الخامس

الخامس:
بعد أنْ أعيتهم السبل العلمية في الظاهر وهي: المناقشات في السند أو الدلالة، يلجأون إلى طريقة أُخرى، وماذا نسمّي هذه الطريقة؟ لا أدري الآن، لأقرأ لكم ما وجدته في الباب، فأنتم سمّوا ما فعلوا بأيّ تسمية تريدون!!
أذكر لكم قضيّة الحافظ ابن السقا الواسطي المتوفى سنة 373:
يقول الذهبي في كتاب سير أعلام النبلاء(1) بعد أن يصف ابن السقا بـ : الحافظ الإمام محدّث واسط» بعد أن يلقّبه بهذه الألقاب ينقل عن الحافظ السلفي يقول:
«سألت الحافظ خميساً الجوزي عن ابن السقا؟ فقال: هو من مزينة مضر ولم يكن سقّاءً بل لقب له، من وجوه الواسطيين وذي الثروة والحفظ، رحل به أبوه فأسمعه من أبي خليفة وأبي يعلى و… وبارك اللّه في سنّه وعلمه.
واتفق أنّه أملى حديث الطائر، فلم تحتمله نفوسهم، فوثبوا عليه فأقاموه وغسلوا موضعه، فمضى ولزم بيته لا يحدّث أحداً من الواسطيين، فلهذا قلّ حديثه عندهم».
أقول: ولم يذكر الراوي كلّ ما وقع على هذا المحدّث من ضرب وشتم وإهانة وغير ذلك، يكتفي بهذه العبارة: «وثبوا عليه فأقاموه عن مجلسه وغسلوا موضعه»، كأنّ الموضع الذي كان جالساً فيه تنجّس لإملائه طرق حديث الطير، وغسلوا موضعه، فمضى ولزم بيته ولم يخرج.
فماذا تسمّون هذه الطريقة؟ لا أدري.
هذا ما ذكره الذهبي في ترجمة هذا الرجل في سير أعلام النبلاء، وفي كتاب تذكرة الحفّاظ(2).
أمّا الحاكم النيسابوري، فقد كان مصرّاً على صحّة حديث الطير، وعلى تصحيح حديث الطير.
يقول في كتابه علوم الحديث(3): «حديث الطير من مشهورات الاحاديث، وكان على أصحاب الصحاح أن يخرّجوه في الصحاح».
ويقول: ذاكرت به كثيراً من المحدثين.
ويقول: كتبت فيه كتاباً، أي كتب في جمع طرقه كتاباً.
ثمّ إنّه في المستدرك(4) يروي هذا الحديث ويقول: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد رواه عن أنس جماعة من أصحابه زيادة على ثلاثين نفساً».
وقد قلت لكم أنّ الرواة عن أنس هم أكثر من ثمانين شخصاً لا ثلاثين شخصاً.
يقول: «ثمّ صحّت الرواية عن علي وأبي سعيد الخدري وسفينة».
واضطرب القوم تجاه تصحيح الحاكم، وإخراج الحاكم هذا الحديث في مستدركه، وإصراره على صحّته، وأصبحت قضيّة حديث الطير والحاكم قضيّة تذكر في أكثر الكتب المتعلّقة بالحاكم وبحديث الطير، أي حدثت هناك ضجّة من فعل الحاكم هذا، وقام القوم عليه وقامت قيامتهم، ولأجل هذا الحديث رماه بعضهم بالرفض فقال: الحاكم رافضي. لكن الذهبي وابن حجر العسقلاني يقولان: اللّه يحبّ الإنصاف، ما الرجل برافضي. فراجعوا لسان الميزان(5)، وراجعوا سير أعلام النبلاء(6)، وغير هذين الكتابين(7).
ثمّ جاء بعضهم وجعل يرمي كتاب المستدرك بأنّ هذا الكتاب ليس فيه ولا حديث واحد على شرط الشيخين.
وحينئذ يقول الذهبي: هذه مكابرة وغلو(8).
ثمّ نسبوا إلى الدارقطني أنّه لمّا بلغه أنّ الحاكم قد أخرج حديث الطير في المستدرك انتقد فعل الحاكم هذا.
لكن الذهبي يقول: إنّ الحاكم إنّما ألّف المستدرك بعد وفاة الدارقطني بمدة(9).
وحينئذ، إذا راجعتم كتاب طبقات الشافعية للسبكي(10) رأيتموه ينقل عن الذهبي إنّ الحاكم سُئل عن حديث الطير فقال: لا يصحّ ولو صحّ لما كان أحد أفضل من علي بعد رسول اللّه. ثمّ قال شيخنا: وهذه الحكاية سندها صحيح، فما باله أخرج حديث الطير في المستدرك. يعني: إذا كان الحاكم يعتقد بأنّ الشيخين أفضل من علي، فلماذا أخرج الحديث في المستدرك؟ ولماذا صحّحه؟
حينئذ يقول السبكي: قد جوّزت أنْ يكون زيد في كتابه.
يعني: حديث الطير زيد في كتاب المستدرك!! لاحظوا إلى أي حدّ يحاولون إسقاط حديث من الأحاديث! يقولون: قد جوّزتُ أن يكون زيد في كتابه، أنْ لا يكون من روايات الحاكم.
يقول السبكي: وبحثت عن نسخ قديمة من المستدرك فلم أجد ما ينشرح الصدر بعدمه ]أي وجدت الحديث في كلّ النسخ[ وتذكّرت الدارقطني إنّه يستدرك حديث الطير، فغلب على ظنّي إنّه لم يوضع عليه ]أي إنّ الحديث لم يوضع على الحاكم، ولم يزده أحد في المستدرك [ثمّ تأمّلت قول من قال: إنّه ]أي الحاكم[ أخرجه من الكتاب، فإنْ ثبت هذا صحّت الحكايات، ويكون خرّجه في الكتاب قبل أن يظهر له بطلانه، ثمّ أخرجه منه لاعتقاده عدم صحّته كما في هذه الحكاية التي صحّح الذهبي سندها، ولكنّه بقي ]أي الحديث[ في بعض النسخ، إمّا لانتشار النسخ بالكتاب، أو لإدخال بعض الطاعنين في الشيخين إيّاه ]أي الحديث[ فيه ]أي في المستدرك[ فكلّ هذا جائز، والعلم عند اللّه تعالى.
هذا نصّ عبارة السبكي.
أقول: هذه نماذج من محاولات القوم لإسقاط الحديث، ولإثبات أنّ الحاكم لم يروه في مستدركه، وذلك يكشف عن اضطراب القوم أمام تصحيح الحاكم وإخراجه هذا الحديث في كتابه.
وهل اكتفوا بهذا؟ لا، وهل استفادوا من هذه الأساليب شيئاً؟ لا.
فما كان عليهم إلاّ أنْ يهجموا على الحاكم داره فيضربوه ويكسروا منبره الذي كان يجلس عليه ويحدّث، ويمنعوه من الخروج من داره.
وهلاّ فعلوا هذا من أوّل يوم، وقبل أن يتعبوا أنفسهم في التحقيق عن كتاب المستدرك باحتمال أنْ يكون هذا الحديث قد أدرجه بعض الطاعنين، فما أحسن هذا الطريق ـ طريق الضرب والشتم والإهانة ـ لإثبات الخلافة لأسيادهم!!
وهكذا فعلوا مع غير الحاكم، مع كثير من أئمّتهم!! أما فعلوا مع النسائي في دمشق؟ أما بقروا بطن الحافظ الكنجي في داخل المسجد لأنّه كان يملي فضائل علي؟ وأما فعلوا؟ وأما فعلوا؟ أمّا بعلماء الطائفة الشيعيّة، وبالأئمّة الاثني عشر، فأيّ شيء فعلوا؟ وكيف عاملوا؟
وهكذا ثبتت الإمامة والخلافة للشيخين وللمشايخ.
فأيّ داع لكلّ ما قاموا به من المناقشة في السند، من المناقشة في الدلالة، من المعارضة، من تحريف اللفظ؟ من ضرب وهتك لابن السقا والحاكم؟ لماذا لا يقلّدون إمامهم وشيخ إسلامهم الذي قال: حديث الطير من الموضوعات المكذوبات(11). فأراح نفسه من كلّ هذا التعب؟
وهذه فتوى ابن تيميّة، وتلك فتوى ابن كثير، وتلك أفعالهم وأعمالهم مع أئمّتهم كالحاكم وغيره، وتلك تحريفاتهم لألفاظ الحديث النبوي، وتلك خياناتهم تبعاً لخيانة صاحبهم أنس بن مالك، وتلك إمامة مشايخهم التي يريدون أن يثبتوها بهذه السبل!!
وعلى كلّ منصف، كلّ محقّق، وكلّ حرّ أنْ يستمع القول فيتّبع أحسنه، واللّه على ما نقول شهيد، ونعم الحكم اللّه، والخصيم محمّد، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين.

(1) سير أعلام النبلاء 16 / 351 ـ 352.
(2) تذكرة الحفاظ 3 / 966.
(3) معرفة علوم الحديث: 93.
(4) مستدرك الحاكم 3 / 131.
(5) لسان الميزان 5 / 233.
(6) سير أعلام النبلاء 17 / 174.
(7) انظر ميزان الاعتدال 3 / 608.
(8) سير أعلام النبلاء 17 / 175.
(9) سير أعلام النبلاء 17 / 176.
(10) طبقات الشافعية 4 / 168 ـ 169.
(11) منهاج السنة 7 / 371.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *