كذّب به أبو بكر قولاً و فعلاً

كذّب به أبو بكر قولاً و فعلاً:
وسادساً: لقد كذَّب أبو بكر نفسُه هذا الحديثَ قولاً وفعلاً.
* أمّا فعلاً، فقد تقدّم في رواية نور الدين الحلبي صاحب السيرة أنّه لمّا سألته الصدّيقة الطاهرة: «أفي كتاب اللّه أن ترثك ابنتك ولا أرث أبي؟» قال: «فاستعبر أبو بكر باكياً ثمّ نزل فكتب لها بفدك، ودخل عليه عمر فقال: ما هذا؟ فقال: كتابٌ كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها، قال: فماذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى؟ ثمّ أخذ عمر الكتاب فشقّه»(1).
وأيضاً، فقد كذّب حديثه بأحكامه في أشياء تركها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم:
أمّا حكمه ـ وكذا عمر ـ في بغلة النبي وسيفه وعمامته، فقد أخرج أحمد ما هو صريح في أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك أشياء عند أمير المؤمنين (عليه السلام) ، قال أحمد:
«حدّثني يحيى بن حمّاد، ثنا أبو عوانة، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى العبّاس، عن ابن عبّاس، قال: لمّا قبض رسول اللّه واستخلف أبو بكر، خاصم العبّاس عليّاً في أشياء تركها صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال أبو بكر رضي اللّه عنه: شيء تركه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلم يحرّكه فلا أُحرّكه، فلمّا استخلف عمر اختصما إليه فقال: شيء لم يحرّكه أبو بكر فلست أُحرّكه. قال: فلمّا استخلف عثمان رضي اللّه عنه اختصما إليه قال: فأسكت عثمان ونكس رأسه. قال ابن عبّاس: فخشيت أن يأخذه، فضربت بيدي بين كتفي العبّاس فقلت: يا أبت أقسمت عليك إلاّ سلّمته لعلي. قال: فسلّمه له»(2).
ففي هذا الحديث لم يصرّح بالأشياء التي تركها النبي عند أمير المؤمنين، إلاّ أنّه قد صرّح في الروايات الأُخرى وكلمات العلماء ببعض تلك المتروكات، فالقاضي عبد الجبّار المعتزلي أرسل تركه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم «السيف والبغلة والعمامة وغير ذلك» إرسال المسلّم، وذكر لذلك جواباً عن أبي علي الجبّائي، وأجاب السيّد المرتضى عن الجواب(3).
وأورد ذلك ابن أبي الحديد في شرح النهج(4).
وقال القاضي الفقيه أبو يعلى ابن الفرّاء الحنبلي المتوفّى سنة 458 ـ وهو الذي اعتمد عليه ابن تيميّة في مواضع ـ في مبحث صدقات رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) : «فأمّا صدقات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فمحصورة، لأنّه قبض عنها فتعيّنت، وهي ثمانية» فذكرها، ثمّ قال: «فأمّا ما سوى هذه الصدقات الثمانية من أمواله . . .» فذكر أشياء إلى أن قال:
«وأمّا دور أزواج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالمدينة، فكان قد أعطى كلّ واحدة منهنّ الدار التي تسكنها ووصّى بذلك لهنّ، فإن كان ذلك منه عطيّة تمليك فهي خارجة من صدقاته، وإنْ كان عطية سكنَى وإرفاق، فهي من جملة صدقاته، وقد دخلت اليوم في مسجده ولا أحسب منها ما هو خارج عنه» قال:
«وأمّا رحل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقد روى هشام الكلبي عن عوانة بن الحكم: أنّ أبا بكر دفع إلى علي آلة رسول اللّه ودابّته وحذاءه وقال: ما سوى ذلك صدقة.
وروى الأسود عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ قالت: توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير، فإن كانت درعه المعروفة بالبتراء، فقد حكي أنّها كانت على الحسين بن علي يوم قتل . . . وأمّا البردة . . . وأمّا القضيب . . . وأمّا الخاتم… .
فهذا شرح ما قبض عنه رسول اللّه من صدقته وتركته. واللّه أعلم»(5).
وفي شرح النهج عن كتاب السقيفة لأبي بكر الجوهري أنّه قال أبو بكر: «قد دفعت آلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ودابّته وحذاءه إلى علي . . .»(6).
وقد أذعن الفضل ابن روزبهان للخبر فلم ينكره، إلاّ أنّه حاول الإجابة عن الإشكال، فكان أقرب إلى الإنصاف من ابن تيميّة المنكر لأصل الخبر.
وفي تاريخ ابن كثير: «باب آثار النبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم التي كان يختصّ بها في حياته من ثياب وسلاح ومراكب» فذكر «الخاتم» و«السيف» و«النعل» و«القدح» و«المكحلة» و«البردة» و«الأفراس» و«المراكب» إلاّ أنّه أجمل الكلام جدّاً، ولم يشأ أن يصرّح بما كان من أمرها من بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) ، مع أنّه روى عن البيهقي: أنّ في الروايات أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) مات عن بغلته البيضاء وعن سلاحه وعن أرض وعن ثيابه وخاتمه.
نعم، ذكر أنّ بغلته ـ وهي الشهباء ـ قد عمّرت بعده حتّى كانت عند علي بن أبي طالب في أيّام خلافته . . .(7).
* وأمّا قولاً، فقد روي عنه أنّه قال قبيل وفاته:
«إنّي لا آسى على شيء من الدنيا إلاّ على ثلاث فعلتهنّ ووددت أنّي تركتهنّ، وثلاث تركتهنّ ووددت أنّي فعلتهنّ، وثلاث وددت أنّي سألت عنهنّ رسول اللّه».
ثمّ قال:
«وددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء، وإنْ كانوا قد غلّقوه على الحرب».
«وددت أنّي كنت سألت رسول اللّه لمن هذا الأمر فلا ينازعه أحد»(8).
فمن كان في شكٍّ من أصل أهليّته لتصدّي الإمامة والخلافة، كيف يجوّز لنفسه التصرّف في الأُمور، ولا سيّما في ما يتعلّق بإرث رسول اللّه؟!
(1) السيرة الحلبية 3 / 488.
(2) مسند أحمد 1 / 13، وتقدّم سابقاً أيضاً.
(3) المغني 20 ق 2 / 331، الشافي في الامامة 4 / 82.
(4) شرح نهج البلاغة 16 / 261.
(5) الأحكام السلطانيّة: 221 ـ 226.
(6) شرح نهج البلاغة 16 / 214.
(7) البداية والنهاية 6 / 2.
(8) تاريخ الطبري 2 / 353 ـ 354، الإمامة والسياسة 1 / 36 ـ 37، الأموال لأبي عبيد: 174 ـ 175 ح 353 و 354، العقد الفريد 3 / 279 ـ 280 وغيرها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *