تصرفات القوم في لفظ الحديث

تصرفات القوم في لفظ الحديث:
ولما ذكرنا من ظهور هذه الرواية في المسح دون الغسل، نرى القوم يتصرفون في لفظها ويحرفون متنها، لصرفها عن الدلالة المذكورة، كي لا يتم للقائلين بالمسح التمسك بها بعد أن كانت أصح ما في الباب! ولا بأس بذكر بعض ذلك، ليكون ذلك من شواهد دلالة الحديث على المسح:
فقد أخرج أبو داود الحديث بنفس السند في باب اسباغ الوضوء قائلا:
« حدّثنا مسدّد، ثنا يحيى عن سفيان، حدثني منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمر(1) إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى قوماً وأعقابهم تلوح فقال: ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء »(2).
فحذف من القصّة، وأنهم مسحوا على أرجلهم، والسّبب في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك!
وكذا صنع الترمذي حيث عنون هذه الجملة وعقد لها باباً فقال: « باب ما جاء: ويل للأعقاب من النار » وما أورد سوى هذا الحديث:
« حدثنا قتيبة قال: حدثنا عبد العزيز بن محمّد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه عن أبي هريرة: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ويل للأعقاب من النار »(3).
ومع ذلك ففي سنده نظر:
أمّا « عبد العزيز بن محمّد » وهو الدراوردي فعن أبي زرعة: « سيّى الحفظ فربّما حدّث من حفظه الشيء فيخطىء » وعن النسائي: « ليس بالقوي » وعن أبي حاتم: « لا يحتج به »(4). ولذا أورده ابن حجر فيمن تكلّم فيه من رجال البخاري، وذكر أنّ البخاري روى له حديثين مقروناً بغيره(5) ولهذه الكلمات وغيرها أورده الذهبي في ميزانه(6).
وأمّا « سهيل بن أبي صالح » فكذلك، فقد أورده ابن حجر في الباب المذكور، ونصّ على أنّ له حديثاً واحداً فقط في البخاري مقروناً بغيره(7). وقال بترجمته:
ذكر البخاري في تاريخه قال: كان لسهل أخ فمات فوجد عليه فنسي كثيراً من الحديث، وذكر ابن أبي خيثمة في تاريخه عن يحيى قال: لم يزل أهل الحديث يتّقون حديثه. وذكر العقيلي عن يحيى أنه قال: هو صويلح وفيه لين. وذكره الحاكم في باب من عيب على مسلم إخراج حديثه(8). وذكره الذهبي في ميزانه فذكر كلمات أُخرى في جرحه(9) لا حاجة الى إيرادها، إذ فيما ذكرناه كفاية.
وكذا صنع النسائي، حيث أورد الحديث في باب اسباغ الوضوء بنفس سند مسلم، فحذف منه الجملة وأبقى الأمر باسباغ الوضوء، وهذا نصّه:
« أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يساف عن أبي يحيى عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أسبغوا الوضوء »(10).
وأخرجه ابن ماجة بنفس السند فقال:
« حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمّد قالا: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمر، قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوماً يتوضأون وأعقابهم تلوح، فقال: ويل للأعقاب من النار. أسبغوا الوضوء »(11).
فتراه حذف القصّة، وقوله: أنهم مسحوا على أرجلهم، وأنه ترك بعضهم الأعقاب لم يمسها الماء.
وفي سنده نظر، لكون « وكيع » ـ وهو ابن الجراح ـ مقدوحاً عند غير واحد منهم، وقد ذكروا أنه كان يشرب المسكر(12).
وحرّف النسفي الحديث حتى جاء ظاهراً في الوعيد على المسح فقال: « وقد صحّ أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى قوماً يمسحون على أرجلهم فقال: ويل للأعقاب من النار »!!(13).
وأفرط الزمخشري في التحريف فجعل « الوضوء » بدل « المسح » قال:
« وعن ابن عمر: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتوضّأ قوم وأعقابهم بيض تلوح فقال: ويل للأعقاب من النار »(14).

حديث عبد الله في المسند مع تحريفات:
وأخرج أحمد في مسنده حديث عبد الله بن عمرو بنفس سند مسلم بتحريف واضح، وهذه عبارة المسند:
« حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا وكيع، حدثنا سفيان، وعبد الرحمان عن سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو قال:
رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوماً يتوضّأون وأعقابهم تلوح. فقال: ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء »(15).
وأخرجه بنفس السند مرّة أخرى بلفظ محرّف بنقيصة كسابقه، مع زيادة غير موجودة في لفظ من ألفاظه المذكورة!:
« حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا محمّد بن جعفر، ثنا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يساف ـ عن أبي يحيى الأعرج عن عبد الله ابن عمرو بن العاص قال:
سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن صلاة الرجل قاعداً.
فقال: على النصف من صلاته قائماً.
قال: وأبصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوماً يتوضّأون لم يتموا الوضوء. فقال: أسبغوا ـ يعني الوضوء ـ ويل للعراقيب من النار. أو للأعقاب من النار »(16).
فبالمقارنة بين لفظه ولفظ مسلم يظهر أنه في لفظ الحديث الأول أسقط جملة المسح على الأرجل… وفي لفظ الثاني أسقطه ووضع بدله جملة « لم يتمّوا الوضوء » التي تصلح لأن يكون الواقع منهم المسح أو الغسل، فلا تكون أيّ دلالة للحديث… مع أنه قد تقدم عن ابن حجر التصريح بأنّ القائلين بالمسح قد تمسكوا بحديث عبدالله بن عمرو بن العاص… وتقدم عن ابن رشد التصريح بأنه على المسح أدلّ منه على الغسل.
هذا كله، مع أنّ السند في هذين اللفظين واحد، وهو متّحد مع سند مسلم…!!

(1) كذا في رواية أبي داود ورواية ابن ماجة الآتية، فهو « عبد الله بن عمر » لا « عبد الله ابن عمرو » وكذا في المنتقى ـ متن نيل الأوطار ـ وفي بعض كتب المتأخرين وفي الكشاف 1/611 رواه عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، قال: وعن ابن عمر: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فتوضّأ قوم وأعقابهم بيض تلوح فقال: ويلٌ للأعقاب من النار ».
فقال ابن حجر في (تخريجه): « تنبيه: لم أره من حديث ابن عمر وكأنه تحرّف على صاحب الكتاب أو بعض من أخذه عنه ».
قلت: قد رأيت أنه في غير واحد من كتب الحديث ـ ومنها بعض السنن ـ ولا أظنّ أن الأمر كما ذكر ابن حجر، فإنّ ذلك لا يليق بمثل أبي داود وابن ماجة وأمثالهما من الأئمة، بل لعلّ هؤلاء قد فطنوا الى إشكال في نسبة الحديث إلى « ابن عمرو بن العاص » لم يتفطّن له البخاري ومسلم، فنسبوه إلى « ابن عمر بن الخطاب » وعليك بمزيد التأمل في المقام!!
(2) سنن أبي داود 1/15.
(3) صحيح الترمذي 1/58.
(4) تهذيب التهذيب 6/315.
(5) مقدمة فتح الباري /419.
(6) ميزان الاعتدال 2/633.
(7) مقدمة فتح الباري / 406.
(8) تهذيب التهذيب 4/231.
(9) ميزان الاعتدال 2/243.
(10) سنن النسائي 1/89.
(11) سنن ابن ماجة 1/154.
(12) ميزان الاعتدال 4/335.
(13) تفسير النسفي ـ هامش الخازن ـ 2/441.
(14) الكشاف 1/611.
(15) مسند أحمد 2/193.
(16) مسند أحمد 2/201.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *