في إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة

في إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة

ودعا الحسين بن عليّ عليهما السلام مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداويّ وعمارة بن عبد السلوليّ وعبدالرحمن بن عبداللّه الأرحبي، وأمره بتقوى اللّه وكتمان أمره واللطف، فإنْ رأى الناسَ مجتمعين مستوسقين عجّلَ إليه بذلك.
فأقبل مسلم حتّى دخل الكوفة، فنزل في دار المختار بن أبي عبيد.
وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فكلّما اجتمع إليه منهم جماعةٌ قرأ عليهم كتاب الحسين بن عليّ عليهما السلام وهم يبكون.
وبايعه الناس.. حتّى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً، وقيل: بل بايعه أكثر من ثلاثين ألفاً.
فكتب مسلم رحمه اللّه إلى الحسين عليه السلام يُخبره ببيعة القوم ويأمره بالقدوم…
قال المؤرّخون: ولكنّ ابن زياد دهمهم، فألقى القبض على الوجوه والرؤساء وزجَّهم في السجون، من أمثال المختار وسليمان بن صرد الخزاعي، وتفرّق العامّة، وبقي مسلم وحيداً، فلاذ بهاني بن عروة، فرحّب به، وجعل يتمارض مجاملةً مع ابن زياد في عدم إجابته لدعوته، حتّى تمكّن منه بإحضاره إلى قصر الإمارة، فلمّا حضر لديه غدر به ابن زياد وأودعه السجن.
فأمسى مسلم حائراً بنفسه، فصادف في طريقه امرأةً من كندة اسمها طوعة، فاستسقاها ماءً، فجاءت المرأة بالماء وشرب ثمّ وقف، فعرفت المرأة فيه الغربة والوحشة، فدعته إلى بيتها لتخفيه حتّى الصباح، حتّى جاء ابنها، فسألها عن السبب في كثرة دخولها البيت، فأخبرته بأمر مسلم بعد أنْ أخذت منه العهود على أنْ لا يفشي هذا السرّ، لكنّه غدا إلى ابن الأشعث وأخبره بذلك، فأبلغ ابن زياد، فأرسل الجند للقبض عليه.
وكان مسلم يتلو القرآن دبر صلاته، إذ سمع وقع حوافر الخيل وهمهمة الفرسان، فأوحت إليه نفسه بدنو الأجل، فبرز ليث بني عقيل من عرينه مستقبلا باب الدار والعسكر وعليهم محمّد بن الأشعث، وانتهى أمر المتقابلين إلى النزال، ومسلم راجل وهم فرسان، لكنّ فحل بني عقيل شدّ عليهم شدّ الضرغام على الأنعام، وهم يولّونه الأدبار ويستنجدون بالحاميات، وقذاءة النار ترمى عليه من السطوح، وهو لا يزال يضرب فيهم بسيفه ويقول في خلال ذلك متحمّساً:
أقسمتُ لا أُقتل إلاّ حرّا *** وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا
ويجعل الباردَ سُخناً مُرّا *** رُدَّ شُعاعُ الشمسِ فاستقرّا
كلُّ امرئ يوماً ملاق شرّا *** أخافُ أن أُكذَبَ أو أُغَرّا
ثمّ اختلف هو وبكير بن حمران الأحمري بضربتين، فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع السيف في السفلى ونصلت لها ثنيّتان، فضربه مسلم ضربة منكرة في رأسه، وثنّى بأُخرى على حبل عاتقه كادت تأتي على جوفه، فاستنقذه أصحابه، وعاد مسلم ينشد شعره.
اضطُرّ ابنُ الأشعث إلى وعده مسلماً بالأمان إذا ألقى سلاحه، فقال: لا أمان لكم.
وبعدما كرّروا عليه، رأى التسليم فريضة، محافظة للنفس وحقناً للدماء، فسلّم إليه نفسه وسلاحه، ثمّ استولوا عليه، فعرف أنّه مخدوع، فندم ولات حين مندم.
ثمّ أقبل محمّد بن الأشعث بمسلم إلى باب القصر، فاستأذن فأُذن له، فأخبر عبيداللّه بخبر مسلم وضرب بكير إيّاه.
فقال: بعداً له.
فأخبره بأمانه، فقال: ما أرسلناك لتؤمنه، إنّما أرسلناك لتأتي به; فسكت.
وانتهى مسلم إلى باب القصر وهو عطشان، وعلى باب القصر أُناس ينتظرون الإذن، منهم: عمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعمرو بن حريث ، ومسلم بن عمرو الباهلي، وكثير بن شهاب، فاستسقى مسلم رضي اللّه عنه الماء وقد رأى قلّة موضوعة على الباب، فقال مسلم الباهلي: أتراها ما أبردها، لا واللّه لا تذوق منها قطرة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم.
فقال له: ويحك من أنت؟!
قال: أنا من عرف الحقّ إذ أنكرته، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفته، أنا مسلم بن عمرو الباهلي.
فقال: لأُمّك الثكل، ما أجفاك وما أفظّك وأقسى قلبك وأغلظك! أنت يا ابن باهلة أَوْلى بالحميم والخلود في نار جهنّم منّي.
ثمّ تساند وجلس إلى الحائط، فبعث عمرو بن حريث مولاه سليمان فجاءه بقلّة، وبعث عمارة غلامه قيساً فجاءه بقلّة عليها منديل، فصبّ له ماءً بقدح، فأخذ كلّما شرب امتلأ القدح دماً من فمه، حتّى إذا كانت الثالثة سقطت ثنيّتاه في القدح فقال: الحمد للّه، لو كان من الرزق المقسوم لي لشربته.
ولمّا أدخلوه على عبيداللّه لم يسلّم عليه بالإمرة، فقال له الحرسي: ألا تسلّم على الأمير؟!
فقال: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه؟!
فقال له ابن زياد: لعمري لتقتلنّ.
قال: فدعني أُوصي بعض قومي.
قال: افعل.
فنظر مسلم رضي اللّه عنه إلى جلساء عبيداللّه وفيهم عمر ابن سعد بن أبي وقّاص، فقال: يا عمر! إنّ بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سرّ.
فامتنع عمر أن يسمع منه، فقال له عبيداللّه: لِم تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمّك؟!
فقام معه فجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد، فقال له: إنّ علَيَّ بالكوفة سبعمئة درهم، فبع سيفي ودرعي فاقضها عنّي، وإذا قتلت فاستوهب جثّتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين عليه السلام من يردّه، فإنّي كتبت إليه وأعلمته أنّ الناس معه، ولا أراه إلاّ مقبلا ومعه تسعون إنساناً بين رجل وامرأة وطفل.
فقال عمر لابن زياد: أتدري أيّها الأمير ما قال لي؟!
فقال له ابن زيادعلى ما رواه في «العقد الفريد»(1) ـ : اكتم على ابن عمّك!
قال: هو أعظم من ذلك، إنّه ذكر كذا وكذا.
فقال له ابن زياد: إنّه لا يخونك الأمين، ولكن قد ائتمن الخائن; أمّا ماله فهو له، ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت، وأمّا جثّته فإنّا لا نبالي إذا قتلناه ما صُنع بها، وأمّا حسين فإنْ هو لم يُرِدْنا لم نُرِدْه.
ثمّ قال لعمر بن سعد: أمَا واللّه إذ دللت عليه لا يقاتله أحد غيرك!
ثمّ أقبل ابن زياد على مسلم يشتمه ويشتم الحسين وعليّاً وعقيلا، ومسلم لا يكلّمه، ثمّ قال ابن زياد: اصعدوا به فوق القصر وادعوا بُكيرَ بن حمران الأحمري الذي ضربه مسلم.
فصعدوا به وهو يكبّر ويستغفر اللّه ويصلّي على رسوله ويقول: اللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذَبونا وخذلونا.
فأُشرف به على موضع الحذّائين، فضرب عنقه بكير بن حمران، ثمّ أتبع رأسه جسده من أعلى القصر.
وكان مقتل مسلم رضي اللّه عنه يوم الأربعاء في اليوم الثامن من ذي الحجّةيوم الترويةوهو اليوم الذي خرج فيه الحسين عليه السلام يقصد الكوفة ملبّياً دعوتها.
وجاء الحسين عليه السلام هذا النبأ المفجع وهو بزَرُود.
وأمّا هاني بن عروة، فقد كان محبوساً عند ابن زياد، فأُخرج من الحبسبعد قتل مسلموجيء به إلى السوق الذي يباع فيه الغنم مكتوفاً، فجعل ينادي: وا مذحجاه! ولا مذحج لي اليوم، وا مذحجاه! وأين منّي مذحج؟!
فلمّا رأى أنّ أحداً لا ينصره، جذب يده فنزعها من الكتاف ثمّ قال: أمَا من عصا أو سكّين أو حجر أو عظم يجاهد به رجل عن نفسه؟!
فتواثبوا عليه وشدّوه وثاقاً ثمّ قيل له: أُمدد عنقك!
فقال: ما أنا بها سخيّ، وما أنا بمعينكم على نفسي.
فضربه مولىً لعبيد اللّه بن زيادتركيٌّ، يقال له: رشيدبالسيف فلم يصنع سيفه شيئاً.
فقال هاني: إلى اللّه المعاد، اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك.
ثمّ ضربه ضربة أُخرى فقتله، وكان ذلك يوم التاسع من ذي الحجّة بعد قتل مسلم بيوم واحد، وكان له من العمر سبع وتسعون سنة.
وأمر ابن زياد فسُحب جثتاهما من أرجلهما بالأسواق والناس ينظرون إليهما، يا له منظراً فظيعاً وعبرة للمعتبر!
ثمّ إنّ ابن زياد بعث برأسَي مسلم وهاني إلى يزيد، مع هاني بن أبي حيّة الوادعي والزبير بن الأروح التميمي، واستوهب جثّتيهما ودفنوهما عند القصر حيث موضعهما اليوم، وقبراهما كلّ على حدة.
قال عبداللّه بن الزبير الأسدي يؤبّنهما من أبيات:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري *** إلى هانئ في السوق وابنِ عقيلِ
إلى بطل قد هشّمَ السيفُ وجهَه *** وآخرَ يهوي من طمار قتيلِ(2)

***

(1) العقد الفريد 3 / 365.
(2) انظر: الإرشاد 2 / 3965، تاريخ الطبري: 3 / 278293، الأخبار الطوال: 231242، الكامل في التاريخ: 3 / 386398، البداية والنهاية: 8 / 122126، مقتل الحسينللخوارزمي1 / 285308.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *