أبو بكر الحصني

أبو بكر الحصني (829)
وقال تقي الدين أبو بكر الحصني الدمشقي الشافعي في كتابه (دفع شبه من شبّه وتمرّد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الإمام أحمد):
«.. وقد بالغ جمع من الأخيار من المتعبّدين وغيرهم من العلماء كأهل مكة وغيرها أن أذكر ما وقع لهذا الرجل من الحيدة عن طريق هذه الأئمة، ولو كان أحرفاً يسيرة إما بالتصريح أو بالتلويح مشيرة. فاستخرت الله عزّوجل في ذلك مدة مديدة ثم قلت لا أبالك، وتأملت ما حصل وحدث بسببه من الإغواء والمهالك، فلم يسعني عند ذلك أن أكتم ما علمت، وإلاّ الجمت بلجام من نار ومقتّ.
وها أنا أذكر الرجل وأشير باسمه الذي شاع وذاع واتسع به الباع وسار، بل طار في أهل القرى والأمصار، وأذكر بعض ما انطوى باطنه الخبيث عليه وما عوّل في الإفساد بالتصريح أو الإشارة إليه. ولو ذكرت كثيراً مما ذكره ودوّنه في كتبه المختصرات لطال جدّاً فضلا عن المبسوطات، وله مصنفات أخر لا يمكن أن يطّلع عليها إلاّ من تحقق أنه على عقيدته الخبيثة، ولو عصر هو وأتباعه بالعاصرات لما فيها من الزيغ والقبائح النحسات.
قال بعض العلماء من الحنابلة في الجامع الأموي في ملأ من الناس: لو اطلع الحصني على ما اطلعنا عليه من كلامه لأخرجه من قبره وأحرقه، وأكّد هؤلاء أن أتعرض لبعض ما وقفت عليه…».
ثم قال:
«.. فأوّل شيء سلكه من المكر والخديعة أن انتمى إلى مذهب الإمام أحمد، وشرع يطلب العلم ويتعبّد، فمالت إليه قلوب المشايخ، فشرعوا في إكرامه والتوسعة عليه، فأظهر التعفّف، فزادوه في الرغبة فيه والوقوع عليه، ثم شرع ينظر في كلام العلماء ويعلّق في مسودّاته، حتى ظن أنه صار له قوة في التصنيف والمناظرة، وأخذ يدوّن ويذكر أنه جاءه استفتاء من بلد كذا وليس لذلك حقيقة، فيكتب عليها صورة الجواب ويذكر ما لا ينتقد عليه، وفي بعضها ما يمكن أن ينتقد إلاّ أنه يشير إليه على وجه التلبيس بحيث لا يقف على مراده إلاّ حاذق عالم متفنّن، فإذا ناظر أمكنه أن يقطع من ناظره إلاّ ذلك المتفنّن الفطن.
ثم شرع يتلقى الناس بالأنس وبسط الوجه ولين الكلام ويذكر أشياء تحلو للنفس، لاسيما الألفاظ العذبة مع اشتمالها على الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، فطلبوا منه أن يذكّر الناس ففعل، فطار ذكره بالعلم والتعبّد والتعفّف، ففزع الناس إليه بالأسئلة، فكان إذا جاءه أحدٌ يسأله عن مسألة قال له: عاودني فيها، فإذا جاءه قال: هذه مسألة مشكلة، ولكن لك عندي مخرج أقوله لك بشرط فإني أتقلّدها في عنقي، فيقول: أنا أوفي لك، فيقول: أن تكتم عليّ، فيعطيه العهود والمواثيق على ذلك، فيفتيه بما فيه فرجه، حتى صار له بذلك أتباع كثيرة يقومون بنصرته إن عرض له عارض.
ثم إنه علم أن ذلك لا يخلصه، فكان إذا كان في بعض المجالس قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، قد انفتقت فتوق من أنواع المفاسد يبعد ارتتاقها، ولو كان لي حكم لكنت أجعل فلاناً وزيراً وفلاناً محتسباً وفلاناً دو يداراً وفلاناً أمير البلد، فيسمع أولئك وفي قلوبهم من تلك المناصب، فكانوا يقومون في نصرته.
ثم أعلم أن مثل هؤلاء قد لا يقدرون على مقاومة العلماء إذا قاموا في نحره، فجعل له مخلصاً منهم، بأن ينظر إلى من الأمر إليه في ذلك المجلس فيقول له: ما عقيدة إمامك؟ فإذا قال كذا وكذا، قال: أشهد أنها حق وأنا مخطىء، واشهدوا أني على عقيدة إمامك. وهذا كان سبب عدم إراقة دمه، فإذا انفضّ المجلس أشاع أتباعه أن الحق في جهته ومعه وأنه قطع الجميع; ألا ترون كيف خرج سالماً. حتى حصل بسب ذلك افتتان خلق كثير لا سيما من العوام.
فلما تكرر ذلك منه علموا أنه إنما يفعل ذلك خديعة ومكراً، فكانوا مع قوله ذلك يسجنونه، ولم يزل ينتقل من سجن إلى سجن حتى أهلكه الله عزّوجلّ في سجن الزندقة والكفر»(1).
«.. ولنرجع إلى ما ذكره ابن شاكر في تاريخه، ذكره في الجزء العشرين قال: وفي سنة خمس وسبعمائة في ثامن رجب، عقد مجلس بالقضاة والفقهاء بحضرة نائب السلطنة بالقصر الأبلق، فسئل ابن تيمية عن عقيدته، فأملى شيئاً منها، ثم أحضرت عقيدته الواسطية وقرئت في المجلس ووقعت بحوث كثيرة وبقيت مواضع اُخّرت إلى مجلس ثان، ثم اجتمعوا يوم الجمعة ثاني عشر رجب وحضر المجلس صفي الدين الهندي وبحثوا، ثم اتفقوا على أن كمال الدين ابن الزملكاني يحاقق ابن تيمية ورضوا كلّهم بذلك، فأفحم كمالُ الدين ابنَ تيمية، وخاف ابن تيمية على نفسه فأشهد على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب، ويعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي، فرضوا منه بذلك وانصرفوا، ثم إن أصحاب ابن تيمية أظهروا أن الحق ظهر مع شيخهم، وأن الحق معه، فأحضروا إلى مجلس القاضي جلال الدين القزويني وأحضروا ابن تيمية وصفع ورسم بتعزيره…»(2).
وقال:
«.. وأنه عقد لهم مجلس بقلعة القاهرة بحضرة القضاة والفقهاء والعلماء والأمراء، فتكلّم الشيخ شمس الدين عدنان الشافعي، وادّعى على ابن تيمية في أمر العقيدة، فذكر منها فصولا، فشرع ابن تيمية فحمد الله تعالى وأثنى عليه وتكلّم بما يقتضي الوعظ، فقيل له: يا شيخ، إن الذي تقوله نحن نعرفه وما لنا حاجة إلى وعظك، وقد اُدّعي عليك بدعوى شرعية فأجب. فأراد ابن تيمية أن يعيد التحميد فلم يمكّنوه من ذلك بل قيل له: أجب، فتوقف وكرّر عليه القول مراراً، فلم يزدهم على ذلك شيئاً، وطال الأمر، فعند ذلك حكم القاضي المالكي بحبسه وحبس أخويه معه، فحبسوه في برج من أبراج القلعة، فتردّد إليه جماعة من الأمراء، فسمع القاضي بذلك، فاجتمع بالأمراء وقال: يجب عليه التضييق إذا لم يقتل، وإلاّ فقد وجب قتله وثبت كفره»(3).

وقال:
«.. فكتب عليها الإمام العلاّمة برهان الدين الفزاري نحو أربعين سطراً بأشياء، وآخر القول أنه أفتى بتكفيره، ووافقه على ذلك الشيخ شهاب الدين ابن جهبل الشافعي، وكتب تحت خطه كذلك المالكي، وكذلك كتب غيرهم ووقع الإتفاق على تضليله بذلك وتبديعه وزندقته.
ثم أراد النائب أن يعقد لهم مجلساً ويجمع العلماء والقضاة، فرأى أن الأمر يتسع فيه الكلام ولابد من إعلام السلطان بما وقع، فأخذ الفتوى وجعلها في مطالعه وسيّرها، فجمع السلطان لها القضاة، فلما قرئت عليهم أخذها قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة وكتب عليها: القائل بهذه المقالة ضال مبتدع. ووافقه على ذلك الحنفي والحنبلي، فصار كفره مجمعاً عليه…»(4).
وقال:
«.. وهذا وغيره مما هو كثير في كلامه، يتحقق به جهله وفساد تصوّره وبلادته. وكان بعضهم يسمّيه حاطب ليل، وبعضهم يسميه الهدّار المهذار، وكان الإمام العلاّمة شيخ الإسلام في زمانه أبو الحسن عليّ بن إسماعيل القونوي يصرّح بأنه من الجهلة، بحيث لا يعقل ما يقول…»(5).

(1) دفع شبه من شبّه وتمرّد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الإمام أحمد ـ ابن تيمية الحراني وآراؤه: 75ـ78.
(2) دفع شبه من شبّه وتمرد ـ تاريخ ابن تيمية الأسود: 90ـ91.
(3) المصدر ـ تاريخ ابن تيمية الأسود: 92.
(4) دفع شبه من شبّه وتمرّد: 94 ـ 95.
(5) المصدر ـ كلام ابن تيمية في الاستواء ووثوب الناس عليه: 89ـ90.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *