الاحتياط

لقد نسب القول بالغسل إلى الجمهور… وحكي القول بالمسح عن جماعة من الصحابة والتابعين وكبار الأئمة… في غير ما كتاب من الكتب المتعرضة لهذه المسألة في التفسير والفقه والحديث…
ومع ذلك كلّه.. فربما نجد في كلمات بعضهم دعوى الإجماع على الغسل… بعد إنكار مخالفة من خالف، وإخراج الإمامية عن أهل الإسلام!!
يقول ابن العربي: « اتّفقت العلماء على وجوب غسلهما، وما علمت من ردّ ذلك سوى الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلّق الطبري بقراءة الخفض ».
وقد أورد غير واحد منهم هذا الكلام مرتضياً له(1).
وقال الخفاجي: « ومن أهل البدع من جوّز المسح على الرجل دون الخف، مستدلا بظاهر الآية. وللشريف المرتضى كلام في تأييده تركناه لإجماع أهل السنّة على خلافه »(2).
ولا يخفى ما في هذا الكلام! فالشيعة أهل البدع! وللشريف المرتضى كلام في تأييد البدعة! وهو ـ كما هو معلوم ـ من أعلام الشيعة!
وأين الإجماع مع مخالفة علي وأئمة أهل البيت، ومنهم الباقر الذي روى الطبري قوله، ومخالفة ابن عباس، وأنس، وعكرمة، والشعبي، والحسن البصري، والأعمش، وقتادة، ومجاهد… وغيرهم ممن ذكر الطبري(3) وغيره، ممّن تقدم ويأتي؟
فعلماء المسلمين متفقون على الغسل!!
والشيعة الإمامية ليسوا بمسلمين!
لكنّهم لم يجدوا مناصاً من الاعتراف بردّ الطبري من فقهاء المسلمين القول بالغسل، ثم حاولوا أن يحصروا الخلاف فيه… إذن، لم يبق الاّ الطبري… ثمّ اختلفوا في تحديد رأيه…!!
ثمّ جاء بعد قرون… من اكتشف أنّ الطبري الراد لتعيّن الغسل ـ ليس الطبري المعروف من فقهاء المسلمين.. وإنما هو الطبري من غيرهم… أي من الشيعة الإمامية… يقول الآلوسي:
« لا يخفى أنّ بحث الغسل والمسح ممّا كثر فيه الخصام، وطالما زلّت فيه الأقدام، وما ذكره الإمام(4) يدل على أنه راجل في هذا الميدان، وضالع لا يطيق العروج الى شأوى ضليع تحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان. فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك، رغماً لأنوف الشيعة السالكين من السبل كل سبيل حالك:
ما يزعمه الإمامية ـ من نسبة المسح إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنه وأنس بن مالك وغيرهما ـ كذب مفترى عليهم… ونسبة جواز المسح إلى أبي العالية وعكرمة والشعبي، زور وبهتان أيضاً. وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري عليه الرحمة. ومثله نسبة التخيير الى محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلقة، ورواها بعض أهل السنّة، ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار، بلا تحقق ولا سند، واتّسع الخرق على الراقع. ولعلّ محمّد بن جرير القائل بالتخيير هو محمّد بن جرير بن رستم الشيعي، صاحب المسترشد في الإمامة، لا أبو جعفر محمّد بن جرير ابن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنة، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح ولا الجمع، ولا التخيير الذي نسبه الشيعة اليه »(5).
أقول:
وهذا إن دلّ على شيء، فإنّما يدل على ضيق الخناق، ويكشف عن عدم قناعة القوم باستدلالاتهم من الكتاب والسنة… والاّ فما الداعي لتكذيب كبار علماء طائفته، ورميهم بعدم التمييز بين الصحيح والسقيم، ورمي الشيعة بالكذب والاختلاق…
لقد أفرط الرجل في التحامل، وتفّوه بما لا يجوز، فالله حسيبه…
وقد أنصف صاحب المنار اذ قال بعد نقل كلامه: « إنّ في كلامه ـ عفا الله عنه ـ تحاملا على الشيعة، وتكذيباً لهم في نقل وجد مثله في كتب أهل السنة كما تقدم، والظاهر أنه لم يطلع على تفسير ابن جرير الطبري… »(6).
إنّه لا يهمّنا التحقيق في رأي الطبري السنّي وأنه الجمع كما قال جماعة أو التخيير كما قال آخرون… وإنّما المهمّ التأكيد على ظهور الآية المباركة ـ لا سيّما على قراءة الجر ـ في المسح. وإذا كان الظهور فلا إجمال لتتقدم عليها السنّة تقدم المبين على المجمل، لو فرض اعتبار السنّة سنداً ودلالة، فكيف والاعتبار غير ثابت، وعلى فرضه فهي روايات ساقطة بالتعارض؟
ولهذه الأُمور، نرى الطبري ـ وغيره ممّن ذكروا رأيه ومن لم يذكروا ـ لا يقول بإجزاء الغسل وحده، فيذهب إلى الجمع أو التخيير، عملا بكلا الطرفين.
بل لقد وجدت جماعة من الأئمة الأعلام كأحمد والأوزاعي يقولون بجواز مسح القدمين… قال القاري في مسألة مسح الرأس والأُذنين:
« قال ابن حجر: والأولى: غسلهما مع الوجه ومسحهما مع الرأس، خروجاً من الخلاف.
وفيه: انّه لم يعرف في الشرع جمع عضو واحد بالغسل والمسح. وأيضاً: وجود المسح بعد الغسل عبث ظاهر.
نعم، صحّ المسح والغسل في الرجلين على ما قاله بعض الظاهرية، فله وجه وجيه، إن قدم المسح على الغسل، فإنّ الغسل بعده يقع تكميلا له مع الخروج عن الخلاف.
ولم أرد خلاف الشيعة، وانّما أريد ما روي عن ابن عباس من أنّ الفرض هو المسح، وما حكي عن أحمد والأوزاعي والثوري وابن جبير من جواز مسح جميع القدمين، فإنّ الانسان مخير عندهم بين الغسل والمسح »(7).
فهذه العبارة صريحة في ذهاب هؤلاء الأئمة إلى جواز المسح، كما نسب الشوكاني إليهم القول بالتخيير(8). فهؤلاء اذن رادّون للقول بتعيّن الغسل، وكذلك الشافعي، فإنّ عبارته صريحة في التخيير قال: « غسل الرجلين كمال والمسح رخصة وكمال، وأيّهما شاء فعل »(9).

الاحتياط
ولهذه الأُمور نرى بعضهم يقول بأنّ مقتضى الاحتياط هو الغسل، مستدلا بأنّه مشتمل على المسح دون العكس(10).
فلو كانت الآية غير ظاهرة في المسح، وكانت دلالة السنّة على الغسل تامّة… لم يكن للقول بالاحتياط وجه…
لكن مقتضى الاحتياط في المسألة ـ لو اضطر للقول به ـ هو الجمع لا الغسل وحده، لأن ماهية المسح غير ماهية الغسل لغة وعرفاً… كما هو واضح.

(1) منهم القرطبي 6/91. والشوكاني في فتح القدير 2/18.
(2) حاشية البيضاوي 3/220.
(3) تفسير الطبري 6/128.
(4) يقصد الفخر الرازي.
(5) روح المعاني 6/77ـ78.
(6) المنار 6/229.
(7) مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح 1/315.
(8) نيل الأوطار 1/163.
(9) أحكام القرآن 1/50.
(10) الفخر الرازي 11/161، والجصّاص 2/421، والآلوسي 6/78.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *