رأي السيد الخوئي

وذكر السيد الخوئي في مقام الأصل العملي(1) أربعة صور:
( الصورة الأُولى ) ما إذا علم المكلّف بوجوب شيء إجمالاً في الشريعة وتردّد بين كونه نفسيّاً أو غيريّاً، وهو يعلم بأنّه لو كان غيريّاً لم يكن وجوب ذلك الغير بفعلي، كما إذا علمت الحائض بوجوب الوضوء عليها وشكّت في أنّ وجوبه عليها نفسي أو غيري، وأنّه في حال الغيريّة للصّلاة فلا فعليّة لوجوبها لكونها حائض.
( الصورة الثانية ) ما إذا علم المكلّف بوجوب شيء فعلاً وتردّد بين كون وجوبه نفسيّاً أو غيريّاً، وهو يعلم أنّه لو كان غيريّاً ففعليّة وجوب الغير يتوقّف على تحقق ذلك الشيء خارجاً. كما إذا علم بتحقّق النذر ولكنْ تردّد بين الوضوء والصّلاة… كما تقدّم.
وقد ذهب قدّس سرّه إلى البراءة في كلتا الصورتين، أمّا في الأولى، فهي جارية في الشيء المشكوك فيه، لعدم العلم بوجوب فعلي على كلّ تقدير، إذ على تقدير الغيريّة لا يكون فعليّاً لعدم فعليّة وجوب ذي المقدمة. وأمّا في الثانية، فهي جارية في الصّلاة على ما تقدّم بيانه.
( الصورة الثالثة ) ما إذا علم المكلّف بوجوب كلٍّ من الفعلين في الخارج، وشك في أنّ وجود أحدهما مقيّد بوجود الآخر مع علمه بتماثل وجوبيهما من حيث الاطلاق والإشتراط من بقية الجهات، أي إنهما متساويان إطلاقاً وتقييداً، كوجوب الوضوء والصّلاة مثلاً.
فذكر عن الميرزا القولَ بالبراءة، واختار هو الإحتياط، ( قال ): قد أفاد شيخنا قدّس سرّه: أنّ الشك حيث أنّه متمحّض في تقييد ما علم كونه واجباً نفسيّاً كالصلاة بواجب آخر وهو الوضوء ـ مثلاً ـ فلا مانع من الرجوع إلى البراءة عن ذلك التقييد، لفرض أن وجوب الصّلاة والوضوء معلوم، ومتعلّق الشك خصوص تقييد الصّلاة به أي خصوصيّة الغيريّة، فالبراءة تجري عن التقييد.
( فأجاب ) بأنّ أصالة البراءة عن التقييد المذكور معارضة بأصالة البراءة عن وجوب الوضوء بوجوب نفسي، وذلك لأنّ المعلوم تفصيلاً وجوبه الجامع بين النفسي والغيري، وأمّا الخصوصيّة فمشكوك فيها، فلا مانع من جريان الأصل في الخصوصيّة في كلا الطرفين، ويتعارض الأصلان، ويكون المرجع قاعدة الإحتياط، فيجب الإتيان بالوضوء أوّلاً، ثمّ بالصّلاة.
أقول:
وقد قرّب الأُستاذ دام بقاه رأي السيد الخوئي في هذه الصّورة وأوضح الفرق بينها وبين الصّورة السابقة التي قال فيها بالبراءة عن الصّلاة… بأنّ صورة المسألة السابقة هي: إمّا الصّلاة واجبة بالوجوب النفسي وإمّا الوضوء، ومعنى ذلك أنّه إن كان الواجب النفسي هو الصّلاة فالوضوء وجوبه غيري، ولذا تحقّق العلم التفصيلي في وجوب الوضوء، والشك البدوي في وجوب الصّلاة. أمّا الصّورة الثالثة هذه، فلا شكّ في وجوب الصّلاة ـ ووجوبها نفسي ـ بل الشك في ناحية الوضوء، وللعلم الإجمالي طرفان، أحدهما: الوجوب النفسي للوضوء، والآخر: الوجوب الغيري له… ومقتضى العلم الإجمالي هو الاحتياط.
فالحقّ مع المحاضرات خلافاً للميرزا.
( الصّورة الرابعة ) ما إذا علم المكلّف بوجوب كلٍّ من الفعلين وشكّ في تقييد أحدهما بالآخر، مع عدم العلم بالتماثل بينهما من حيث الإطلاق والتقييد، وذلك: كما إذا علم باشتراط الصّلاة بالوقت وشك في اشتراط الوضوء به من ناحية الشك في أنّ وجوبه نفسي أو غيري، وأنّه على الأوّل غير مشروط وعلى الثاني مشروط، لتبعيّة الوجوب الغيري للنفسي في الإطلاق والإشتراط.
( قال ): وقد أفاد شيخنا الأُستاذ أن البراءة جارية من جهات ( الأُولى ): الشك في تقييد الصّلاة بالوضوء، وهو مجرى البراءة، فتصحّ بلا وضوء. ( الثانية ): الشك في وجوب الوضوء قبل الوقت الذي هو شرط لوجوب الصّلاة، والمرجع البراءة، ونتيجة ذلك نتيجة الغيريّة من ناحية عدم ثبوت وجوبه قبل الوقت في المثال ( الثالثة ): الشك في وجوب الوضوء بعد الوقت بالإضافة إلى من أتى به قبله، ومرجع هذا الشك إلى أنّ وجوبه قبل الوقت مطلق أو مشروط بما إذا لم يؤت به قبله، وبما أنّ ذلك مشكوك فيه بالإضافة إلى من أتى به قبله، فلا مانع من الرجوع إلى البراءة، والنتيجة تخيير المكلّف بين الإتيان بالوضوء قبل الوقت وبعده، قبل الصّلاة وبعدها.
( قال ) ولنأخذ بالنظر في هذه الجهات، بيان ذلك: إن وجوب الوضوء في مفروض المثال، المردّد بين النفسي والغيري، إن كان نفسيّاً، فلا يخلو من أنْ يكون مقيّداً بإيقاعه قبل الوقت أو يكون مطلقاً، وإن كان غيريّاً، فهو مقيَّد بما بعد الوقت على كلّ تقدير.
وعلى الأوّل، فلا يمكن جريان البراءة عن تقييد الصّلاة بالوضوء، لمعارضته بجريانها عن وجوبه النفسي قبل الوقت، للعلم الإجمالي بأنّه إمّا واجب نفسي أو واجب غيري، وجريان البراءة عن كليهما مستلزم للمخالفة القطعيّة العمليّة; فلابدّ من الاحتياط والوضوء قبل الوقت، فإن بقي إلى ما بعده أجزأ عن الوضوء بعده ولا تجب الإعادة، وإلاّ وجبت لحكم العقل بالإحتياط.
وعلى الثاني: فلا معنى لإجراء البراءة عن وجوب الوضوء قبل الوقت، لعدم احتمال تقيّده به، لأنّ مفاد أصالة البراءة رفع الضّيق عن المكلّف لا رفع السّعة، وأمّا بعد الوقت فيحكم العقل بوجوب الوضوء، للعلم الإجمالي بوجوبه إمّا نفسيّاً وإمّا غيريّاً، ولا يمكن إجراء البراءة عنهما معاً، ومعه يكون العلم الإجمالي مؤثّراً ويجب الإحتياط.
نعم، لو شككنا في وجوب إعادة الوضوء بعد الوقت على تقدير كونه غيريّاً، أمكن رفعه بأصالة البراءة، لأنّ تقييده بما بعد الوقت على تقدير كون وجوبه غيريّاً مجهول، فلا مانع من الأصل، لأنّ وجوبه إنْ كان نفسيّاً فهو غير مقيّد بذلك، وإن كان غيريّاً، فالقدر المعلوم تقيّد الصّلاة به وأمّا تقيّدها بخصوصيّة بعد الوقت فشيء زائد مجهول، فيدفع بالأصل.
فالبراءة لا تجري إلاّ في الجهة الأخيرة.

(1) محاضرات في أُصول الفقه 2 / 222.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *