الحجاج خير من المختار

بل والحجاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيد، فإن الحجاج كان مبيراً كما سماّه النبي صلّى الله عليه وسلّم، يسفك الدّماء بغير حق، والمختار كان كذّاباً يدّعي النبوّة وإتيان جبريل إليه، وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس، فإن هذا كفر، وإن كان لم يتب منه كان مرتدّاً، والفتنة أعظم من القتل»(1).
أقول:
إن جميع ما ذكره عن بني هاشم وعبدالله بن العبّاس وزيد بن علي ومحمّد بن أبي بكر، والأشتر والمرقال، والمختار… كلّه سباب وأكاذيب وافتراءات لا أساس لشيء منها من الصحّة، وفي بعضها دلالة على ذلك، لأنك ترى ـ مثلا ـ في كلامه عن «محمّد بن أبي بكر» لا يذكر روايةً منقولةً عن كتاب، ولا يأتي بشاهد من كلام لأحد، وإنما فيه «يقال» و «قالوا» ونحو ذلك… وفي كلامه عن «الاشتر» و«المرقال» يخبر عن باطنهما وعن باطن أميرالمؤمنين، وأنّه لم يمكنه قمعهما، والحال أنهما من أعلام المجاهدين معه حتى آخر لحظة!!
والشيء المهمُّ الذي ينبغي الكلام عليه هو تطبيقه حديث: «إنّ في ثقيف
كذّاباً ومبيراً» على المختار والحجّاج، بأن يكون «الكذّاب» هو «المختار» لكونه ادّعى نزول الوحي عليه، «والمبير» هو الحجّاج، لكونه أهلك ناساً وسفك دماءً لا تحصى.
وقد فسّر غيره أيضاً الحديث المذكور بهذا المعنى… فهما وصفان لرجلين.
لكنّ منهم من يجعل من أخبر عنه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رجلا واحداً اجتمع فيه الوصفان فقال: هو المختار لكونه كذب بادّعاء الوحي، وقتل قتلة الحسين عليه السلام…
وقائل هذه المقالة أشدّ تعصّباً، لكونه يرى المقتصّ من قتلة الحسين عليه السّلام «مبيراً»، وينسب ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كاذباً عليه!!
لكنّ وصف «المختار» بشيء من الوصفين باطل، إذ لا دليل على ادّعائه الوحي إطلاقاً، كما أنّ وصفه بـ «المبير» ـ وهو صفة ذم ـ باطلٌ، لأنّه إنما قتل قتلة الإمام الحسين عليه السلام، وشفى بفعله صدور النبي وأهل بيته وصدور قوم مؤمنين.
بل الحق أنّ «الكذّاب المبير» هو «الحجّاج». أمّا كونه «مبيراً» فمعلوم عند الكلّ، وأمّا ادّعاؤه الوحي، فقد رواه أهل السنّة أنفسهم بترجمته، وهذه بعض الأخبار في ذلك:
«قال عتّاب بن أسيد بن عتاب: لما قبض النبي صلّى الله عليه وسلّم، جعلت اُمّ أيمن تبكي ولا تستريح من البكاء، فقال أبو بكر لعمر: قم بنا إلى هذه المرأة، فدخلا عليها فقالا: يا اُمّ أيمن ما يبكيك؟ قد أفضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ما هو خير له من الدنيا. فقالت: ما أبكي لذلك، إني لأعلم أنه قد أفضى إلى ما هو خير من الدنيا، ولكن أبكي على الوحي انقطع.
فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فقال: كذبت اُمّ أيمن، ما أعمل إلاّ بوحي».
«قال عوف: خرجت يوم عيد فقلت: لأسمعنّ الليلة خطبة الحجّاج، فجئت فجلست على الدكان، وجاء الحجاج يتمايل حتى صعد المنبر فتكلّم، وكان إذا أكثر وضع يده على فيه حتى يفهمنا كلامه، ثم قال:
… تزعمون ـ يا أهل العراق ـ إن خبر السماء قد انقطع عن أميرالمؤمنين! وكذبتم ـ والله ـ يا أهل العراق ـ، والله ما انقطع خبر السماء عنه، إن عنده منه كذا وعنده منه كذا!».
«حدّث بزيع بن خالد الضبّي قال: سمعت الحجّاج يخطب، فقال في خطبته: رسول أحدكم في حاجة أكرم عليه أم خليفته في أهله؟ فقلت في نفسي: لله عليَّ ألاّ اُصلّي خلفك صلاةً أبداً، وإن وجدت قوماً يجاهدونك لأجاهدنّك معهم.
«قال عاصم: سمعت الحجاج ـ وهو على المنبر ـ يقول: إتّقوا الله ما استطعتم، ليس فيها مثوبة، واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثوبة لأمير المؤمنين عبد الملك، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من المسجد فخرجوا من باب آخر، لحلّت لي دماؤهم وأموالهم. والله لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من الله حلالا.
ويا عذيري من عبد هذيل، يزعم أن قرآنه من عند الله، والله ما هي إلاّ رجز من رجز الأعراب، ما أنزلها الله عزّوجلّ على نبيه صلّى الله عليه وسلّم.
«قال عوف: سمعت الحجاج يخطب وهو يقول: إن مثل عثمان عند الله كمثل عيسى بن مريم، ثم قرأ هذه الآية يقرؤها ويفسّرها: (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ) يشير إلينا بيده وإلى أهل الشام»(2).
هذا، وقد ذكر ابن تيمية أنّ الحجّاج تزوّج بابنة عبد الله بن جعفر، فخالفته بنو اُميّة وحملوه على طلاقها. فذكر لذلك سبباً غير ما هو الواقع والحقيقة، بل الحقيقة يرويها إمام الشافعية محمّد بن إدريس:
«قال محمّد بن إدريس الشافعي: لمّا تزوّج الحجاج بن يوسف إبنة عبد الله ابن جعفر، قال خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك بن مروان: أتركت الحجاج يتزوّج ابنة عبد الله بن جعفر؟ قال: نعم، وما بأس بذلك؟ قال: أشد البأس والله! قال: وكيف؟ قال: والله ـ يا أميرالمؤمنين ـ لقد ذهب ما في صدري على ابن الزبير منذ تزوّجت رملة بنت الزبير. قال: فكأنّه كان نائماً فأيقظه، قال: فكتب إليه يعزم عليه في طلاقها. فطلّقها»(3).

(1) منهاج السنة 2/68ـ71.
(2) هذه الكلمات ونحوها في مختصر تاريخ دمشق ـ الترجمة 141 ـ الحجاج بن يوسف بن الحكم 6/214ـ215 وتهذيب تاريخ دمشق ـ ترجمة الحجاج بن يوسف الثقفي المشهور 4/71ـ73.
(3) مختصر تاريخ دمشق ـ الترجمة 141، الحجاج بن يوسف بن الحكم 6/205.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *