2 ـ مناقشاتهم في الدلالة

2 ـ مناقشاتهم في الدلالة

ولنا هنا مواقف مع ابن تيميّة، وأبي حيّان، وابن روزبهان، والدهلوي، والآلوسي.

* أمّا أبو حيّان فقال:
«وإن صحّ ما روي عن ابن عبّاس ممّا ذكرناه في صدر هذا الآية، فإنّما جعل الرسول صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم عليّ بن أبي طالب مثالاً من علماء الأُمّة وهداتها، فكأنّه قال: أنت يا عليّ هذا وصفك؛ ليدخل في ذلك أبو بكر وعمر…».

قلت:
وهذا تأويل باردٌ جدّاً، على أنّه لماذا جعل صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عليّاً مثالاً من علماء الأُمّة وهداتها ولم يجعل غيره؟! ولو أراد رسول اللّه ذلك لَما جعل أحداً مثالاً، بل قال: أنا المنذر وعلماء أُمّتي هداة، أو قال: أنا المنذر وأصحابي كلّهم هداة، كما عارض البعض هذا الحديث بحديث: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم، كما سيأتي.
وعلى الجملة: فقد كان أبو حيّان أجلّ من أن يقول هذا الكلام، لكنّ كلّ السعي هو إنكار الخصوصيّة الثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام من هذا الحديث «ليدخل أبو بكر وعمر…» كما قال!!
ولذا قال الآلوسي بعد نقله: «وظاهره: أنّه لم يَحمل تقديم المعمول في خبر ابن عبّاس رضي اللّه تعالى عنهما على الحصر الحقيقي، وحينئذ لا مانع من القول بكثرة من يُهتدى به» ثمّ أضاف: «ويؤيّد عدم الحصر ما جاء عندنا من قوله صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم: اقتدوا باللذين من بعدي…».
ولكن أنّى يمكن صرف الحديث عن ظاهره بارتكاب التأويل بلا أيّ دليل؟!
وأمّا الحديث الذي ذكره فسيأتي الكلام عليه.

* وأمّا ابن روزبهان فقال:
«لو صحّ دلّ على أنّ عليّاً هاد، وهو مسلَّم، وكذا أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم هداة؛ لقوله صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم: أصحابي كالنجوم…».

قلت:
سيأتي الكلام على حديث النجوم ببعض التفصيل.

* وأمّا الدهلوي فقال:
«لا دلالة فيها على إمامة الأمير ونفي الإمامة عن غيره أصلاً قطعاً؛ لأنّ كون الشخص هادياً لا يلازم إمامة…».

قلت:
يتلخّص كلامه في نفي الدلالة على الإمامة بنفي الملازمة بينها وبين الهداية، ويستّضح الجواب عن ذلك.

* وأمّا الآلوسي فقال:
«وليس في الآية دلالة على ما تضمّنه بوجه من الوجوه، على أنّ قصارى ما فيه كونه كرّم اللّه تعالى وجهه به يهتدي المهتدون بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، وذلك لا يستدعي إلاّ إثبات مرتبة الإرشاد، وهو أمر، والخلافة التي نقول بها أمر لا تلازم بينهما عندنا».

قلت:
هذا هو الوجه الذي قدّمه على غيره في الجواب، ممّا يظهر منه اعتماده عليه، وحاصله: نفي الملازمة، وهو ما أجاب به الدهلوي.
ثمّ نقل عن بعضهم وجهاً آخر فقال: «وقال بعضهم: إن صحّ الخبر يلزم القول بصحّة خلافة الثلاثة، حيث دلّ على أنّه كرّم اللّه تعالى وجهه على الحقّ في ما يأتي ويذر، وأنّه الذي يُهتدى به، وهو قد بايع أُولئك الخلفاء طوعاً…».
لكنّه لم يؤيّد هذا الوجه بوجه، لعلمه بابتناء ذلك على دعوى أنّه بايع القوم طوعاً، وأنّه مدحهم وأثنى عليهم خيراً، ولم يطعن في خلافتهم، وهذا كلّه أوّل الكلام، وأصل النزاع والخصام….
ثمّ أورد تأويل أبي حيّان، وأيّده بحديث الاقتداء بالشيخين!
ثمّ أبطله بقوله: «وأنا أظنّك لا تلتفت إلى التأويل، ولا تعبأ بما قيل، وتكتفي بمنع صحّة الخبر، وتقول: ليس في الآية ممّا يدلّ عليه عين ولا أثر».

قلت:
أمّا تأويل أبي حيّان، فقد تكلّمنا عليه.
وأمّا تأييده بحديث الاقتداء، فسيتّضح بطلانه، بالبحث عن سند الحديث المذكور، ببعض التفصيل.

وبعد:
فإنّ الحديث الشريف صحيح ثابت بأسانيد عديدة… فلا مجال للمناقشة في سنده؛ وأمّا المناقشات المذكورة فتتلخّص في نقاط:
1 ـ التأويل؛ وهذا باطل، «وأنا أظنّك لا تلتفت إلى التأويل، ولا تعبأ بما قيل» كما قال الآلوسي.
2 ـ الاعتراف بظاهر الحديث ووجوب الأخذ به، وأنّه ينبغي الاقتداء بمولانا أمير المؤمنين والجري على سننه، وذلك يستلزم القول بصحّته خلافة الثلاثة، لأنّه بايعهم طوعاً.
ولكن كونه بايع طوعاً أوّل الكلام كما هو معلوم، ولو كان ذلك ثابتاً لم يبق أيّ خلاف ونزاع، ولَما ارتكب القوم أنواع التمحّلات والتأويلات وغير ذلك لصرف الحديث عن ظاهره.
3 ـ إنّه لا ملازمة بين «الهداية» و«الإمامة»، فتلك أمر وهذه أمر آخر، وهذا ما سيتبيّن الجواب عنه لدى التحقيق في كلام ابن تيميّة.
4 ـ المعارضة بحديث: «أصحابي كالنجوم…» وحديث: «اقتدوا باللذين مِن بعدي…» وفي الفصل الرابع الجواب عن ذلك.

* وأمّا ابن تيميّة:
فهو أكثر القوم إطناباً في الكلام في هذا المقام، فقد ذكر وجوهاً….
والجواب عن الوجهين الأوّل والثاني منها: إنّ هذا الحديث صحيح كما عرفت، وأنّ رواته من كبار أئمّة الحديث كثيرون، وفيهم من ينصُّ على صحّته، فما ذكره هو الكذب.
وعن الثالث والرابع: إنّه سوء فهم، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هو الهادي لعليٍّ عليه السلام وللأُمّة كلّها، لكنّ عليّاً عليه السلام هو الهادي للأُمّة مِن بعده، وهذا صريح قول النبيّ: «بك يهتدي المهتدون من بعدي».
وعن الثامن: إنّ الآية الكريمة تدلُّ على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بالنظر إلى الحديث الوارد في تفسيرها، فإذا فَسّر الحديثُ الصحيح الآيةَ، كانت الآية من جملة الأدلّة من الكتاب على الإمامة.
وعن السابع: بما سيجيء من أنّ حديث النجوم باطل حتّى عند ابن تيميّة، فقد ناقض نفسه باستدلاله به هنا!
وأمّا نفي الملازمة بين «الهداية» و«الإمامة» كما في هذا الوجه ـ السابع ـ وفي كلام الدهلوي وغيره، فلا يجدي، لِما سنذكره في معنى الحديث والمرادِ من كون أمير المؤمنين عليه السلام هادياً….
وذلك هو الجواب عن سؤاله ـ في الوجه السادس ـ: «كيف يُجعل عليٌّ هادياً لكلّ قوم من الأوّلين والآخرين؟!».
وعن تكذيبه ـ في الوجه الخامس ـ «أنّ كلّ من اهتدى من أُمّة محمّد فبه اهتدى»….
وعمّا ذكره ـ في الوجه التاسع ـ من «أنّه قوله كلّ قوم، صيغة عموم…».

* * *

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *