الأصبهاني.
8 ـ أبي الشيخ الأصبهاني.
9 ـ ابن مردويه.
فهؤلاء الأئمة الأعلام من المحدّثين… يروون هذه الرواية، وبهم الكفاية!
ورابعاً: لقد ذكر المفسّرون الكبار من أهل السُنّة هذا الحديث بذيل الآية المباركة، بل إنّ بعضهم قدّمه في الذكر على غيره من الأخبار والأقوال:
* قال الحافظ ابن كثير ـ وهو الذي يعتمد عليه أتباع ابن تيميّة ـ: «قال عبدالرزّاق: أخبرنا ابن عيينة، عن إسماعيل، عن الشعبي، قال: نزلت في عليٍّ والعبّاس رضي اللّه عنهما بما تكلّما في ذلك.
وقال ابن جرير: حدّثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرت عن أبي صخر، قال: سمعت محمّد بن كعب القرظي يقول: افتخر طلحة بن شيبة من بني عبدالدار وعبّاس بن عبدالمطلّب وعليّ بن أبي طالب….
وهكذا قال السدّي إلاّ أنّه قال: افتخر عليّ والعبّاس وشيبة بن عثمان؛ وذكر نحوه.
وقال عبدالرزّاق: أخبرنا معمر، عن عمرو، عن الحسن، قال: نزلت في عليٍّ وعبّاس وشيبة، تكلّموا في ذلك….
ورواه محمّد بن ثور، عن معمر، عن الحسن؛ فذكر نحوه».
وهنا أورد ابن كثير الحديث الآخر ووصفه بـ«المرفوع» فقال: «وقد ورد في تفسير هذه الآية حديث مرفوع، فلابُدّ من ذِكره هنا، قال عبدالرزّاق: أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن النعمان بن بشير…»(5).

أقول:
فأمر هؤلاء المفترين من أعجب العجب! كيف يُعرضون عن الحديث المعتبر، المروي من طرقهم بالأسانيد الكثيرة، المتّفق عليه بين المسلمين، الواضح في دلالته، الصريح في معناه، ويذكرون في مقابله حديثاً مبهماً في معناه، تفرّد به بعضهم، ولم يعبأ به جُلّهم، ثمّ يتّهمون علماء الطائفة المحقّة بعدم الأمانة العلمية؟!
إنّهم طالما يستندون إلى روايات ابن كثير وأمثاله، أمّا في مثل هذا المقام فلا يعبأون بذلك ولا يرجعون إليه!!
إنّهم ينقلون ذلك الحديث عن الدرّ المنثور ويذكرون نسبته إلى من رواه من المحدّثين، ولا يشيرون ـ ولا مجرّد إشارة ـ إلى وجود الحديث الذي رواه السيّد عن الواحدي في الدرّ المنثور عن عدّة كبيرة من أئمّتهم!!
* وقال القرطبي: «وظاهر هذه الآية أنّها مبطلة قول من افتخر من المشركين بسقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام، كما ذكره السدّي، قال: افتخر عبّاس بالسقاية، وشيبة بالعمارة، وعليٌ بالإسلام والجهاد، فصدّق اللّه عليّاً وكذّبهما… وهذا بيّن لا غبار عليه».
ثم إنّه تعرّض لحديث مسلم، وذكر فيه إشكالاً، وحاول دفعه بناءً على وقوع التسامح في لفظ الحديث من بعض الرواة، فراجعه(6).

أقول:
وبذلك يظهر أنّ في حديث مسلم إشكالاً في المعنى والدلالة أيضاً!
* وقال الآلوسي بتفسير الآية والمقصود بالخطاب في (أجعلتم): «الخطاب إمّا للمشركين على طريقة الالتفات، واختاره أكثر المحقّقين… وإمّا لبعض المؤمنين المؤثِرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد، واستُدِلّ له بما أخرجه مسلم… وبما روي من طرق أنّ الآية نزلت في علي كرّم اللّه وجهه والعبّاس… وأيّد هذا القول بأنّه المناسب للإكتفاء في الردّ عليهم ببيان عدم مساواتهم عند اللّه تعالى للفريق الثاني…»(7).

أقول:
ومن هذا الكلام يُفهم:
1 ـ أنْ لا تعارض بين حديث مسلم وحديثنا، كما أشرنا من قبل.
2 ـ إنّ لحديثنا طُرُقاً لا طريق واحد، واعترف به الشوكاني أيضاً(8).
3 ـ إنّه كان بعض المؤمنين يؤثِر السقاية والعمارة على الهجرة والجهاد! فجاءت الآية لتردّ عليهم قولهم، بأنّ الفضل للهجرة والجهاد دون غيرهما.

وتلخّص:
إنّ حديثنا معتبر سنداً، وهو عندهم بطرق، في أوثق مصادرهم في الحديث والتفسير، ودلالته على أفضلية أمير المؤمنين عليه السلام من سائر الصحابة واضحة؛ لأنّ الإمام قد استدلّ لأفضليّته بما يقتضي الفضل على جميع الأُمّة، وقد صدّق اللّه سبحانه عليّاً عليه السلام في ما قاله، وإذا كان هو الأفضل فهو الأَوْلى بالإمامة والولاية العامّة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
وأمّا الحديث الوارد في كتاب مسلم فلا يعارض الحديث المذكور، على إنّه متفرّد به، ومخدوش سنداً ودلالةً باعتراف أئمّتهم!

* * *

(1) سورة التوبة 9 : 19.
(2) المراجعات: 35.
(3) الفصل في الملل والأهواء والنحل 3 : 12.
(4) الدرّ المنثور في التفسير المأثور 4 : 145 ـ 146.
(5) تفسير القرآن العظيم 4 : 122.
(6) الجامع لأحكام القرآن 8 : 91 ـ 92.
(7) روح المعاني 10 : 67.
(8) فتح القدير 2 : 346.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *