رأي السيد البروجردي و المحقق الإصفهاني و الكلام حولهما

رأي السيد البروجردي و المحقق الإصفهاني و الكلام حولهما
وذهب المحقق البروجردي إلى أنّ الموضوع هو « الحجّة في الفقه » وتلقّاه بعضهم بالقبول وتعبيره : « ماهو الدليل على الحكم الشرعي » ، وسيأتي ذكر رأي المحقق الإصفهاني .
وتقريب الإستدلال كما في تقرير بحثه(1) هو : إنا نعلم بوجود الحجج الشرعيّة على الأحكام الشرعيّة ، فلكلّ حكم من الأحكام دليلٌ ، غير أنّا نجهل بتعيّنات تلك الأدلة والحجج ، وقد جعل علم الاصول للبحث عنها ، وأنّه هل الدليل والحجة على الأحكام الفقهية العملية هو خبر الواحد أو لا ؟ ظاهر الكتاب أو لا ؟ الشهرة أو لا ؟ وهكذا . فالموضوع في الحقيقة هو ما يكون عندنا معلوماً ، والمحمول ما يكون مجهولا ونريد رفع الجهل عنه ، مع لحاظ أن المراد من « العارض » هنا هو العارض المنطقي لا الفلسفي ، فالمقصود ما كان خارجاً عن الشيء ومحمولا عليه ، أي : فكما يكون الوجود خارجاً عن ذات الجوهر ومحمولا عليه كذلك نقول : الخبر حجة ، بمعنى أن الحجيّة خارجة عن ذات الخبر ومحمولة عليه .
والكلام على هذا الرأي يقع في جهتين ، جهة الكبرى وأصل المبنى في موضوع كلّ علم ، وجهة التطبيق على علم الاُصول ، أمّا الجهة الأولى ، فقد تقدّم الكلام عليها . وأمّا في الجهة الثانية ، فقد طبق رحمه الله ماذكره على الخبر والشهرة والإجماع ، وهذا لا كلام فيه .
أمّا على القطع ، فيرد عليه أنّ القطع بالحكم الشرعي إنّما هو نتيجة المسألة الاصوليّة ، أي : إن المسائل في هذا العلم مبادي تحصيل القطع بالحكم الشرعي وانكشافه ، والنتيجة دائماً متأخرة ، فلا يصح جعل حجيّة القطع مبحثاً من مباحث علم الاصول .
وكذا على المفاهيم ، فإنه يرد عليه بأنّ المراد من « الحجة » في باب المفاهيم هو أصل وجود المفهوم لا حجيّته ـ بعد وجوده ـ كما في باب الأخبار مثلا .
ثم إنه يرد على ما أفاده خروج مباحث الألفاظ من الأوامر والنواهي ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيّد ، والمشتق ، والصحيح والأعم … لأنّ البحث في هذه المسائل ليس عن تعيّنات الحجّة .
والنكتة المهمّة الجديرة بالذكر هي : جعله تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي هو الغرض من علم الاُصول ، فيكون الموضوع لهذا العلم هو « الحجة » لأنه الموافق للغرض ، مع أنّ شأن علم الاصول ، بالنسبة إلى الأحكام الفقهيّة ، شأن علم المنطق بالنسبة إلى الفكر الصحيح والإستدلال المتين في سائر العلوم ، فعلم الاصول كالآلة بالنسبة إلى علم الفقه ، ولذا عبّر المحقق الخراساني بالصّناعة ، كما سيأتي … فعلم الاصول ـ بالنظر الدقيق ـ هو المبادئ التصديقيّة لمحمولات موضوعات الفقه ، ففي الاصول يتمّ وجه صحّة حمل « الوجوب » على « الصلاة » مثلا … وهناك تقوم الحجة على ثبوته لها … وهكذا .
فالحق في المسألة : إنّ لموضوع علم الاصول خصوصيّة الصّلاحيّة للاتّصاف بالحجيّة للحكم الشرعي ، وكلّ مسألة يكون لموضوعها هذه الخصوصيّة فهي مسألة اصوليّة ، والجامع بين هذه الموضوعات عرضي وليس بذاتي ، وحينئذ لا يرد الإشكال الثالث بخروج كثير من المباحث ، لأن الموضوع في مسألة « الإجزاء » هو إتيان المأمور به ، فإذا ثبت كونه مجزياً كان حجةً على صحّة العمل وسقوط القضاء ، فكان الموضوع المذكور صالحاً لانطباق عنوان الحجة عليه ، والموضوع في مسألة المقدّمة يصلح ـ بعد ثبوت الاستلزام ـ لأنْ يكون حجةً ، على القول بوجوب المقدمة ، والخبر موضوع يصلح ـ بعد ثبوت حجيّته ـ لأن يكون حجةً على الحكم الشرعي .
وعلى هذا الأساس قال المحقق الإصفهاني بأنه ليس لعلم الاصول موضوع معيَّن ، بل هو موضوعات مختلفة لها جامع عرضي ، وهو كونها منسوبة إلى غرض واحد هو إقامة الحجّة على الحكم الشّرعي ، نظير علم الطب الذي لا جامع ذاتي بين موضوعات مسائله ، وإنّما يجمعهاعنوان عرضي ، وهو مايعبّر عنه بمايكون منسوباً إلى الصحّة .
ولا يرد على هذا البيان شيء مما ذكر ، وإن كان في التنظير بين الاصول والطب نظر ، نظراً إلى أن ماذكره يتم في علم الطب ، فكلّ ما يكون له علاقة بصحّة البدن فهو من مسائله ، لكنْ ليس كلّ ماله علاقة بإقامة الحجّة يعدّ من مسائل علم الاُصول ، فعلم الرجال ـ مثلا ـ له نسبة وعلاقة بإقامة الحجة على حكم العمل ، مع أنّه علم مستقل عن الاصول .
إنما الكلام في كيفيّة هذه العلاقة والدخل ، فإنا إذا قلنا بأنْ المعتبر أنْ تكون العلاقة مباشرة والدخل بلا واسطة ، لزم خروج عمدة المباحث الاصولية ، لكون دخلها في إقامة الحجة مع الواسطة ، فلا يبقى تحت التعريف إلاّ مثل الخبر والشّهرة مما يكون دخله بالمباشرة ، وتحمل « الحجيّة » عليه بلا واسطة ، أمّا مثل مباحث العام والخاص والإطلاق والتّقييد وظهورات الأوامر والنواهي ، فلا يكون شيء منها حجةً مالم تنطبق عليها ويضمّ إليها حجيّة الظاهر ، فعندئذ يمكن إقامة الحجّة على الحكم الشرعي بها … نظير علم الرّجال فإنّه إذا ثبت وثاقة زيد احتيج إلى كبرى حجيّة خبر الثقة ، فيكون دخيلا في إقامة الحجّة على الحكم الشرعي .
ثم لا يخفى الفرق بينه وبين مسلك المحقق البروجردي ، فإنه اتّخذ عنوان الحجّة في الفقه جامعاً بين محمولات المسائل وجعل المحمول الكلّي موضوعاً ، أمّا المحقق الإصفهاني ، فقد جعل الموضوع جامعاً بين موضوعات المسائل ، فهو من هذه الجهة موافق للمشهور غير أنه جعله عرضياً لا ذاتيّاً خلافاً لصاحب ( الكفاية ) .
والحاصل : إنه وإنْ لم يقم برهان على ضرورة وجود الموضوع الجامع بين موضوعات العلم ، إلاّ أن البيان المذكور غاية ما يمكن أنْ يقال .
أقول :
هذا ما أفاده مدّ ظلّه ، لكنّ ما أورده في الدورة السابقة باق على حاله ، وحاصله : إن الجامع العنواني لا يتّحد مع معنونه في الخارج ، لأن موطنه الذهن دائماً ، فجعله موضوعاً ـ والحال هذه ـ يؤول إلى إنكار الموضوع ، فليتدبّر .

(1) نهاية الاصول : 11 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *