حول رأي ابن الجوزي في حديث الثقلين

حول رأي ابن الجوزي في حديث الثقلين:
وبعد:
فقد تحقق أنّ حديث الثقلين من الأحاديث الثابت صدورها عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وقد نصَّ على صحته وثقة رواته كبار الأئمة والحفّاظ المعتمدين عند القوم.
ولهذا تراهم ينبّهون على وهم الحافظ ابن الجوزي بذكره الحديث في كتابه (العلل المتناهية) قال ابن حجر المكي: «وذكر ابن الجوزي لذلك في (العلل المتناهية) وهم أو غفلة عن استحضار بقيّة طرقه، بل في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أنّه صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم قال ذلك يوم غدير خم»!(1).
وأيضاً: يحذّرون من أن يغتر أحد بصنيعه، فيقول الحافظ السّمهودي: «ومن العجيب ذكر ابن الجوزي له في (العلل المتناهية)! فإيّاك أن تغترَّ به، وكأنّه لم يستحضره حينئذ»!(2).
ومن هنا يظهر: أنّ ما فعله ابن الجوزي لا قيمة له ولا يعبأ به، وأن مقتضى حسن الظنّ به أن يقال: لم يستحضره!
وقد يقوى حمله على الصّحة بما إذا علمنا أنّه نفسه يروي هذا الحديث الشّريف في كتابه في الروايات (المسلسلات)(3) حيث جاء فيه:
«الحديث الخامس: أنا محمد بن ناصر قال: أنا محمد بن علي بن ميمون، قال: أنا أبو عبداللّه محمد بن علي العلوي قال: ثنا القاضي محمد بن عبداللّه الجعفي قال: ثنا الحسين بن محمد القراري قال: ثنا الحسن بن علي بن بزيع قال: ثنا يحيى بن حسن بن فرات قال: ثنا أبو عبد الرحمن المسعودي، عن الحارث بن حصيرة، عن صخر بن الحكم عن حبان بن الحارث الأزدي، عن الربيع بن جميل الضبي، عن مالك بن ضمرة:
عن أبي بكر: إن رسول اللّه قال: يرد عليَّ الحوض راية علي أمير المؤمنين وإمام الغرّ المحجّلين، وأقدم وآخذ بيده في بياض وجهه ووجوه أصحابه فأقول: ما خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون: تبعنا الأكبر وصدّقناه، ووازرنا الأصغر ونصرناه وقاتلنا معه. فأقول: ردوا رواءً. فيشربون شربةً لا يظمأون بعدها أبداً، وجه إمامهم كالشمس الطالعة، ووجوههم كالقمر ليلة البدر أو كأضوأ نجم في السماء».
هذا، وسنتعرّض عن قريب لبعض كلمات العلماء الصّريحة في عدم الاعتداد بآراء ابن الجوزي في الأحاديث والرجال… .
والواقع:
إنّ ابن الجوزي ذكر حديث الثقلين بسند له عن عطيّة عن أبي سعيد في كتابه الذي ألّفه في الأحاديث الضعيفة بزعمه وأسماء بـ(العلل المتناهية في الأحاديث الواهية)… فقال: «هذا حديث لا يصح» ثم جعل يطعن في السّند(4).
فمعنى قوله: «لا يصح» أي: «ضعيف» وليس معناه كونه «موضوعاً» عنده… إذ لو كان يراه موضوعاً لذكره في كتابه الآخر الذي أسماه بـ(الموضوعات)(5).
فابن الجوزي قد ضعّف حديث الثقلين، لكن على أساس الطريق الذي ذكره، ولذا احتمل القوم كونه لم يستحضر بقيّة طرقه…!!
لكنّ «الدكتور» اغترّ بابن الجوزي، ونسب إليه أنّه «اعتبر هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة» ولا يخفى ما في هذا التعبير! إنّه يوهم ذكر ابن الجوزي هذا الحديث في الأحاديث الموضوعة التي أدرجها في كتابه (الموضوعات)، وقد عرفت واقع الحال!
إلاّ أن «الدكتور» يضطرب في كلامه ويتلعثم… فيقول بعد ذلك مباشرةً:
«وإن كانت الروايات في جملتها كما يبدو لا تجعل الحديث ينزل إلى درجة الموضوع».
ثم يعود فيقول:
«إننا قد نوافق على عدم جعل الحديث من الموضوعات. ومع هذا، فابن الجوزي قد يكون له ما يؤيّد رأيه!»
أنظر إلى هذا الرجل! كيف يتلّون ويضطرب!
يحذّر العلماء من الاغترار بذكر ابن الجوزي حديث الثقلين في (العلل المتناهية) ويحملون عمله على الصحّة بـ«لعلّ» و «كأنّ» ابن الجوزي لم يستحضر من طرقه غير الطريق الذي ذكره… .
و «الدكتور» ينسب إليه القول بوضع الحديث جازماً بذلك، وكأنّه موضوع عند ابن الجوزي! وبكلّ طرقه وأسانيده!
ثم يقول تارةً: «لا ينزل إلى درجة الموضوع»! وأخرى: «قد يكون له ما يؤيّد رأيه»!
ثم ما هو المؤيّد الذي قد يكون؟!
استمع إليه:
«فليس من المستبعد أن يكون هذا الحديث كوفي النشأة»!
باللّه عليك! يجعل ابن الجوزي قائلا بوضع الحديث! ثم يقول «قد يكون»! له «ما يؤيّد»! وهو «فليس من المستبعد…»!!
سبحان اللّه!!
يتكلّم «الدكتور» وكأنّه قد اكتشف حقيقةً عجز عن كشفها جهابذة الحديث والرجال وغيرهما من الفنون… وتوصّل إلى ما خفي على أئمة قومه… بعد قرون…!!
لكنّه يعلم أن في علماء هذا العصر، ممّن يعتقد بهم علماً وتحقيقاً، وهم لا يقلّون عنه عناداً وتعصّباً… من لم يغتر بتضعيف ابن الجوزي، بل يقول بخطئه، ويعترف بصحّة حديث الثّقلين… .
«وفي عصرنا وجدنا العلاّمة المحقّق الشيخ ناصر الدين الألباني…»(6).
ويقول عن الدكتور أحمد محمود صبحي:
«اعتبر حديث التمسّك بالكتاب والعترة من الأحاديث المتفق على صحتها عند أهل السنة»(7).
أقول:
وكذلك غيرهما:
كالعّلامة المحقق الشيخ أحمد البنّا في كتابه: (الفتح الرباني بترتيب مسند أحمد بن حنبل الشيباني 1 / 186) وفي كتابه: (بلوغ الأماني. المطبوع في ذيل الفتح الرباني 4 / 26) حيث أخرجه ثم قال: «وهو في صحيح مسلم وغيره».
والاستاذ العّلامة توفيق أبو علم… في كتابه (أهل البيت 77 ـ 80) وذكر: «أحاديث الثقلين من الأحاديث التي رواها أجلاّء علماء أهل السنة، وأكابر محدثيهم، في صحاحهم، بأسانيدهم المتعددة، واتفق على روايتها الفريقان…» وسنذكر مجمل كلامه في (فقه الحديث).
والعّلامة المحدّث الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، في تعاليقه على كتاب الحافظ ابن حجر العسقلاني: «المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية 4 / 65).
والعلاّمة المحقق الكبير الشيخ محمود أبو ريّة حيث قال: «وقد جاء هذا الحديث بروايات مختلفة ـ والمعنى واحد ـ في كثير من كتب أهل السنة. وإذا أردت الوقوف على هذه الرّوايات فارجع إلى كتاب (المراجعات) التي جرت بين العلاّمة شرف الدين الموسوي رحمه اللّه، وبين الاستاذ الكبير الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر سابقاً، في الصّفحات من (20) وما بعدها من الطبعة الرابعة»(8).

(1) الصواعق المحرقة: 90.
(2) جواهر العقدين: 232.
(3) كما في نسخة دار الكتب الظاهرية، وهي نسخة قديمة رقم: 37 ق 6 ـ 27. انظر فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية (فهرس حديث ص 40) وهذا الحديث في الورقة 8 أ ـ ب.
(4) العلل المتناهية 1 / 268.
(5) طبع هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء.
(6) أنظر: ص 25.
(7) هامش ص: 40.
(8) أضواء على السنّة المحمدية: 404.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *