الأمر الثاني

الأمر الثاني:
إنّ الإمام عليه السلام كان على علم تامّ بنيّات القوم وما سيقع عليه، وكلّ الأدلّة والقرائن قائمة على ذلك، وقد صرّح به في كلّ مرحلة..
فتارةً: قال: «واللّه لا يَدَعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة ـ وأشار إلى قلبه الشريف ـ من جوفي، فإذا فعلوا ذلك سلَّط عليهم من يذلّهم، حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأَمَة»(1).
وأُخرى: قال ـ لدى خروجه من مكّة ـ «واللّه لأنْ أُقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليَّ من أنْ أُقتل داخلا منها بشبر، وأيم اللّه لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا فيَّ حاجتهم، وواللّه ليعتدنّ علَيَّ كما اعتدت اليهود في السبت»(2).
وثالثةً: في الطريق، حيث أخبر عن أصحاب الكتب أنّهم سيقتلونه… وسيأتي بعض التفصيل.
فقد كان عليه السلام على علم بقتله، وبموضع قتله… كسائر أئمّة أهل البيت عليهم السلام… كما قال عبداللّه بن عبّاس: «ما كنّا نشكّ وأهل البيت متوافرون أنّ الحسين بن عليّ يُقتل بالطفّ»(3).
وعنه: «إنّ أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلا ولم يزيدوا رجلا، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم»(4).
ورابعةً: لمّا وجّه مسلماً إلى أهل الكوفة، قال له: «وسيقضي اللّه من أمرك ما يحبّ ويرضى، وأنا أرجو أنْ أكون أنا وأنت في درجة الشهداء»(5).
بل لقد علم بذلك الأباعد أيضاً..
فقد أخرج ابن سعد، بإسناده عن العربان بن الهيثم: «كان أبي يتبدّى فينزل قريباً من الموضع الذي كان فيه معركة الحسين، فكنّا لا نبدو إلاّ وجدنا رجلا من بني أسد هناك، فقال له أبي: أراك ملازماً هذا المكان؟!
قال: بلغني أنّ حسيناً يقتل ها هنا; فأنا أخرج لعلّي أُصادفه فأُقتل معه.
فلمّا قُتل الحسين قال أبي: انطلقوا ننظر هل الأسدي في مَن قتل؟
فأتينا المعركة فطوّفنا، فإذا الأسدي مقتول»(6).
وعن عبداللّه بن شريك العامري: «كنت أسمع أصحاب عليّ ـ إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد ـ يقولون: هذا قاتل الحسين بن عليّ، وذلك قبل أن يقتل بزمان»(7).
بل حتّى النساء في البيوت بلغهنّ الخبر، فمثلا..
لمّا عزم الإمام عليه السلام على الخروج من مكّة نحو العراق: «كتبت إليه عمرة بنت عبدالرحمن تعظّم عليه ما يريد أنْ يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنّه إنْ لم يفعل إنّما يساق إلى مصرعه، وتقول: أشهد لسمعت عائشة أنّها تقول: إنّها سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: يُقتل الحسين بأرض بابل.
فلمّا قرأ كتابها قال: فلا بُدّ لي إذاً من مصرعي; ومضى»(8).
هذا بالنسبة إلى هذا الأمر باختصار، في ضوء كتب القوم ورواياتهم، وأمّا على أُصولنا ورواياتنا، فللبحث طور آخر ومجال آخر.

(1) انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 6 / 431، تاريخ الطبري 3 / 300، تاريخ دمشق 14 / 216، بغية الطلب 6 / 2615 ـ 2616، البداية والنهاية 8 / 135.
(2) انظر: الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 6 / 428، تاريخ الطبري 3 / 295 ـ 296، بغية الطلب 6 / 2611، سير أعلام النبلاء 3 / 293، البداية والنهاية 8 / 135.
(3) المستدرك على الصحيحين 3 / 197 ح 4826.
(4) مناقب آل أبي طالب 4 / 60.
(5) الفتوح ـ لابن أعثم ـ 5 / 36.
(6) الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 6 / 421، تاريخ دمشق 14 / 216 ـ 217.
(7) انظر: الإرشاد 2 / 131 ـ 132، كشف الغمّة 2 / 9.
(8) البداية والنهاية 8 / 131 حوادث سنة 60 هـ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *