1 ـ كلماتهم في ما يتعلّق بالسند

1 ـ كلماتهم في ما يتعلّق بالسند

أمّا من جهة سند الحديث، فكلماتهم مضطربة جدّاً، فهم بعدما لا يذكرون إلاّ أحد أسانيده فقط، يختلفون في الحكم عليه بين مشكّك في الصحّة، كأبي حيّان، يقول: «إن صحّ» والآلوسي: «أُجيب: لا نسلّم صحّة هذا الحديث»، وبين قائل بوضعه، كابن الجوزي، إذ يقول: «هذا من موضوعات الرافضة»، وبين منكر لأصل وجوده في تفاسيرهم، كابن روزبهان.
* فأوّل ما في هذه الكلمات: إنّها ناظرة إلى حديث ابن عبّاس، فلاحظ زاد المسير والبحر المحيط وميزان الاعتدال والتحفة الاثنا عشرية حيث اقتصروا فيها على رواية ابن عبّاس، محاولةً منهم ـ بعد فرض كونه ضعيفاً ـ للطعن في أصل الحديث… وهذا الأُسلوب من أبي الفرج بن الجوزي ـ خاصّةً ـ معروف… ولذا لا يعبأ المحقّقون بحكمه على الأحاديث بالوضع إلاّ أن يثبت عندهم ذلك بدليل قطعي… ومن هنا نرى أنّ أبا حيّان ـ مثلاً ـ يكتفي بالتشكيك في الصحّة ولا يجرأ على الحكم بالضعف، فضلاً عن الوضع.
* ثمّ إنّهم ما ذكروا أيَّ دليل على ضعف سند الحديث عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس، فضلاً عن كونه موضوعاً، ومن الواضح أن مجرد الدعوى لا يكفي لردّ أيّ حديث من الأحاديث مطلقاً.
أمّا كونه من روايات الثعلبي في تفسيره، أو الديلمي في الفردوس، لوجود الموضوعات الكثيرة فيهما، فلا يكفي دليلاً على سقوط الحديث، كما لا يكفي دليلاً على ثبوته.
والذي يظهر من الذهبي في ميزان الاعتدال حيث أورده بترجمة «الحسن بن الحسين العرني» أنّ سبب الضعف كون هذا الرجل في طريقه، لكنّه لمّا رأى أنّ الطبري يرويه بسنده عنه عن معاذ بن مسلم، عدل عن ذلك قائلاً «معاذ نكرة، فلعلّ الآفة منه»!!
لكنّ «الحسن بن الحسين العرني» وثقّه الذهبي تبعاً للحاكم(1) فصحّ الحديث وبَطَل ما صنعه في (الميزان)، وأمّا «معاذ» فليس بنكرة كما عبّر هنا، ولا بمجهول كما عبّر بترجمته، بل هو معرفة حتّى عنده كما ستعرف.
وبعد، فإنّ الاقتصار على سند واحد للحديث، أو نقله عن كتاب واحد من الكتب، ثمّ ردّ أصل الحديث وتكذيبه من الأساس خيانة للدين، وتلبيس للحقيقة، وتضييع للحقّ، وتخديع للقارئ…!
* وسواء صحّ الحديث عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس، أو لم يصحّ، بل حتّى لو لم يصحّ عن ابن عبّاس شيء في الباب، ففي رواية الصحابة الآخرين كفاية لذوي الألباب.
بل تكفي الرواية فيه عن أمير المؤمنين عليه السلام:
? فأمّا رواية عبّاد بن عبداللّه الأسدي عنه عليه السلام، فأخرجها الحاكم في المستدرك وصحّحها، وهي:
عن أبي عمرو بن السمّاك، المتوفّى سنة 344، وصفه الذهبي بـ«الشيخ الإمام المحدِّث، المكثر الصادق، مسنِد العراق…»(2).
عن عبدالرحمن بن محمّد الحارثي، الملقّب بـ«كُرْبُزان»، المتوفّى سنة 231، وصفه الذهبي بـ«المحدِّث المعمّر البقيّة» ثمّ نقل عن ابن أبي حاتم قوله: «كتبت عنه مع أبي تكلّموا فيه، وسألت أبي عنه فقال: شيخ». قال: «وقال الدارقطني: ليس بالقوي»(3)؛ ومن هنا أورده في ميزان الاعتدال.
لكن تعقّبه الحافظ ابن حجر بقوله: «وذكره ابن حبّان في (الثقات) وقال: حدّثنا عنه ابنه محمّد بن عبدالرحمن بالبصرة؛ وقال إبراهيم بن محمّد: كان موسى بن هارون حسن الرأي فيه. وحدّث أيضاً عن: معاذ بن هشام، وقريش بن أنس، ووهب بن جرير.
وعنه: ابن صاعد، وابن مخلد، والصفّار، وأبو بكر الشافعي، وآخرون.
وقال ابن الأعرابي: مات في ذي الحجّة سنة 271.
وقال مسلمة بن قاسم: ثقة مشهور»(4).

قلت:
فالرجل ثقة، لا سيّما وأنّه شيخ أبي حاتم الرازي، وقد سأله عنه ابنه فلم يقدح فيه، بل قال: «شيخ» وقد نصَّ الذهبي نفسه على أنّ أبا حاتم متعنّت في الرجال(5)مضافاً إلى توثيق ابن هارون ومسلمة وابن حبّان وغيرهم، ورواية جماعة من الأئمّة عنه، ورضاهم إيّاه، فلا أثر لقول الدارقطني: «ليس بالقوي».
عن حسين بن حسن الأشقر، وهذا الرجل قد ترجمنا له في مباحث آية التطهير، وآية المودّة، وأثبتنا وثاقته وصدقه عن: أحمد بن حنبل، والنسائي، ويحيى بن معين، وابن حبّان، وإنّما ذنبه الوحيد عند الذهبي ومَن على مذهبه كونه من الشيعة، وقد تقرّر أنّ التشيّع غير مضرٍّ بالوثاقة، كما في مقدّمة فتح الباري في شرح البخاري وغيره، وبيّنّا ذلك في مقدّمات البحث….
عن منصور بن أبي الأسود، قال الحافظ: «صدوق، رمي بالتشيّع» واضعاً عليه علامة: أبي داود، والترمذي، والنسائي(6).
عن الأعمش، سليمان بن مهران، المتوفّى سنة 147 أو 148؛ قال الحافظ: «ثقة حافظ» وهو من رجال الصحاح الستّة(7).
عن المنهال بن عمرو، وهو من رجال البخاري والأربعة. قال الحافظ: «صدوق، ربّما وهم»(8).
عن عبّاد بن عبداللّه الأسدي، وهو من أعلام التابعين، وقد روى القوم عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قوله: «خير الناس قرني، ثمّ الّذين يلونهم»(9) وعلى هذا الأساس قالوا بعدالة التابعين كالصحابة.
وقد أخرج النسائي عن عبّاد في خصائص عليٍّ عليه السلام من سننه، وقد قالوا بأن للنسائي شرطاً في الصحيح أشدّ من شرط البخاري ومسلم(10)، إلاّ أنّ غير واحد من القوم تكلّموا في الرجل لروايته عن عليٍّ عليه السلام بعض فضائله كقوله: «أنا الصدّيق الأكبر»(11).
فالحقٌّ: صحّة هذا الحديث كما قال الحاكم، وقول الذهبي في تلخيصه بكذبه باطل.
وأمّا رواية عبدخير، عنه عليه السلام، فهي في مسند أحمد، وقد حكم الحافظ الهيثمي بأنّ رجالها ثقات… وقد عرفتَ ـ من ترجمة رجالها ـ كونهم ثقات عند الكلّ، فكان على القوم نقل هذا الرواية ـ قبل غيرها من الروايات ـ في ذيل الآية المباركة، وتفسيرها بها، لا بقول زيد وعمرو من المفسّرين بآرائهم، لكنّهم لم يفعلوا هذا، لِما في قلوبهم من المرض، توصّلاً لِما أشرنا إليه من الغرض!!
نعم، وجدنا ابن كثير يذكره بتفسير الآية، فهو بعد أن ذكر الحديث عن ابن عبّاس برواية ابن جرير الطبري، قال: «في هذا الحديث نكارة شديدة»!! رواه عن ابن أبي حاتم بسنده عن عبدخير عن عليٍّ، وهو السند الوارد في مسند أحمد، وأضاف ابن كثير: «قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن عبّاس ـ في إحدى الروايات ـ وعن أبي جعفر محمّد بن عليٍّ نحو ذلك».
وقد كان على ابن كثير ـ الذي قال عن حديث الطبري ما قال بغير حقّ ـ أن يعترف بصحّة هذا الحديث ويجعله الأصل في تفسير الآية، لكنّه لم يفعل هذا، لِما بين جنبيه من الروح الأُمويّة!!
ثمّ جاء بعض المتقوّلين في عصرنا فأورد كلام ابن كثير بعد رواية الطبري واعتمده، موهماً اقتصار ابن كثير على تلك الرواية، مع أنّه عقّبها برواية ابن أبي حاتم بسنده الصحيح عن عبدخير، ولم يتكلّم عليها بشيء، وسكوته دليلٌ على قبوله وإلاّ لتكلّم عليها كما صنع بالنسبة إلى رواية ابن جرير.
فهكذا يريد المتقوّلون أن يردّوا على كتب أصحابنا ويبطلوا أدلّتنا!!
وتلخّص: أنّ للحديث أسانيد صحيحة متعدّدة من طرق أهل السُنّة، وفيها ما اعترف الأئمّة بصحّته.
إذاً لا مجال لأيّة مناقشة فيه من هذه الناحية، والحديث ـ مع وروده من طرق أصحابنا عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ـ مقطوع بصدوره عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم….

(1) المستدرك وتلخيصه 3 : 211.
(2) سير أعلام النبلاء 15 : 444.
(3) سير أعلام النبلاء 13 : 138.
(4) لسان الميزان 3 : 431.
(5) سير أعلام النبلاء 13 : 260.
(6) تقريب التهذيب 2 : 275.
(7) تقريب التهذيب 1 : 331.
(8) تقريب التهذيب 2 : 278.
(9) جامع الأُصول 8 : 547 ـ 550 ف 1 ب 4 في فضائل الصحابة.
(10) تذكرة الحفّاظ 2 : 700.
(11) لاحظ: هامش تهذيب الكمال 14 : 139.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *