رأي الميرزا النائيني و إشكالاته و الكلام حولها

اشكالات الميرزا على نفسه وجوابه عنها
ثمّ إن الميرزا أورد على نفسه اشكالات أربعة، وأجاب عنها(1).
الأوّل: إنه لا إطلاق مع وجود المقيّد العقلي حتى يتمسّك به، وعلى القول باقتضاء ذات الخطاب القدرة في المتعلّق، يتقيّد المتعلّق ويخرج عن الإطلاق. وبعبارة أُخرى: صحّة الفرد المزاحم من جهة الملاك، لا يجتمع مع القول باقتضاء الخطاب القدرة في المتعلّق، لأنّه بناءً عليه تكون القدرة دخيلةً في ملاك الحكم، وبارتفاعها يرتفع الملاك.
الثاني: إنّه لو سلّمنا عدم القطع بالتقييد باقتضاء الخطاب، فلا ريب في أنّ ذلك صالح للقرينيّة، فيكون المقام من صغريات احتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة، فلا ينعقد الإطلاق، ليتم الملاك فيقصد بالفرد المزاحم.
الثالث: إنّه لو سلّمنا عدم الصلاحيّة للتقييد، إلاّ أنّ إطلاق المتعلّق إنّما يكشف عن عدم دخل القيد في الملاك، فيما إذا لزم نقض الغرض من عدم التقييد في مقام الإثبات، مع دخله في مقام الثبوت، وأمّا إذا لم يلزم نقض الغرض، فلا يكون الإطلاق في مقام الإثبات كاشفاً عن عدم القيد فيه ثبوتاً، فلو كان غرض المولى متعلّقاً بالرقبة المؤمنة ـ مثلاً ـ كان عليه البيان في مقام الإثبات لئلاّ يلزم نقض الغرض، ومن عدم البيان نستكشف عدم دخل الإيمان في الغرض ويتم الإطلاق. وأمّا إذا لم يلزم في مورد نقض الغرض من عدم البيان، فلا يتم استكشاف الإطلاق.
وما نحن فيه من هذا القبيل، وذلك لأنّا نعلم بأنّ المكلّف عاجز عن الإتيان بالفرد غير المقدور، فهو غير محتاج إلى البيان كي نقول بأنّ عدم البيان عن التقييد كاشف عن الإطلاق وإلاّ يلزم نقض الغرض… فالمورد ليس من موارد التمسّك بإطلاق المتعلّق.
الرابع: إنّ أوّل مقدّمات الإطلاق هو كون المتكلّم في مقام البيان من تلك الجهة التي يراد التمسّك بالإطلاق فيها، وبدون ذلك فلا يتم الإطلاق… مثلاً: الآية المباركة: ( فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عليه ) في مقام بيان حليّة أكل هذا الصيد، وليست في مقام البيان من جهة الطهارة والنجاسة حتى يُتمسّك بإطلاقها فيقال بطهارة هذا الحيوان الذي اصطاده الكلب.
وفيما نحن فيه: المولى في مقام بيان متعلّق حكمه، وليس في مقام بيان ملاك الحكم، حتّى يقال بأنّه لم يقيّد بالقدرة، فالملاك مطلق والمتعلّق للحكم مطلق.
والجواب:
أمّا عن الإشكال الأوّل، فبأنّ تقييد المتعلّق عقلاً يكون إمّا باقتضاء الخطاب كما هو مسلك الميرزا، وإمّا بحكم العقل، ولا ثالث لهما. والأوّل تقييد عقلي ذاتي والثاني تقييد عرضي. وأيضاً: فإنّ الأوّل متحقّق في كلّ خطاب لأنّه باقتضاء نفس الخطاب، بخلاف الثاني، فهو يختص بالخطاب الصادر من الحكيم، لكون خطاباته تابعة للحسن والقبح العقليين، فالأوّل يرجع إلى اقتضاء العقل النظري، والثاني إلى اقتضاء العقل العملي وهو قبح تكليف العاجز.
وحينئذ: فإنْ كان المدّعى تقييد متعلّق الحكم ـ وهو المادّة ـ باقتضاء نفس الخطاب، فمن الواضح أنّ التقييد متأخّر عن الحكم المتأخّر عن المتعلّق، فهو متأخّر عن المتعلّق بمرتبتين، ولا يمكنه أنْ يؤثر في إطلاقه في مرحلة قيام الغرض تام بلا كلام.
وإن كان المدّعى تقييد المتعلّق بحكم العقل، فإن حكم العقل متأخّر عن حكم الشرع، تأخّر الحكم عن موضوعه، وحكم الشرع في مرتبة متأخّرة عن المتعلّق، فالتقييد متأخّر عن المتعلّق بمرتبتين كذلك.
فاندفع الإشكال الأوّل.
وبذلك يندفع الإشكال الثاني، فإنّه إذا ثبت استحالة التقييد، لا يبقى احتمالٌ حتى يكون صالحاً للقرينيّة.
وأمّا عن الإشكال الثالث، فقد ذكر جوابين:
أحدهما: إن هذا إنّما يتم فيما إذا كان الشك في اعتبار القدرة التكوينيّة في الملاك، لاستحالة صدور غير المقدور، فلا يلزم من عدم البيان نقض الغرض أصلاً. وأمّا إذا كان الشك في كون القدرة ـ ولو كانت شرعيّة ـ دخيلةً في الملاك كما هو المفروض في المقام، فيلزم نقض الغرض من عدم التقييد، إذ للمكلّف الإتيان بالواجب الموسّع مع التزاحم بينه وبين المضيّق تمسّكاً بالإطلاق، إذن، لابدّ من البيان، ومع عدمه يستكشف عدم الدخل ويتم الإطلاق.
والثاني: إن لزوم نقض الغرض ليس من مقدّمات الإطلاق، بل إنّ من مقدّماته تبعيّة مقام الإثبات لمقام الثبوت، فكون المتكلّم في مقام بيان جميع ما له دخل في غرضه يستلزم بيان ذلك كلّه وإلاّ لزم الخلف، فمن الإطلاق وعدم التقييد بقيد يستكشف عدم دخله في مقام الثبوت، بلا حاجة إلى ضمّ مقدّمة لزوم نقض الغرض.
وأمّا عن الإشكال الرابع فأجاب:
بأنّه ليس المراد الكشف عن الملاك من جهة كون المولى في مقام البيان له، بل المراد هو: إنّه لمّا كان في مقام بيان متعلّق حكمه، والأحكام تابعة للملاكات ومعلولة لها، فتوجّه التكليف إلى ذات المتعلّق بلا أخذ القيد فيه، يكشف عن كون العلّة ـ وهو الملاك ـ مطلقاً كذلك، فيصحّ حينئذ التمسّك بالإطلاق للكشف عن الملاك المطلق.
وإذا اندفعت الإشكالات، فلا مانع من التمسك بإطلاق المادّة للكشف عن الملاك، فيؤتى بالصّلاة بقصده.
قال الأُستاذ
وتنظّر الأُستاذ فيما أجاب به الميرزا عن الإشكالات… فوافق على الجواب الأول عن الإشكال الثالث. وأبطل الثاني: بأنه وإنْ كان المعروف عدم كون لزوم نقض الغرض من مقدّمات الإطلاق، لكنّ الحق هو كون المولى في مقام بيان الغرض، لأنّ الأمر معلول له ولحاظ المولى له عرضي، ولكنّ لحاظه للغرض ذاتي، لأنه هو العلّة للأمر.
وأمّا جوابه عن الإشكالين ـ الأوّل والثاني ـ وملخّصه: استحالة تقييد ما هو المتأخّر رتبةً لما هو متقدّم في الرتبة، ففيه:
إنّ المقيّد هو المولى إنْ أخذ القيد في المتعلّق، وهو المطلق إنْ رفضه، وانقسام الصّلاة إلى المقدورة وغير المقدورة، أمر واقعي طارئ على الصّلاة قبل حكم المولى ـ لا في مرتبته ولا بعده ـ سواء وجد الحكم أو لا… فإنْ كان القيد دخيلاً في غرض المولى الملتفت إلى الإنقسام أخذه في متعلّق حكمه وإلاّ رفضه، فالإطلاق والتقييد بالنسبة إلى القدرة ليس من الإنقسامات الحاصلة من ناحية الخطاب، بل هو القرينة على أخذ المولى للقيد في المتعلّق، والتقييد حاصل في رتبة المتعلّق، غير أنّ القرينة عليه ـ وهو الخطاب ـ متأخّر عن ذي القرينة بالتأخّر الطبعي كما حقّق في محلّه، وإذا كان التقييد في مرتبة المتعلّق فلا إطلاق.
وبما ذكر يسقط الجواب عن الإشكال الثاني.
وأمّا جوابه عن الإشكال الرابع ففيه:
إنّه قد ورد الأمر بالصّلاة في مرتبة الاستعمال على طبيعي الصّلاة، لكنّه مقيّد عقلاً ـ باقتضاء الخطاب عند الميرزا ـ بالحصّة المقدورة، فالمراد الجدّي من الصّلاة أخصّ من المراد الاستعمالي، والكاشف عن الملاك هو المراد الجدّي لا الاستعمالي، وإذا كان المراد الجدّي هو الحصّة المقدورة من الصّلاة، فكيف يكون كاشفاً عن وجود الملاك في الحصّة غير المقدورة ؟
وبتعبير السيد الأُستاذ: « إنّ الدليل الدال على تبعيّة الأحكام للمصالح من إجماع أو عدم اللغوية والحكمة لا يقتضي سوى توفّر الملاك فيما انبسط عليه الأمر وبعث نحوه، وإن كان قد تعلّق في ظاهر الخطاب بالمطلق، ولا ملازمة بين وجود الملاك وأخذ الشيء في متعلّق الأمر خطاباً، والمفروض فيما نحن فيه أن الأمر وإنْ كان يرد على المطلق لا على المقيّد، ولكنْ إنما ينبسط في مرحلة عروضه على الحصّة المقدورة دون الأعم »(2).
فالحق: امتناع التمسّك بالإطلاق، لوجود القرينة العقليّة، بحكم العقل بقبح تكليف العاجز أو باقتضاء نفس الخطاب لأنْ يتوجّه التكليف إلى الحصّة المقدورة، فإنّ هذه القرينة مانعة من انعقاد الإطلاق في المادّة، وحينئذ، فلا كاشف عن الغرض.

(1) أجود التقريرات 2 / 26 ـ 27.
(2) منتقى الأُصول 2 / 380.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *