قوله تعالى: (وإذ أخذ ربّك من بني آدم…)

قوله تعالى: (وإذ أخذ ربّك من بني آدم…)

قال السيّد رحمه اللّه:
بل هي ممّا أخذ اللّه به العهد من عهد ألست بربّكم، كما جاء في تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذ اللّه من بني آدم من ظهورهم ذرّيّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى)(1).

فقال في الهامش:
يدلّك على هذا حديثنا عن أهل البيت في تفسير الآية(2).

فقيل:
لمّا كان المعنى الذي استشهد المؤلّف بالآية من أجله ممّا لا يقوله من عنده أدنى عقل، فقد أحال لتأييد رأيه على حديثهم عن أهل البيت في تفسير الآية.
ويلزم من استشهاده هذا أن يكون علي أميراً على الأنبياء كلّهم، من نوح إلى محمّد صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، وهذا كلام المجانين، فإنّ أُولئك ماتوا قبل أن يخلق اللّه عليّاً، فكيف يكون أميراً عليهم. وغاية ما يمكن أن يكون أميراً على أهل زمانه، أما الأمارة على من خلق قبله ومن يخلق بعده، فهذا من كذب من لا يعقل ما يقول ولا يستحي ممّا يقول. أُنظر: منهاج السُنّة 4 / 578.

أقول:
لقد استدلّ العلاّمة الحلّي رحمه اللّه تعالى بهذه الآية المباركة في كتابيه منهاج الكرامة في معرفة الإمامة ونهج الصدق، وروى في ذيلها في الأوّل منهما عن كتاب فردوس الأخبار للحافظ الديلمي الحديث التالي:
«عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم: لو علم الناس متى سمّي علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله: سمّي أمير المؤمنين وآدم بين الروح والجسد، قال اللّه عزّ وجلّ: (وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذريّتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا) قالت الملائكة: بلى. فقال تبارك وتعالى: أنا ربّكم ومحمّد نبيّكم وعليّ أميركم»(3).
و«شيرويه الديلمي» ـ المتوفّى سنة 509 ـ من كبار الحفّاظ المشهورين، وقد تقدّم منّا قريباً ترجمته عن عدّة من المصادر المعتمدة.
وكتابه فردوس الأخبار أيضاً من أشهر كتبهم الحديثية، نقلوا عنه واعتمدوا عليه واعتنوا به، واسمه الكامل: فردوس الأخبار بمأثور الخطاب المخرّج على كتاب الشهاب يعني كتاب شهاب الأخبار في الحكم والأمثال والآداب للقاضي أبي عبداللّه محمّد بن سلامة القضاعي المتوفّى سنة 454.
قال في كشف الظنون تحت عنوان فردوس الأخبار: «ذكر فيه أنّه أورد فيه عشرة آلاف حديث، وذكر أنّه أورد القضاعي فيه ألف ومائتي كلمة ولم يذكر رواتها، فذكر في الفردوس رواتها، ورتّب على حروف المعجم مجرّدةً عن الأسانيد، ووضع علامات مخرّجه بجانبه، وعدد رموزه عشرون»(4).
وقد روى أصحابنا بأسانيدهم عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام روايات عديدة في هذا الباب، فمن ذلك:
* ما أخرجه الشيخ محمّد بن يعقوب الكليني بإسناده عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: «قلت له: لم سمّي أمير المؤمنين؟ قال: اللّه سمّاه، وهكذا أنزل في كتابه: (وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم) وأنّ محمّداً رسولي وأنّ عليّاً أمير المؤمنين»(5).
* وما أخرجه الشيخ العيّاشي، عن جابر، قال: «قال لي أبو جعفر: لو يعلم الجهّال متى سمّي أمير المؤمنين علي، لم ينكروا حقّه. قال قلت: جعلت فداك، متى سمّي؟ فقال لي: قوله: (وإذ أخذ ربّك من بني آدم)…»(6).
* وما أخرجه الشيخ أبو جعفر الطوسي، في الدعاء بعد صلاة الغدير، مسنداً عن أبي عبداللّه الصادق عليه السلام: «ومننت علينا بشهادة الإخلاص لك بموالاة أوليائك الهداة، من بعد النذير المنذر والسراج المنير، وأكلمت الدين بموالاتهم والبراءة من عدوّهم، وأتممت علينا النعمة التي جدّدت لنا عهدك وذكّرتنا ميثاقك المأخوذ منّا في مبتدأ خلقك إيّانا، وجعلتنا من أهل الإجابة، وذكّرتنا العهد والميثاق، ولم تنسنا ذكرك، فإنّك قلت: (وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم قالوا بلى) اللّهمّ بلى شهدنا بمنّك ولطفك بأنّك أنت اللّه لا إله إلاّ أنت ربّنا، ومحمّد عبدك ورسولك نبيّنا، وعلي أمير المؤمنين والحجة العظمى وآيتك الكبرى والنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون»(7).
* وما أخرجه الشيخ الكليني بإسناده عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، في حديث: «ثمّ قال: (ألست بربّكم قالوا بلى…) ثمّ أخذ الميثاق على النبيّين فقال: ألست بربّكم وأنّ هذا محمّد رسولي وأنّ هذا علي أمير المؤمنين؟! قالوا: بلى. فثبتت لهم النبوّة وأخذ الميثاق على أُولي العزم، إنّني ربّكم ومحمّد رسولي وعلي أمير المؤمنين وأوصياؤه من بعده ولاة أمري وخزّان علمي…»(8).
ثم إنّ بعض العلماء الأعلام من أهل السُنّة يروون بإسنادهم عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام حديثاً في هذا الباب:
* قال المحدّث الفقيه الشافعي أبو الحسن ابن المغازلي الواسطي: «أخبرنا أبو الحسن أحمد بن المظفّر العطّار، حدّثنا أبو عبداللّه الحسين بن خلف بن محمّد الداودي، حدّثنا أبو محمّد الحسن بن محمّد التلعكبري، قال: حدّثنا طاهر بن سليمان بن زميل الناقد، قال: حدّثنا أبو علي الحسين بن إبراهيم، قال: حدّثنا الحسن بن علي، حدّثنا الحسن بن حسن السكري، حدّثنا ابن هند، عن ابن سماعة، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه أنّه قرأ عليه أصبغ بن نباتة: (وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذرّيتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربّكم) قال: فبكى علي وقال: إنّي لأذكر الوقت الذى أخذ اللّه تعالى عليَّ فيه الميثاق»(9).
وفي هذا الحديث إشارةٌ ـ إن لم يكن فيه تحريف ـ إلى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان أوّل من أجاب في الميثاق، وذاك ما أخرجه الشيخ العيّاشي بإسناده عن أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: إنّ أُمّتي عرضت عليَّ في الميثاق، فكان أوّل من آمن بي: علي، وهو أوّل من صدّقني حين بعثت، وهو الصديق الأكبر والفاروق، يفرق بين الحقّ والباطل»(10).
كما إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أفضل الأنبياء، لأنّه أوّلهم وأسبقهم في الميثاق بالوحدانية، كما في الحديث:
عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «إنّ بعض قريش قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: بأي شيء سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إنّي كنت أوّل من آمن بربي وأوّل من أجاب، حين أخذ اللّه ميثاق النبيّين وأشهدهم على أنفسهم (ألست بربّكم قالوا بلى)، فكنت أنا أوّل نبيّ قال بلى، فسبقتهم بالإقرار باللّه»(11).
وعن أبي عبداللّه عليه السلام: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم: بأيّ شيء سبقت ولد آدم؟ قال: إنّني أوّل من أقرّ بربّي، إنّ اللّه أخذ ميثاق النبيّين وأشهدهم على أنفسهم (ألست بربّكم قالوا بلى) فكنت أوّل من أجاب»(12).
وهذه أحاديث اتّفق عليها الفريقان:
* أخرج البخاري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إنّي عبداللّه وخاتم النبيّين، وإنّ آدم لمنجدل في طينته»(13).
* وأخرج الترمذي: «قالوا: يا رسول اللّه! متى وجبت لك النبوّة؟ قال: وآدم بين الروح والجسد. هذا حديث حسن صحيح، غريب من حديث أبي هريرة»(14).

أقول:
لكنه في بعض المصادر عن أبي هريرة: «قيل: يا رسول اللّه! متى وجبت لك النبوّة؟ قال: قبل أن يخلق اللّه آدم وينفخ فيه الروح. وقال: (وإذ أخذ ربّك من بني آدم…) قالت الأرواح: بلى. فقال: أنا ربّكم ومحمّد نبيكم وعلي أميركم»(15)
* وعقد الحافظ السيوطي في خصائص النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم باباً عنوانه: «باب خصوصية النبيّ بكونه أوّل النبيين في الخلق وتقدّم نبوّته وأخذ الميثاق» فأورد أحاديث كثيرة جدّاً. ثمّ قال:
«فائدة ـ قال الشيخ تقي الدين السبكي في كتابه: التعظيم والمنّة في (لتؤمنّنّ به ولتنصرنّه): في هذه الآية من التنويه بالنبيّ صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم وتعظيم قدره العلي، ما لا يخفى، وفيه مع ذلك: أنّه على تقدير مجيئه في زمانهم يكون مرسلاً إليهم، فتكون نبوّته ورسالته عامّة لجميع الخلق، من زمن آدم إلى يوم القيامة، وتكون الأنبياء واممهم كلّهم من أُمته، ويكون قوله: بعثت إلى الناس كافّة، لا يختصّ به الناس من زمانه إلى يوم القيامة، بل يتناول من قبلهم أيضاً، ويتبيّن بذلك معنى قوله صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم: كنت نبيّاً وآدم بين الروح والجسد…».
(قال): «فعرفنا بالخبر الصحيح حصول ذلك الكمال من قبل خلق آدم لنبيّنا صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم من ربّه سبحانه، وأنّه أعطاه النبوّة من ذلك الوقت، ثم أخذ له المواثيق على الأنبياء، ليعلموا أنّه المقدّم عليهم، وأنّه نبيّهم ورسولهم.
وفي أخذ المواثيق ـ وهي في معنى الاستخلاف، ولذلك دخلت لام القسم في (لتؤمننّ به ولتنصرنّه) ـ لطيفة أُخرى، وهي كأنّها أيمان للبيعة التي تؤخذ للخلفاء….
إذا عرفت ذلك، فالنبيّ هو نبيّ الأنبياء.
ولهذا ظهر في الآخرة جميع الأنبياء تحت لوائه، وفي الدنيا كذلك ليلة الإسراء صلّى بهم.
ولو اتّفق مجيؤه في زمن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وجب عليهم وعلى أُممهم الإيمان به ونصرته، وبذلك أخذ اللّه الميثاق عليهم، فنبوته عليهم ورسالته إليهم معنىً حاصل له، وإنّما أمره يتوقّف على اجتماعهم معه، فتأخّر ذلك الأمر راجع إلى وجودهم لا إلى عدم اتصافهم بما يقتضيه…»(16).
وعقد القاضي عياض الحافظ أيضاً بحثاً في الموضوع عنوانه: «السابع ـ في ما أخبر اللّه به في كتابه العزيز من عظيم قدره وشريف منزلته على الأنبياء وخطورة رتبته» فذكر الآيات والأخبار وكلمات العلماء(17).

أقول:
ولولا خوف الإطالة لأوردت كلمات القوم بكاملها، لأنّها تحقيقات رشيقة متّخذة من الأدلّة القطعية، من الكتاب والسُنّة المتواترة عند الفريقين.
وتتلخّص تلك الأدلّة والأقوال في أفضليّة نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من سائر الأنبياء، وأنّهم لو كانوا في زمانه كانوا من امّته، وذلك لأنّه متقدّم في الخلق عليهم، وقد أخذ ميثاق نبوّته منهم، وإن كان متأخّراً زماناً عنهم.
* وعلي خلقه اللّه مع النبيّ من نور واحد… كما في حديث النور المشهور(18).
* وعلي خلقه اللّه مع النبيّ من شجرة واحدة… كما في حديث الشجرة، المشهور(19).
وعلي بعث الأنبياء على ولايته، كما بعثوا على نبوّة النبيّ… كما في الحديث الصحيح المتقدّم في قوله تعالى: (واسأل من أرسلنا…).
فظهر أنّ الحديث المذكور عن أئمّة أهل البيت، وعن حذيفة، وعن أبي هريرة، في ذيل الآية المباركة، حديث متفّقٌ عليه بين الفريقين، معتبر بشواهده الجمّة، والشبهات المذكورة حوله مندفعة.
وما اشتمل عليه كلام ابن تيميّة ومن تبعه من السبّ والشتم، فنمرّ عليه مرّ الكرام….

* * *

(1) سورة الأعراف 7 : 172.
(2) المراجعات: 31.
(3) انظر: فردوس الأخبار 3 : 399 / 5104.
(4) كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 2 : 1254.
(5) الكافي 1 : 340 / 4.
(6) تفسير العيّاشي 2 : 174 / 1657.
(7) تهذيب الأحكام 3 : 146.
(8) الكافي 2 : 6 / 1.
(9) مناقب عليّ بن أبي طالب: 271 / 319.
(10) تفسير العيّاشي 2 : 174 / 1658.
(11) الكافي 1 : 366 / 6.
(12) الكافي 2 : 9 / 3.
(13) التاريخ الصغير 1 : 39.
(14) الجامع الكبير 6 : 7 / 3609.
(15) ينابيع المودّة 2 : 279 / 803، عن المودّة في القربى لعلي بن شهاب الدين الهمداني، المتوفّى سنة 786.
(16) الخصائص الكبرى 1 : 4 ـ 5.
(17) الشفاء بتعريف حقوق المصطفى 1 : 111.
(18) من رواته: أحمد وأبو حاتم وابن مردويه وأبو نعيم وابن عبدالبر والخطيب والرافعي وابن حجر العسقلاني. راجع: الجزء الخامس من كتابنا الكبير نفحات الازهار في خلاصة عبقات الأنوار.
(19) من رواته: الحاكم والطبراني وأبو نعيم وابن عساكر والسيوطي والمتّقي. راجع: الجزء الخامس من كتابنا الكبير نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *