مع شاه عبدالعزيز الدهلوي

مع شاه عبدالعزيز الدهلوي:
وهلّم لننظر ما يقوله العالم الهندي، صاحب كتاب التحفة الاثنا عشرية في الجواب عن الاستدلال بالآية الشريفة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام.
قال: «ومنها: (السابقون السابقون * أولئك المقرّبون):
قالت الشيعة: روي عن ابن عبّاس مرفوعاً أنّه قال: السابقون ثلاثة، فالسابق إلى موسى يوشع بن نون، والسابق إلى عيسى صاحب ياسين، والسابق إلى محمّد صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم علي بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه.
ولا يخفى أنّ هذا أيضاً تمسّك بالرواية لا بالآية.
ومدار إسناد هذه الرواية على أبي الحسن الأشقر وهو ضعيف بالإجماع، قال العقيلي: هو شيعي متروك الحديث.
ولا يبعد أن يكون هذا الحديث موضوعاً؛ إذ فيه من أمارات الوضع أنّ صاحب ياسين لم يكن أوّل من آمن بعيسى بل برسله كما يدلّ عليه نصّ الكتاب، وكلّ حديث يناقض مدلول الكتاب في الأخبار والقصص فهو موضوع كما هو المقرّر عند المحدثين.
وأيضاً انحصار السبّاق في ثلاثة رجال غير معقول؛ فإنّ لكلّ نبيّ سابقاً بالإيمان به لا محالة.
وبعد اللتيا والتي، أية ضرورة أن يكون كلّ سابق صاحب الزعامة الكبرى وكلّ مقرّب إماماً؟
وأيضاً، لو كانت هذه الرواية صحيحة لكانت مناقضة للآية صراحة، لأنّ اللّه تعالى قال في حقّ السابقين: (ثلّة من الأوّلين * وقليل من الآخرين)(1) والثلّة هو الجمع الكثير ولا يمكن أن يطلق على الاثنين جمع كثير ولا على الواحد قليل أيضاً، فعلم أنّ المراد بالسبق من الآية عرفي أو إضافي شامل للجماعة الكثيرة، لا حقيقي بدليل الآية الأُخرى: (والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار)(2)، والقرآن يفسّر بعضه بعضاً.
وأيضاً، ثبت بإجماع أهل السُنّة والشيعة أنّ أوّل من آمن حقيقة خديجة رضي اللّه تعالى عنها، فلو كان مجرّد السبق بالإيمان موجباً لصحّة الإمامة، لزم أن تكون سيّدتنا المذكورة حَريّة بالإمامة، وهو باطل بالإجماع. وإن قيل: إنّ المانع كان متحقّقاً قبل وصول إمامته في خديجة وهو الأُنوثة، قلنا: كذلك في الأمير، فقد كان المانع متحقّقاً قبل وصول وقت إمامته، ولمّا ارتفع المانع صار إماماً بالفعل، وذلك المانع هو إمّا وجود الخلفاء الثلاثة الّذين كانوا أصلح في حقّ الرياسة بالنسبة إلى جنابه عند جمهور أهل السُنّة، أو إبقاؤه بعد الخلفاء الثلاثة وموتهم قبله عند التفضيلية فإنّهم قالوا: لو كان إماماً عند وفاة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم ينل أحد من الخلفاء الإمامة وماتوا في عهده، وقد سبق في علم اللّه تعالى أنّ الخلفاء أربعة فلزم الترتيب على الموت»(3).

أقول:
ولا يخفى ما في هذا الكلام من أكاذيب وأباطيل:
أوّلاً: إنّ هذا تمسّك بالآية بعد تفسير الرواية لها، وإلاّ فلا ذكر صريح في القرآن الكريم لا لاسم أمير المؤمنين عليه السلام ولا لاسم غيره، وإذا كان الاستدلال في مثل هذه المواضع بالرواية لا بالآية، فكيف يستدلُّ القوم بمثل قوله تعالى: (وسيجنّبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى)(4) باعتباره من أدلّة الكتاب على إمامة أبي بكر بن أبي قحافة، كما ذكرنا قريباً؟
فبطل قوله: «إن هذا تمسك بالرواية لا بالآية».
وثانياً: قوله: «مدار إسناد هذه الرواية على أبي الحسن الأشقر…» يشتمل على كِذبتين:
الأُولى: أن مدار إسنادها على الأشقر؛ فقد عرفت عدم تفرّد الأشقر بهذه الرواية.
وقد سبقه في هذه الكذبة غيره، كابن كثير الدمشقي، فإنّه قال: «حديث لا يثبت، لأن حسيناً هذا متروك وشيعي من الغلاة، وتفرّده بهذا ممّا يدلّ على ضعفه بالكليّة»(5).
والثانية: دعواه الاجماع على ضعف الأشقر؛ فإنّها دعوىً كاذبة، لا تجدها عند أحد.
بل قد عرفت أنّ كبار الأئمّة يوثّقونه، وتكلّم من تكلّم فيه ليس إلاّ لتشيّعه، وإلاّ فلم يذكر له جرح أبداً.
وثالثاً: قوله: «ولا يبعد أن يكون هذا الحديث موضوعاً، إذ فيه من أمارات الوضع…».
وهذا ردّ على السُنّة الثابتة، وتكذيب للحديث الصحيح، تعصّباً للباطل واتّباعاً للهوى:
أمّا أوّلاً: فلأنّ الايمان برسل عيسى ايمانٌ بعيسى وسبق إليه، وهذا ما يفهمه أدنى الناس من أهل اللسان! وهل من فرق بين الإيمان به والإيمان برسله؟! وكلّ أهل الإيمان باللّه سبحانه وتعالى قد آمنوا برسله وصدّقوهم!
وأمّا ثانياً: فإنّ كلّ خبر خالف الكتاب بالتباين والتناقض، فإنّه مردود، سواء كان في القصص أو في الأحكام، ولكن الاختلاف بين مدلول خبرنا ومدلول الكتاب، فضلاً عن أن يكون بينهما مناقضة.
وأمّا ثالثاً: فإنّ محلّ الاستدلال بالرواية هو الفقرة الأخيرة المتعلّقة بأمير المؤمنين عليه السلام، ولذا فقد جاءت الرواية في بعض ألفاظها خاليةً عن الفقرتين السابقتين.
ورابعاً: قوله: «وأيضاً، انحصار السبّاق في ثلاثة…».
ردّ للحديث الصحيح والنصّ الصريح بالاجتهاد، نظير تكذيب إمامه ابن تيميّة حديث المؤاخاة، حتّى ردّ عليه الحافظ ابن حجر العسقلاني(6).
وخامساً: قوله: «وبعد اللتيا والتي، أيّة ضرورة أن يكون كلّ سابق صاحب الزعامة الكبرى وكلّ مقربٍّ إماماً؟».
جهل أو تجاهل، فقد تقدّم منّا في كلام العلاّمة الحلي أنّ هذه فضيلة لم تثبت لغير أمير المؤمنين عليه السلام، فهو الأفضل، فيكون هو الإمام.
وسادساً: قوله: «وأيضاً لو كانت هذه الرواية صحيحة لكانت مناقضة للآية صراحة…».
فقد سبقه فيه ابن تيمية إذ قال في الوجوه التي ذكرها بعد دعوى بطلان الحديث عن ابن عبّاس: «الثالث: إنّ اللّه يقول: (والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتبعوهم بإحسان رضي اللّه عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنّات تجري تحتها الأنهار)(7) وقال تعالى: (ثمّ أورثنا الكتاب الّذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن اللّه)(8) والسابقون الأوّلون هم الّذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، الّذين هم أفضل ممّن أنفق من بعد الفتح وقاتل، ودخل فيهم أهل بيعة الرضوان، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فكيف يقال: إنّ سابق هذه الأُمّة واحد؟»(9).

أقول:
مقتضى الحديث الصحيح المتّفق عليه أن سابق هذه الأُمّة واحد، وهو أمير المؤمنين عليه السلام، وهذا لا ينافى سياق الآية المباركة، ولا الآيات الأُخرى، كالآيتين المذكورتين، ونحن أيضاً نقول: بمقتضى الجمع بين قوله تعالى: (والسابقون الأوّلون من المهاجرين…) وقوله تعالى: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئاً وسيجزي اللّه الشاكرين)(10) أنّ كلّ من سبق غيره إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وبقي من بعده على ما عاهد اللّه عليه ورسوله، ولم ينقلب على عقبيه، فله أجره عند اللّه وقربه منه، ونحن نحترمه ونقتدي به.
وسابعاً: قوله: «وأيضاً ثبت بإجماع أهل السُنّة والشيعة أنّ أوّل من آمن حقيقةً خديجة…».

أقول:
وهذا كذب، فلا إجماع من أهل السُنّة والشيعة أنّ أوّل من آمن خديجة، بل عندنا أن أمير المؤمنين عليه السلام سابق عليها، وكيف كان، فقد ثبت في الصحيح عندهم أن أبا بكر إنّما أسلم بعد خمسين رجل، وهل آمن حقيقةً؟ وتفصيل الكلام في محلّه.
وثامناً: قوله: «كذلك في الأمير، فقد كان المانع متحقّقاً قبل وصول وقت إمامته…».
أقول:
قد عرفت وجه الاستدلال بالآية المباركة على ضوء الحديث الصحيح المتّفق عليه، وهذا الكلام لا علاقة له بالاستدلال أصلاً.
على أنّ كون وجود الخلفاء الثلاثة مانعاً عن خلافة أمير المؤمنين عليه السلام دعوىً عريضة لا دليل عليها، لا من الكتاب ولا من السُنّة المقبولة ولا من العقل السليم. ودعوى كونهم أصلح في حقّ الرئاسة هي أوّل الكلام، فإنّ هذه الأصلحيّة يجب أن تنتهي إلى الأدلّة المعتبرة من النقل والعقل، وليس، بل هي لدى التحقيق دالّة على العكس.

* * *

(1) سورة الواقعة 56 : 13 ـ 14.
(2) سورة التوبة 9 : 100.
(3) التحفة الاثنا عشرية: 207، وأُنظر مختصر التحفة الاثني عشرية: 178 ـ 179.
(4) سورة الليل 92 : 17 ـ 18.
(5) البداية والنهاية 1 : 231.
(6) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7 : 217.
(7) سورة التوبة 9 : 100.
(8) سورة التوبة 9 : 100.
(9) منهاج السُنّة 7 : 154 ـ 155.
(10) سورة آل عمران: 3 : 144.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *