قوله تعالى: (يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم)

قوله تعالى: (يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم)(1).

قال السيد:
«وأُولي الأمر الّذين قال: (يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم)».

فقال في الهامش:
«أخرج ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب، بسنده الصحيح، عن بريد العجلي، قال: سألت أبا جعفر [محمّد الباقر] عليه السلام عن قوله عزّ وجلّ: (أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم).
فكان جوابه: (ألم تر إلى الّذين أُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للّذين كفروا هؤلاء أهدى من الّذين آمنوا سبيلاً) يقولون لأئمّة الضلال والدعاة إلى النار هؤلاء أهدى من آل محمّد سبيلاً (أُولئك الّذين لعنهم اللّه ومن يلعن اللّه فلن تجد له نصيراً * أم لهم نصيب من الملك) يعني الإمامة والخلافة (فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً * أم يحسدون الناس على ما آتاهم اللّه من فضله) ونحن الناس المحسودون على ما آتانا اللّه من الإمامة دون خلقه (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً) يقول: جعلنا منهم الرسل والأنبياء والأئمّة فكيف يقرّون به في آل إبراهيم وينكرونه في آل محمّد (فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه وكفى بجهنّم سعيراً)(2)(3).

فقيل:
«لماذا تجهيل (الكليني) بذكر صدر اسمه فقط؟ ثمّ إنّ كونه (ثقة الإسلام) ليس إلاّمن قبيل الدعوى، وعند الشيعة فقط وغير ملزم لغيرهم، ثمّ أين صحّة السند يا ترى؟».

أقول:
أمّا دعوى «تجهيل» الكليني، فجهل، فإنّ الإماميّة متى أرادوا الرواية عنه يقولون «محمّد بن يعقوب»، فدونك كتاب وسائل الشيعة للشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي وأمثاله من كتب الحديث الشيعيّة… وحتّى في كتب غيرهم أيضاً، كما سنرى في عبارة ابن الأثير.
إنّ هذا الشيخ العظيم اسمه «محمّد بن يعقوب» وهو من أهل الريّ، وينتسب إلى «كلين» قرية من قراها، وكتابه الكافى من أجلّ الكتب الحديثية عند الإماميّة، ويلقّب عندهم بـ«ثقة الإسلام» لجلالة قدره بين المسلمين، التي اعترف بها غير الإمامية، ولذا عدّ من مجدّدي الدين.
قال ابن الأثير بشرح حديث: «إنّ اللّه سيبعث لهذه الأُمّة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها» بعد كلام له: «فالأحرى والأجدر: أن يكون ذلك إشارةً إلى حدوث جماعة من الأكابر المشهورين على رأس كلّ مائة سنة، يجدّدون للناس دينهم، ويحفظون مذاهبهم التي قلّدوا فيها مجتهديهم وأئمّتهم. ونحن نذكر الآن المذاهب المشهورة في الإسلام التي عليها مدار المسلمين في أقطار الأرض، وهي مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد ومذهب الإمامية، ومن كان المشار إليه من هؤلاء على رأس كلّ مائة سنة، وكذلك من كان المشار إليه من باقي الطبقات»… فقال: «وأمّا من كان على رأس المائة الثالثة… وأبو جعفر محمّد بن يعقوب الرازي من الإمامية»(4).
وحتّى الذهبي ـ على تعنّته ـ أورده في أعلام النبلاء مع وصفه بـ«شيخ الشيعة وعالم الإمامية صاحب التصانيف»(5) ولم يصدر منه بحقّه أي تجريح.
وأمّا سند الرواية فصحيح، فقد أخرجها محمّد بن يعقوب الكليني بالسند التالي:
«الحسين بن محمّد بن عامر الأشعري، عن معلّى بن محمّد، قال: حدّثني الحسن بن عليّ الوشّاء، عن أحمد بن عائذ، عن ابن أُذينة، عن بريد العجلي، قال: سألت أبا جعفر عليه السلام…»(6).
وعلماء الإمامية لا يُعدّون الحديث صحيحاً ما لم يثقوا بصدق جميع رجال إسناده.
وإنّما أورد السيّد هذه الرواية ـ مع وجود نظائر وشواهد لها في كتب الفريقين ـ لصحّة سندها يقيناً، ولاشتمالها على فوائد أُخرى… وهي عن الإمام أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام.
وقد استدلّ العلاّمة الحلّي بهذه الآية على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، في جملة الآيات، حيث قال: «الثامنة والستّون: (أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم). كان عليّ عليه السلام منهم»(7).
وهل من شكٍّ في أنّ عليّاً عليه السلام من أُولي الأمر، حتّى يحتاج إلى دليل؟
ومن هنا لم يناقشه ابن روزبهان في ردّه، إلاّأنّه قال: «هذا يشمل سائل الخلفاء، فإنّ كلّهم كانوا أُولي الأمر، ولا دليل على مدّعاه»(8).
إذن، لا كلام في أنّ عليّاً عليه السلام من أُولي الأمر، فتجب طاعته، وإنّما الكلام في شمول الآية لغيره، ممّن تولّى الأمر بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم. فالجمهور على وجوب طاعة أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، ويزيد، والسفّاح، والمتوكّل، و… إلى يومنا هذا؛ لكونهم ولاة الأمر!! والإماميّة ينكرون شمول الآية المباركة إلاّ لعليٍّ والأئمة عليهم السلام من بعده!
والعمدة أنّ الآية المباركة تدلُّ على العصمة، وهذا ما اعترف به إمام القوم الفخر الرازي، في تفسيره الكبير(9)، لكنّه وقع في حيص بيص….
أمّا عصمة أئمّتهم منذ اليوم الأوّل، وحتّى الآن، فمنتفيه….
وأمّا كون المراد خصوص أئمّة أهل البيت المعصومين… فتأبى نفسه الاعتراف به….
فلجأ إلى إحداث قول ثالث، وهو كون المراد عصمة الأُمّة!!
إنّ الآية المباركة تخاطب الأُمّة بإطاعة (أُولي الأمر) منها ووجوبها عليهم، كإطاعة اللّه ورسوله، فهناك «أُمّة» و«أُولوا الأمر» منها، وتلك مطيعة وهؤلاء مطاعون… فكيف يحمل «أولوا الأمر» فيها على «الأُمّة» يا منصفون؟!
لقد وقع الإمام في ضيق ليس له منه خلاص، بعد أن لم يكن له من الاعتراف بدلالة الآية على العصمة مناص….
يقول: «حمل الآية على الأئمّة المعصومين على ما تقوله الروافض، في غاية البعد» ولماذا؟
فيذكر وجوهاً لو نظرت إليها لضحكت!! أوّلها وعمدتها:
«إنّ طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق».
نقول ـ مضافاً إلى ما تقدّم في آية الصادقين ـ: نعم طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم، لكن أيّ مانع منع الأُمّة من معرفتهم والوصول إليهم، حتّى تكون طاعتهم قبل معرفتهم تكليف ما لا يطاق؟!
وهل كان المنع أو المانع من الأئمّة المعصومين أنفسهم أو من غيرهم؟!
ومتى أرادت الأُمّة الوصول إليهم فلم يمكنهم ذلك؟!
هذا بالنسبة إلى سائر الأئمّة المعصومين… أمّا بالنسبة إلى خصوص أمير المؤمنين… فقد عرّفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم منذ يوم الدار… وحتّى يوم الغدير، وعرفه القوم، حتّى بايعوه كلّهم عن رغبة في ذلك اليوم!!
إنّ هذه التكلّفات ـ في الآية ونحوها ـ لا تنفع إمام الأشاعرة، عند الحساب في الآخرة هذه التمحّلات لا تخلّص أحداً من الأكابر ولا الأصاغر، (يوم تبلى السرائر * فما له من قوّة ولا ناصر)(10)، واللّه يحكم بيننا وبينهم بالعدل وهو خير الحاكمين.

* * *

(1) سورة النساء 4 : 59.
(2) الكافي 1 : 159 / 1.
(3) المراجعات: 27.
(4) جامع الأُصول 11 : 321 و 323.
(5) سير أعلام النبلاء 15 : 280.
(6) الكافي 1 : 159 / 1.
(7) نهج الحق وكشف الصدق: 203 ـ 204.
(8) احقاق الحق 3 : 426.
(9) التفسير الكبير 10 : 144 ـ 146.
(10) سورة الطارق 86 : 9 ـ 10.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *