الأئمّة الأثنا عشر في كتاب منهاج الكرامة في معرفة الامامة

الأئمة الاثنا عشر
في كتاب منهاج الكرامة في معرفة الامامة

قال العلاّمة الحلي رحمه اللّه:
إنّ الإماميّة أخذوا مذهبهم عن الأئمّة المعصومين المشهورين بالفضل والعلم والزهد والورع والاشتغال في كلّ وقت بالعبادة والدعاء وتلاوة القرآن والمداومة على ذلك من زمن الطفوليّة إلى آخر العمر، ومنهم تعلّم الناس العلوم; ونزل في حقّهم (هل أتى)، وآية الطهارة، وإيجاب المودّة لهم، وآية الابتهال وغير ذلك. وكان عليّ (عليه السلام) يصلّي في كلّ يوم وليلة ألف ركعة، ويتلو القرآن مع شدّة ابتلائه بالحروب والجهاد.
فأوّلهم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كان أفضل الخلق بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجعله اللّه تعالى نفسَ رسول اللّه; حيث قال: (وَأنْفُسَنَا وَأنْفُسَكُمْ)، وآخاه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وزوّجه ابنته، وفضلُهُ لا يُحصى، وظهرت عنه معجزات كثيرة حتّى ادّعى قوم فيه الربوبيّة، وقتلهم، وصار إلى مقالتهم آخرون إلى هذه الغاية، كالنصيريّة والغُلاة.
وكان ولداه سبطا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) سيّدا شباب أهل الجنّة إمامَيْن بنصّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانا أزهد الناس وأعلمهم في زمانهم، وجاهدا في اللّه حقّ جهاده حتّى قُتلا، ولبس الحسن الصوف تحت ثيابه الفاخرة من غير أن يُشْعِر أحداً بذلك. وأخذ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يوماً الحسين على فخذه الأيمن، وولده إبراهيم على فخذه الأيسر، فنزل عليه جبرئيل (عليه السلام) وقال: إنّ اللّه لم يكن ليجمع لك بينهما، فاختَرْ مَن شئتَ منهما، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا مات الحسين بكيتُ عليه أنا وعليّ وفاطمة، وإذا مات إبراهيم بكيتُ أنا عليه; فاختار موت إبراهيم، فمات بعد ثلاثة أيّام، فكان إذا جاء الحسين بعد ذلك يقبّله ويقول: أهلاً ومرحباً بِمَنْ فديتُه بابني إبراهيم.
وكان عليّ بن الحسين زَين العابدين يصوم نهاره ويقوم ليله، ويتلو الكتاب العزيز، ويصلّي كلّ يوم وليلة ألف ركعة، ويدعو بعد كلّ ركعتَيْن بالأدعية المنقولة عنه وعن آبائه (عليهم السلام)، ثم يرمي الصحيفة كالمتضجّر ويقول: أنّى لي بعبادة عليّ! وكان يبكي كثيراً حتّى أخذت الدموع من لحم خدَّيه، وسجد حتّى سُمّي ذا الثفنات، وسمّاه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) سيّد العابدين.
وكان قد حجّ هشام بن عبد الملك فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يمكنه من الزحام، فجاء زين العابدين (عليه السلام) فوقف الناس له وتنحّوا عن الحجر حتّى استلمه، ولم يبقَ عند الحجر سواه، فقال هشام: مَن هذا؟ فقال الفرزدق الشاعر:
هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأته *** والبيتُ يعرفه والحِلُّ والحَرَمُ
هذا ابن خير عباد اللّه كلّهمُ *** هذا التقيُّ النَّقيُّ الطاهرُ العَلَمُ
يكادُ يُمسِكُهُ عِرفانَ راحتِه *** رُكنُ الحطيمِ إذا ما جاء يَستلمُ
إذا رَأتْهُ قريشٌ قال قائلُها *** إلى مكارمِ هذا ينتهي الكرمُ
إن عُدّ أهلُ التُّقى كانوا أئمَّتَهم *** أو قِيلَ مَن خير خلق اللّه قيل هُمُ
هذا ابن فاطمة إنْ كنتَ جاهله *** بجَدِّه أنبياءُ اللّهِ قد خُتموا
يُغضي حَياءً ويغضى من مَهابته *** فما يُكلَّمُ إلاّ حينَ يبتسمُ
ينشقُّ نورُ الهُدى عن صُبح غُرَّتِهِ *** كالشمس تَنجاب عن إشراقها الظُلمُ *** مشتقّةٌ من رسول اللّه نَبْعَتُهُ
طابَتْ عَناصِرُهُ والخِيمُ والشِّيَمُ *** اللّهُ شرّفه قِدْماً وفضّله
جرى بذاكَ له في لَوحةِ القلمُ *** مِنْ مَعشَر حُبّهم دِينٌ وبُغضُهُم
كُفْرٌ وقُربُهُم مَلْجاً ومُعْتَصمُ *** لا يَستطيع جَوادٌ بُعْدَ غايتهم
ولا يُدانيهِمُ قومٌ وإن كَرمُوا *** هُمُ الغيوثُ إذا ما أزمةٌ أزِمَتْ
والأُسْدُ أُسْدُ الشَّرى والرأيُ مُحْتَدِمُ *** لا ينقصُ العُسرُ من أكفّهِمُ
سيّانَ ذلك إن أثْرَوا وإن عَدِموا *** ما قال لا قطُّ إلاّ في تشهّده
لو لا التشهّدُ كانت لاؤهُ نَعمُ *** يُستَدْفَعُ السوءُ والبلوى بحبّهمُ
ويُستَرَقُّ به الإحسانُ والنِّعَمُ *** مقدّمٌ بعد ذِكر اللّه ذِكرُهُمُ *** في كلِّ برٍّ، ومختومٌ به الكلمُ
مَن يعرف اللّه يعرفْ أولويّة ذا *** الدينُ مِنْ بيتِ هذا نالَهُ الأُمم
وليس قولُكَ مَنْ هذا بضائرهِ *** العُرْبُ تعرفُ مَن أنكَرْتَ والعَجَمُ
فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق بين مكّة والمدينة، فبعث إليه الإمام زينُ العابدين (عليه السلام) بألف دينار، فردّها وقال: إنّما قُلت هذا غضباً للّه ولرسوله، فما آخذ عليه أجراً. فقال عليّ بن الحسين (عليه السلام): نحن أهلُ بيت لا يعود إلينا ما خرج منّا; فقبلها الفرزدق.
وكان بالمدينة قومٌ يأتيهم رزقهم ليلاً ولا يعرفون ممّن هو، فلمّا مات مولانا الإمام زين العابدين (عليه السلام) انقطع ذلك عنهم، وعرفوا به أنّه كانَ منه (عليه السلام).
وكان ابنه محمّد الباقر (عليه السلام) أعظم الناس زُهداً وعبادة، بَقر السجودُ جبهَتَه، وكان أعلم أهل وقته، سمّاه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) الباقر.
وجاء جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ إليه وهو صغير في الكتّاب، فقال له: جدّك رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يسلّم عليك، فقال: وعلى جدّي السلام، فقيل لجابر: كيف هذا؟ قال: كنتُ جالساً عند رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، والحسين في حِجره وهو يلاعبه، فقال: يا جابر! يولد له مولود اسمه عليّ، إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليقم سيّد العابدين! فيقوم ولده، ثمّ يولد له مولود اسمه محمّد الباقر، إنّه يبقر العلم بقراً، فإذا أدركتَه فأقْرِئْهُ مِنّي السلامَ.
روى عنه أبو حنيفة وغيره.
وكان ابنه الصادق (عليه السلام) أفضل أهل زمانه وأعبدهم. قال علماء السيرة: إنّه انشغل بالعبادة عن طلب الرئاسة. قال عمرو بن أبي المقدام: كنتُ إذا نظرتُ إلى جعفر بن محمّد علمتُ أنّه من سلالة النبيّين.
وهو الذي نُشِرَ منه فقه الإماميّة والمعارف الحقيقيّة والعقائد اليقينيّة، وكان لا يُخبر بأمر إلاّ وقع، وبه سمّوه الصادق الأمين.
وكان عبد اللّه بن الحسن جمعَ أكابرَ العلويّين للبيعة لولده، فقال له الصادق (عليه السلام): إنّ هذا الأمر لا يتمّ! فاغتاظ من ذلك، فقال: إنّه لصاحب القباء الأصفر; وأشار بذلك إلى المنصور، فلمّا سمع المنصور بذلك فرح لعلمه بوقوع ما يُخبِرُ به، وعلم أنّ الأمر يصل إليه; ولمّا هرب كان يقول: أين قول صادقهم؟! وبعد ذلك انتهى الأمر إليه.
وكان ابنُه موسى الكاظم (عليه السلام) يُدعى بالعبد الصالح، كان أعبد أهل وقته، يقوم الليل ويصوم النهار، سُمّي الكاظم لأنّه كان إذا بلغه عن أحد شيء بعث إليه بمال، ونقل فضلَه المخالفُ والمؤالف.
قال ابن الجوزيّ من الحنابلة عن شقيق البلخيّ، قال: خرجتُ حاجّاً في سنة تسع وأربعين ومائة، فنزلت «القادسيّة» فإذا شابّ حسن الوجه، شديد السمرة، عليه ثوب صوف، مشتمل بشملة، في رجليه نعلان، وقد جلس منفرداً عن الناس، فقلتُ في نفسي: هذا الفتى من الصوفيّة يريد أن يكون كَلاًّ على الناس، واللّه لأمضينّ إليه وأُوبّخه، فدنوتُ منه، فلمّا رآني مقبلاً، قال: يا شقيق! (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ)! فقلتُ في نفسي: هذا عبدٌ صالح قد نطق على ما في خاطري، لألحقنّه ولأسألنّه أن يحلّلني، فغاب عن عيني. فلمّا نزلنا «واقصة»، (إذا به يصلُي) وأعضاؤه تضطرب، ودموعه تتحادر، فقلت: أمضي إليه وأعتذر; فأوجز في صلاته، ثمّ قال: يا شقيق، (وَإنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) فقلت: هذا من الأبدال قد تكلّم على سرّي مرّتين.
فلمّا نزلنا «زبالة» إذا به قائم على البئر وبيده ركوة يريد أن يستقي ماءً، فسقطت الركوة في البئر، فرفع طرفه إلى السماء، وقال: أنتَ ربّي إذا ظمئتُ إلى الماء، وقُوتي إذا أردتُ الطعام، يا سيّدي ما لي سواها! قال شقيق: فو اللّه لقد رأيتُ البئر قد ارتفع ماؤها، فأخذ الركوة وملأها وتوضّأ وصلّى أربع ركعات، ثمّ مال إلى كثيب رمل هناك، فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويشرب، فقلتُ: أطعِمني من فضل ما رزقك اللّه وأنعم اللّه عليك! فقال: يا شقيق، لم تزل نعم اللّه علينا ظاهرة وباطنة، فأحسِنْ ظنّك بربّك; ثمّ ناولني الركوة، فشربتُ منها فإذا سويق وسكّر ما شربتُ ـ واللّه ـ ألذّ منه وأطيب ريحاً، فشبعت ورويت وأقمت أيّاماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً.
ثمّ لم أره حتّى دخل مكّة، فرأيتُه ليلةً إلى جانب قبّة السراب نصف الليل يصلّي بخشوع وأنين وبكاء، فلم يزل كذلك حتّى ذهب الليل، فلمّا طلع الفجر جلس في مصلاّه يسبّح، ثمّ قام إلى صلاة الفجر، وطاف بالبيت أُسبوعاً، وخرج فتبعته فإذا له حاشية وأموال وغلمان، وهو على خلاف ما رأيتُه في الطريق، ودارَ به الناس يُسلّمون عليه ويتبرّكون به، فقلتُ لبعضهم: مَن هذا؟ فقال: موسى بن جعفر عليهما السلام، فقلتُ: قد عجبتُ أن تكون هذه العجائب إلاّ لمثل هذا السيّد. رواه الحنبلي.
وعلى يده (عليه السلام) تاب بشر الحافيّ; لأنّه (عليه السلام) اجتاز على داره ببغداد، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقَصَب تخرج من تلك الدار، فخرجت جارية وبيدها قمامة البقل فرمت بها فى الدرب; فقال لها: يا جارية! صاحب هذه الدار حرٌّ أم عبد؟ فقالت: بل حرّ; فقال: صدقتِ، لو كان عبداً خافَ من مولاه! فلمّا دخلت قال مولاها وهو على مائدة السُكر: ما أبطأك علينا؟ فقالت: حدّثني رجلٌ بكذا وكذا. فخرج حافياً حتّى لقي مولانا الكاظم (عليه السلام) فتاب على يده.
وكان ولده عليّ الرضا (عليه السلام) أزهد أهل زمانه وأعلمهم; وأخذ عنه فقهاء الجمهور كثيراً، ولاّه(1) المأمون لعلمه بما هو عليه من الكمال والفضل.
ووعظ يوماً أخاه زيداً فقال له: يا زيد، ما أنت قائلٌ لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا سفكتَ الدماء وأخفتَ السبيل وأخذتَ المال من غير حِلّه؟! غرّك حُمقاءُ أهل الكوفة، وقد قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ فاطمة أحصنت فَرجها فحرّم اللّه ذرّيّتها على النار»، واللّهِ ما نالوا ذلك إلاّ بطاعة اللّه; فإن أردتَ أن تنال بمعصية اللّه ما نالوه بطاعته، إنّك إذاً لأكرم على اللّه منهم.
وضرب المأمون اسمه على الدراهم والدنانير، وكتب إلى الآفاق ببيعته، وطرح السواد ولبس الخُضرة.
وقيل لأبي نؤاس: لِمَ لا تمدح الرضا (عليه السلام)؟ فقال:
قيل لي أنتَ أفضلُ النّاس طُرّاً *** في المعاني وفي الكلام البديهِ
لك من جوهرِ الكلام بديع *** يُثمر الدرّ في يدَيْ مُجتنيه
فلماذا تركتَ مدحَ ابنِ موسى *** والخصالَ الّتي تجمّعن فيه
قلت: لا أستطيع مدحَ إمام *** كان جبريلُ خادماً لأبيه
وكان ولده محمّد الجواد (عليه السلام) على منهاج أبيه في العِلم والتقوى والجود، ولمّا مات أبوه الرضا (عليه السلام) شغف به المأمون لكثرة علمه ودينه ووفور عقله مع صغر سنّه، فأراد أن يزوّجه ابنته أُمّ الفضل، وكان قد زوّج أباه الرضا (عليه السلام) بابنته أُم حبيب، فغلظ ذلك على العبّاسيين واستكبروه، وخافوا أن يخرج الأمر منهم، وأن يُتابعه كما تابع أباه، فاجتمع الأدنون منه وسألوه تَرْك ذلك، وقالوا: إنّه صغير لا عِلم عنده. فقال: أنا أعرف به، فإن شئتم فامتحنوه; فرضوا بذلك، وجعلوا ليحيى بن أكثم مالاً كثيراً على امتحانه في مسألة يُعجزه فيها، فتواعدوا إلى يوم، فأحضَرَهُ المأمون، وحضر القاضي وجماعة العبّاسيين، فقال القاضي أسألُك عن شيء؟ فقال لَهُ (عليه السلام): سل.
فقال: ما تقول في مُحرم قَتَل صيداً؟
فقال له الإمام (عليه السلام): أقَتَله في حِلٍّ أم حَرَم؟ عالِماً كان أو جاهلاً؟ مُبتَدِئاً بقتله أو عائداً؟ مِن صغار الصيد كان أو من كبارها؟ عبداً كان المُحرِم أو حُرّاً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مِن ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها؟
فتحيّر يحيى بن أكثم وبان العجزُ في وجهه، حتّى عرف جماعة أهل المجلس أمره، فقال المأمون لأهل بيته: عرفتم الآن ما كنتم تُنكرونه؟! ثمّ أقبل على الإمام، فقال: أتخطب؟ فقال: نعم. فقال: إخطِب لنفسك خطبة النكاح! فخطب وعقد على خمسمائة درهم جياداً مهر جدّته فاطمة (عليها السلام)، ثمّ تزوّج بها.
وكان ولده عليّ الهادي (عليه السلام)، ويُقال له: العسكريّ، لأنّ المتوكّل أشخصه من المدينة إلى بغداد، ثمّ منها إلى «سرّ مَن رأى»، فأقام بموضع عندها يُقال له «العسكر»، ثمّ انتقل إلى «سرّ من أرى» فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر، وإنّما أشخصه المتوكّل لأنّه كان يُبغض عليّا (عليه السلام)، فبلغه مقام عليّ بالمدينة ومَيل الناس إليه، فخاف منه، فدعا يحيى بن هرثمة فأمره بإشخاصه، فضجّ أهل المدينة لذلك خوفاً عليه، لأنّه كان مُحسناً إليهم، مُلازماً للعبادة في المسجد، فحلف لهم يحيى أنّه لا مكروه عليه، ثمّ فتّش منزله فلم يجد فيه سوى مصاحف وأدعية وكتب العلم. (فعظم في عينه) وتولّى خدمته بنفسه، فلمّا قدم بغداد بدأ بإسحاق بن إبراهيم الطاهريّ والي بغداد، فقال له: يا يحيى، هذا الرجل قد ولده رسولُ اللّه (عليه السلام)، والمتوكّل مَنْ تعلم، فإنْ حَرَّضتَه عليه قَتَله وكان رسولُ اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)خصمك. فقال له يحيى: واللّهِ ما وقعتُ منه إلاّ على خير.
قال: فلمّا دخلتُ على المتوكّل أخبرتُه بحسن سيرته وزُهده وورعه، فأكرمه المتوكّل.
ثمّ مرض المتوكّل فنذر إن عُوفي تصدّق بدراهم كثيرة، فسأل الفقهاء عن ذلك، فلم يجد عندهم جواباً، فبعث إلى عليّ الهادي يسأله، فقال: تصدّق بثلاثة وثمانين درهماً، فسأله المتوكّل عن السبب، فقال: لقوله تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَة); وكانت المواطن هذه الجملة، فإنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) غزا سبعاً وعشرين غزاة، وبعث ستّاً وخمسين سريّة.
قال المسعوديّ: نُمي إلى المتوكّل بعليّ بن محمّد أنّ في منزله سلاحاً من شيعته من أهل قم، وأنّه عازم على المُلك; فبعث إليه جماعة من الأتراك، فهجموا على داره ليلاً فلم يجدوا شيئاً، ووجدوه في بيت مغلق عليه، وهو يقرأ (القرآن) وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصباء، متوجّه إلى اللّه تعالى يتلو القرآن، فَحُمل على حالته تلك إلى المتوكّل، فأُدخل عليه وهو في مجلس الشراب، والكأس في يد المتوكّل، فأعظمه وأجلسه إلى جانبه وناوله الكأس، فقال: واللهِ ما خامر لحمي ودمي قطّ (فأعفني!) فأعفاه وقال له: أسْمِعني صوتاً، فقال (عليه السلام): (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّات وَعُيُون) . . . الآيات; فقال: أنشِدني شعراً! فقال: إنّي قليل الرواية للشعر، فقال: لا بدّ من ذلك، فأنشده.
باتُوا على قُلَلِ الأجبال تحرُسُهُمْ *** غُلْبُ الرِّجالِ فما أغْنَتْهُمُ القُلَلُ
واستُنزِلُوا بعدَ عزٍّ مِن مَعاقِلِهِمْ *** وأُسْكِنُوا حُفَراً يا بِئسَ ما نَزَلُوا
ناداهُمُ صارخٌ من بعدِ دَفْنِهِمُ *** أينَ الأساورُ والتّيجانُ والحُللُ
أينَ الوجوهُ الّتي كانَتْ مُنعَّمَةً *** مِن دُونِها تُضْرَبُ الأستارُ والكُلَلُ
فأفْصَحَ القَبْرُ عنهُم حينَ سائلَهُ *** تلكَ الوجوهُ عليها الدُّودُ يَقتتِلُ
قد طالما أكَلُوا دهراً وقَد شَرِبُوا *** فأصْبَحُوا بعدَ طُولِ الأكلِ قد أُكِلُوا
فبكى المتوكّل حتّى بلّت دموعه لحيته.
وكان ولده الحسن العسكري (عليه السلام) عالماً فاضلاً زاهداً، أفضل أهل زمانه، روت عنه العامّة كثيراً.
وولَدُهُ مولانا الإمام المهديّ محمّد (عليه السلام); روى ابن الجوزيّ بإسناده إلى ابن عمر، قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمُه كاسمي وكُنيته كُنيتي، يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً، فذلك هو المهديّ.

(1) أي: جعله وليّاً للعهد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *