الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام

الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام

(وكان ولده علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أزهد أهل زمانه وأعلمهم)
قال ابن تيميّة: «من المصائب التي ابتلي بها ولد الحسين انتساب الرّافضة إليهم وتعظيمهم ومدحهم لهم، فإنّهم يمدحونهم بما ليس بمدح، ويدّعون لهم دعاوي لا حجّة لها، ويذكرون من الكلام ما لو لم يعرف فضلهم من غير كلام الرافضة، لكان ما تذكره الرّافضة بالقدح أشبه منه بالمدح!!».
أقول:
من المصائب التي ابتلي بها رسول اللّه وبضعته وأهل بيته (عليهم السلام)، وجود النواصب لهم في كلّ زمان، ودعواهم الإسلام، وانتسابهم إلى العلم، واستناد آخرين مثلهم إلى كلامهم . . . هؤلاء الذين بلغ بهم العداء حدّاً يجعلون الوصف بالزهد والعلم ونحو ذلك مدحاً بما ليس بمدح، وأنّه أشبه بالقدح!!
قال: «وأمّا قوله: إنّه كان أزهد الناس وأعلمهم، فدعوى مجرَّدة بلا دليل».
أقول:
نعم، لا دليل على ذلك عند هذا الرّجل وأمثاله!! لكن هناك في كلمات المحدّثين والمؤرّخين من غير شيعة أهل البيت (عليهم السلام) ما يدلّ على ما تذهب إليه الشيعة وتعتقد في أئمّتها، وإليك بعض تلك الكلمات:
قال الحافظ السّمهودي(1): «علي الرضا ابن موسى الكاظم كان أوحد أهل زمانه، جليل القدر، أسلم على يده أبو محفوظ معروف الكرخي . . . وقال له المأمون: بأيّ وجه صار جدّك علي بن أبي طالب قسيم الجنّة والنار؟ فقال: ألم ترو عن أبيك عن آبائه عن عبد اللّه بن عباس قال: سمعت رسول اللّه (عليه السلام) يقول: حبّ علي ايمان وبغضه كفر؟ قال: بلى. قال الرضا: فقسم الجنة والنار إذاً كان على حبّه وبغضه. فقال المأمون: لا أبقاني اللّه بعدك يا أبا الحسن. أشهد أنّك وارث علم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) »(2).
وقال كمال الدين محمّد بن طلحة(3): «أبو الحسن علي بن موسى الكاظم ابن جعفر الصّادق.
قد تقدم القول في أمير المؤمنين علي، وفي زين العابدين علي. وجاء هذا علي الرضا ثالثهما، ومن أمعن نظره وفكره وجده في الحقيقة وارثهما، فيحكم بكونه ثالث العليّين، نمى إيمانه وعلا شأنه، وارتفع مكانه واتّسع إمكانه وكثر أعوانه وظهر برهانه، حتى أحلّه الخليفة المأمون محلّ مهجته وأشركه في مملكته، وفوّض إليه أمر خلافته وعقد له على رؤوس الأشهاد عقد نكاح ابنته.
وكانت مناقبه عليّة وصفاته الشريفة سنيّةً، ومكارمه حاتميّة وشنشنته أخزمية، وأخلاقه عربيّة، ونفسه الشريفة هاشمية، وأُرومته الكريمة نبوّية، فمهما عدّ من مزاياه كان أعظم منه، ومهما فصّل من مناقبه كان أعلى مرتبة عنه»(4).
وقال الشبلنجي(5): «قال إبراهيم بن العبّاس: ما رأيت الرضا سئل عن شيء إلاّ علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى وقت عصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال من كلّ شيء فيجيبه الجواب الشافي، وكان قليل النوم كثير الصوم، لا يفوته صوم ثلاثة أيام من كلّ شهر ويقول: ذلك صيام الدهر. وكان كثير المعروف والصّدقة، وأكثر ما يكون ذلك منه في الليالي المظلمة. وكان جلوسه في الصيف على حصير وفي الشتاء على مسح»(6).
وقال الجويني(7): «الإمام الثامن: مظهر خفيّات الأسرار ومبرز خبيّات الأُمور الكوامن، منبع المكارم والميامن، ومنبع الأعالي الحضارم والأيامن، منيع الجناب رفيع القباب وسيع الرحاب هموم السحاب، غزير الألطاف، عزيز الأكناف، أمير الأشراف، قرة عين آل ياسين وآل عبد مناف، السيد الطاهر المعصوم، والعارف بحقائق العلوم والواقف على غوامض السرّ المكتوم، والمخبر بما هو آت وعمّا غبر ومضى، المرضي عند اللّه سبحانه برضاه عنه في جميع الأحوال، ولذا لقب بالرضا، علي بن موسى . . .»(8).
وقال ابن حجر المكي(9): «وكان أولاد موسى بن جعفر حين وفاته سبعة وثلاثين ذكراً وانثى، منهم علي الرضا، وهو أنبههم ذكراً وأجلّهم قدراً، ومن ثمّ أحلّه المأمون محلّ مهجته وأنكحه ابنته وأشركه في مملكته، وفوّض إليه أمر خلافته . . .»(10).
فهذه طائفة ممّا قيل في مدحه علماً وزهداً وجلالةً . . .
وأخذ عنه فقهاء الجمهور كثيراً
قال ابن تيميّة: «ولم يأخذ عنه أحد من أهل العلم بالحديث شيئاً، ولا روي له حديث في الكتب الستّة، وإنّما يروي له أبو الصّلت الهروي وأمثاله نسخاً عن آبائه فيها من الأكاذيب ما قد نزّه اللّه عنه الصّادقين من غير أهل البيت فكيف بالصّادقين منهم».
أما قوله: «إنه أخذ عنه فقهاء الجمهور كثيراً فهذا من أظهر الكذب . . . وما يذكره بعض الناس من أنّ معروفاً الكرخي كان خادماً له، وأنّه أسلم على يديه، أو أنّ الخرقة متّصلة منه إليه، فكلّه كذب باتّفاق من يعرف هذا الشأن».
أقول:
هنا أُمور:
الأوّل: في أخذ فقهاء الجمهور عن الإمام الرّضا (عليه السلام)، ويكفي في هذا المقام الكلمات التالية.
قال الواقدي: «سمع علي الحديث من أبيه وعمومته وغيرهم، وكان ثقةً، يفتي بمسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو ابن نيف وعشرين سنة، وهو من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة»(11).
وقال الحاكم النيسابوري: «علي بن موسى، أبو الحسن، ورد نيسابور سنة مائتين، وكان يفتي في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو ابن نيف وعشرين سنة. روى عنه من أئمة الحديث: المعلى بن منصور الرازي، وآدم بن أبي أياس العسقلاني، ومحمّد بن أبي رافع القصري القشيري، ونصر بن علي الجهضمي، وغيرهم. واستشهد بـ«سناباد» من طوس في رمضان سنة 203 وهو ابن تسع وأربعين سنة وستة أشهر»(12).
وقال ابن الجوزي: «كان يفتي في مسجد رسول اللّه وهو ابن نيف وعشرين سنة»(13).
وقال ابن كثير: «علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشي الهاشمي العلوي، الملقّب بالرضا. كان المأمون قد همَّ أن ينزل عن الخلافة فأبى عليه ذلك، فجعله وليّ العهد من بعده. كما قدمنا ذلك. توفّي في صفر من هذه السنة بطوس. وقد روى الحديث عن أبيه وغيره، وعنه جماعة منهم: المأمون، وأبو الصّلت الهروي، وأبو عثمان المازني النحوي . . .»(14).
وقال المزّي: «ق: علي بن موسى . . . روى عنه: أبو بكر أحمد بن الحباب بن حمزة الحميري النسّابة، وأيوب بن منصور النيسابوري، ودارم بن قبيصة بن نهشل الصنعاني، وأبو أحمد داود بن سليمان بن يوسف الغازي القزويني ـ له عنه نسخة ـ وسليمان بن جعفر، وعامر بن سليمان الطائي والد أحمد بن عامر أحد الضعفاء ـ له عنه نسخة كبيرة ـ وعبد اللّه بن علي العلوي، وأمير المؤمنين أبو العباس عبد اللّه المأمون بن هارون الرشيد، وأبو الصّلت عبد السلام بن صالح الهروي (ق)، وعلي بن صدقة الشطّي الرقي، وعلي بن علي الخزاعي الدعبلي، وعلي بن مهدي بن صدقة بن هشام القاضي ـ له عنه نسخة ـ ومحمّد بن سهل بن عامر البجلي، وابنه أبو جعفر محمّد بن علي بن موسى، وأبو جعفر محمّد بن محمّد بن حيّان التّمار البصري، وموسى بن علي القرشي، وأبو عثمان المازني النحوي»(15).
وقال الذهبي: «وروى عنه فيما قيل: آدم بن أبي أياس ـ وهو أكبر منه ـ وأحمد بن حنبل، ومحمّد بن رافع، ونصر بن علي الجهضمي، وخالد بن أحمد الذهلي الأمير»(16).
وقال الذهبي: «علي بن موسى الرضا. ق،د،ت ـ أحد الأعلام. هو الإمام أبو الحسن بن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب، الهاشمي، العلوي، الحسيني. روى عن أبيه وعبد اللّه بن أرطاة. وعنه: ابنه أبو جعفر محمّد، وأبو عثمان المازني، والمأمون، وعبد السلام بن صالح، ودارم بن قبيصة، وطائفة . . . وكان سيّد بني هاشم في زمانه وأجلّهم وأنبلهم. وكان المأمون يعظّمه ويخضع له ويتغالى فيه، حتّى أنّه جعله وليّ عهده من بعده، وكتب بذلك إلى الآفاق . . .»(17).
وقال ابن حجر قال الحاكم: «سمعت أبا بكر محمّد بن المؤمّل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر ابن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا ـ وهم إذ ذاك متوافرون ـ إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا بطوس، فرأيت من تعظيمه ـ يعني ابن خزيمة ـ لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيّرنا»(18).
وجاء في غير واحد من الكتب: «انّه لما دخل الإمام نيسابور راكباً خرج إليه علماء البلد، وبأيديهم المحابر والدوى، وتعلّقوا بلجام دابّته وحلّفوه أن يحدّثهم بحديث عن آبائه فقال: «حدّثني أبي موسى الكاظم عن أبيه . . . علي بن أبي طالب قال: حدّثني حبيبي وقرّة عيني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: حدّثني جبريل قال: سمعت ربّ العزّة يقول: لا إله إلاّ اللّه حصني فمن قالها دخل حصني وأمن من عذابي» وفي رواية: «انه روى عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «سألت رسول اللّه: ما الإيمان؟ قال: معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان». وعن أحمد: «ان قرأت هذا الإسناد على مجنون بريء من جنونه».
هذا، وقد كان على رأس العلماء الذين طلبوا من الإمام أن يحدّثهم: أبو زرعة الرازي، ومحمّد بن أسلم الطوسي، وياسين بن النضر، وأحمد بن حرب، ويحيى بن يحيى . . . وقد عدّ أهل المحابر والدوى الذين كانوا يكتبون فأنافوا على عشرين ألفاً»(19).
أقول: فمن الكاذب إذن!!
الثاني: في رواية أرباب الكتب الستّة عنه:
وقد عرفت من الكلمات السابقة رواية ثلاثة منهم عن الإمام الرضا (عليه السلام)، فإنّ «ق» رمز لابن ماجة القزويني، و«د» رمز لأبي داود السجستاني، و«ت» رمز للترمذي.
فقول الرجل: «ولا روي له حديث في الكتب الستّة»، كذب آخر.
هذا، ولا يخفى أنّه قد حقّق في محلّه أن ليس كلّ من روي له حديث في هذه الكتب بثقة، وليس كلّ من لم يروَ عنه فيها غير ثقة. أمّا أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فهم أعلا وأجل وأشرف من أن توزن أحاديثهم الصحيحة الثابتة عنهم بهذه الموازين، بل السعيد من أخذ عنهم واتّبعهم والشّقي من أعرض عنهم وخالفهم.
الثالث: في بيان حال أبي الصّلت الهروي.
لقد كان أبو الصّلت عبد السّلام بن صالح الهروي من أصحاب الإمام الرضا والملازمين له، والرّواة لأحاديثه وأخباره، بل في (تهذيب الكمال): «وهو خادم علي بن موسى الرّضا»، وقد ذكروا بترجمته أنّه كان عالماً فقيهاً أديباً، يردّ على أهل الأهواء من المرجئة والجهميّة والزنادقة والقدرية ويناظرهم وفي كلّ ذلك كان الظفر له. وذكروا أيضاً: أنّه كان يقدّم أبا بكر وعمر ولا يذكر أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ بالجميل.
ولهذه الأُمور وغيرها، فقد وثّقه غير واحد من الأئمة، وعلى رأسهم إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين(20).
لكنّهم مع ذلك رموه بالتشيّع، لروايته عن الإمام الرضا وغيره بعض المناقب والفضائل لأمير المؤمنين (عليه السلام)، الدالّة على أفضليّته وإمامته بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، كحديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها، ثمّ أفرط بعض المتعصّبين وجعل يتكلّم في الرجل ويقع فيه، حتى قال الجوزجاني ـ المعروف بالنصب(21) ـ: «كان أبو الصّلت الهروي زائغاً عن الحق مائلاً عن القصد» وقال ابن عدي: «له أحاديث مناكير في فضل أهل البيت وهو متّهم فيها» وقال الدارقطني: «كان رافضيّاً خبيثاً»(22).
وكلّ ذلك ـ كما توحي به كلماتهم ـ لروايته فضائل أهل البيت . . . وإلاّ فالرجل ثقة صدوق . . . وهذا ما نصّ عليه الحافظ ابن حجر حيث قال: «صدوق، له مناكير، وكان يتشيّع، وأفرط العقيلي فقال: كذّاب»(23).
الرابع: في إسلام معروف الكرخي على يد الإمام.
وكذّب ابن تيميّة خبر اسلام معروف على يد الإمام الرضا (عليه السلام)، كما كذّب من قبل خبر توبة بشر الحافي على يد الإمام موسى بن جعفر الكاظم . . . وقد جاء الخبر في أكثر من كتاب ومصدر، من ذلك قول ابن خلّكان: «هو من موالي علي بن موسى الرضا وقد تقدم ذكره، وكان أبواه نصرانيين، فأسلماه إلى مؤدّبهم وهو صبي، وكان المؤدّب يقول له: قل ثالث ثلاثة، فيقول معروف: بل هو الواحد، فيضربه المعلم على ذلك ضرباً مبرّحاً، فهرب منه، وكان أبواه يقولان: ليته يرجع إلينا على أيّ دين شاء فنوافقه عليه. ثمّ انّه أسلم على يد علي بن موسى الرضا ورجع إلى أبويه، فدقّ الباب فقيل له: من بالباب؟ فقال: معروف. فقيل له: على أي دين؟ فقال: على الإسلام. فأسلم أبواه»(24).
أقول:
لقد ذكروا بتراجمه كرامات عجيبة له، فحاولوا التكتّم على كونه من موالي الإمام وعلى إسلامه على يده (عليه السلام) لئلاّ يكون ذلك فضيلة له!! . . . فمنهم من لم يذكر كونه من مواليه ولا حكى إسلامه على يده، ولا روى عنه شيئاً ممّا سمعه من الإمام، كالحافظ أبي نعيم(25) والحافظ ابن الجوزي(26)، ومنهم من اعترف بكونه من مواليه ولم يذكر عن إسلامه شيئاً كالشعراني(27)، ومنهم من حكى قصّته مع المؤدّب ثمّ رجوعه إلى أبويه بعد هربه وأنّهما أسلما، ولم يزد على ذلك شيئاً كالذهبي(28) . . . ومنهم من حكى أنّه كان حاجباً للإمام فكسروا ضلعه فمات(29) وهذا ما كذّبه الذهبي فقال: «فلعلّ الرضا كان له حاجب اسمه معروف، فوافق اسمه اسم زاهد العراق»(30).
أقول:
لكنّ مقامات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لا تزيد ولا تنقص بإثبات شيء من هذا القبيل أو انكاره، بل الغرض المهم بيان مدى عناد ابن تيميّة وعدائه لأهل البيت الطاهرين.
(وولاّه المأمون، لعلمه بما هو عليه من الحال والكمال والفضل)
وهذا من الأُمور الثابتة والقضايا الضرورية في التاريخ، ولو أمكن ابن تيميّة إنكاره كذلك لفعل، ولكنّه سكت عنه ولم يتكلّم عليه بشيء، وقد جاء بعض ذلك في غير واحد ممّا تقدّم من العبارات، وأُلّف في الموضوع العديد من المؤلَّفات، فراجع.
(ووعظ أخاه زيداً فقال: يا زيد، ما أنت قائل لرسول اللّه…)
أقول: زيد هذا هو المعروف بزيد النار، كان يرى وجوب الخروج على السّلطة الحاكمة، فكان ممّن خرج مع أبي السّرايا ضد المأمون، وانّما قيل له «زيد النار» لإحراقه الدور وغيرها، ولمّا ظفر به المأمون عفا عنه وأرسله إلى الإمام الرضا (عليه السلام) . لكن الإمام حلف أن لا يكلّمه أبداً. راجع أخباره في: مقاتل الطالبيّين: وغيره(31)، وقد روى كلام الإمام مع أخيه هذا المناوي عن أهل السير(32).
وأمّا الحديث المذكور، فقد كذّبه ابن تيميّة، بل ادّعى الإتّفاق على أنه كذب! وهذا نصُّ عبارته:
«والحديث الذي ذكره عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن فاطمة، وهو كذب باتّفاق أهل المعرفة بالحديث.
ويظهر كذبه لغير أهل الحديث أيضاً; فإنّ قوله: إن فاطمة أحصنت فرجها فحرّمها اللّه وذرّيتها على النار، باطل قطعاً; فإنّ سارة أحصنت فرجها ولم يحرم اللّه جميع ذرّيتها على النار. قال تعالى: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإسْحقَ نَبِيِّاً مِنَ الصَّالِحِينَ) . . . وأيضاً: فصفيّة عمّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أحصنت فرجها، ومن ذريتها محسن وظالم. وفي الجملة: اللواتي أحصنّ فروجهن لا يحصي عددهنّ إلاّ اللّه عزّ وجلّ، ومن ذرّيتهن البر والفاجر والمؤمن والكافر.
وأيضاً: ففضيلة فاطمة ومزيّتها ليست بمجرّد احصان الفرج; فإن هذا تشارك فيه فاطمة وجمهور نساء المؤمنين، وفاطمة لم تكن سيّدة نساء العالمين بهذا الوصف بل بما هو أخصّ منه. بل هذا من جنس حجج الرافضة، فإنّهم لجهلهم لا يحسنون أن يحتجّوا ولا يحسنون أن يكذبوا.
وأيضاً: فليست ذريّة فاطمة كلّهم محرّمين على النار . . . فإنّ الرافضة رفضوا زيد ين علي بن الحسين ومن والاه وشهدوا عليه بالكفر والفسق، بل الرافضة أشدّ الناس عداوة ـ إمّا بالجهل وإمّا بالعناد ـ لأولاد فاطمة رضي اللّه عنها»(33).
أقول:
كيف يكون هذا الحديث كذباً باتّفاق أهل المعرفة بالحديث وقد رواه: الحاكم، والخطيب البغدادي، وأبو بكر البزار، وأبو يعلى الموصلي، والطبراني، وأبو نعيم، وابن حجر، والسيوطي، والمتّقي الهندي . . . وغيرهم؟ وقال الحاكم: «صحيح»(34)؟
وهذه فضيلة اختصّت بها سيدة نساء العالمين، وإن شاركتها في الوصف المذكور غيرها من فضليات النّساء. قال المناوي: «فحرّمها. أي بسبب ذلك الاحصان حرّمها اللّه وذرّيتها على النار. أي حرّم دخول النار عليهم. فأمّا هي وأبناؤها فالمراد في حقّهم التحريم المطلق. وأمّا من عداهم فالمحرّم عليهم نار الخلود، وأمّا الدخول فلا مانع من وقوعه للبعض للتطهير. هكذا فافهم. وقد ذكر أهل السّير أن زيد بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ـ رضي اللّه عنهم ـ خرج على المأمون . . .»(35).
وقال الزرقاني بشرح (المواهب اللدنيّة): «وروي عن ابن مسعود ـ رفعه ـ: انّما سمّيت فاطمة بإلهام من اللّه لرسوله ـ إن كانت ولادتها قبل النبوة، وإن كانت بعدها فيحتمل بالوحي ـ لأنّ اللّه قد فطمها، من الفطم وهو المنع، ومنه فطم الصبي، وذرّيتها عن النار يوم القيامة. أي: منعهم منها، فأمّا هي وابناها فالمنع مطلق، وأمّا من عداهم فالممنوع عنهم نار الخلود، فلا يمتنع دخول بعضهم للتطهير. ففيه بشرى لآله صلّى اللّه عليه وسلّم بالموت على الإسلام، وأنّه لا يختم لأحد منهم بالكفر. نظيره ما قاله الشريف السمهودي في خبر الشفاعة لمن مات بالمدينة، مع أنّه يشفع لكلّ من مات مسلماً. أو: إنّ اللّه يشاء المغفرة لمن واقع الذنوب منهم إكراماً لفاطمة وأبيها صلّى اللّه عليه وسلّم. أو: يوفّقهم للتوبة النصوح ولو عند الموت ويقبلها منهم. أخرجه الحافظ الدمشقي. هو ابن عساكر.
وروى الغسّاني والخطيب ـ وقال: فيه مجاهيل ـ مرفوعاً: انّما سمّيت فاطمة لأنّ اللّه فطمها ومحبّيها عن النار. ففيه بشرى عميمة لكلّ مسلم أحبّها. وفيه التأويلات المذكورة.
وأمّا ما رواه أبو نعيم والخطيب: أنّ علياّ الرضا ابن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق سئل عن حديث: إنّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّمها اللّه وذرّيتها على النار. فقال: خاص بالحسن والحسين. وما نقله الأخباريّون عنه من توبيخه لأخيه زيد حين خرج على المأمون . . . فهذا من باب التواضع والحثّ على الطّاعات وعدم الاغترار بالمناقب وإن كثرت . . . وإلاّ فلفظ ذريّة لا يخصّ بمن خرج من بطنها في لسان العرب (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمانَ) الآية. وبينهم وبينه قرون كثيرة، فلا يريد بذلك مثل علي الرضا مع فصاحته ومعرفته لغة العرب، على أنّ التقييد بالطائع يبطل خصوصيّة ذريّتها ومحبّيها. إلاّ أن يقال: للّه تعذيب الطائع، فالخصوصيّة أن لا يعذّبه إكراماً لها، واللّه أعلم.
والحديث الذي سئل عنه أخرجه أبو يعلى والطبراني والحاكم وصحّحه عن ابن مسعود، وله شواهد، وترتيب التحريم على الإحصان من باب إظهار مزيّة شأنها في ذلك الوصف، مع الإلماح ببنت عمران، ولمدح وصف الإحصان، وإلاّ فهي محرّمة على النار بنص الروايات آخر»(36).
وأمّا «أنّ الرافضة رفضوا زيد بن علي بن الحسين» ففرية شنيعة كرّرها الرجل في كتابه على الإماميّة . . . فإنّ الشيعة الإماميّة تعظّم زيداً وتحترمه وتروي عن النبي والأئمة المدح والثناء عليه، كالحديث الذي رواه رئيس محدّثيهم الشيخ الصدوق عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال للحسين عليه السلام: «يخرج من صلبك رجل يقال له زيد، يتخطّى هو وأصحابه رقاب الناس يدخلون الجنّة بغير حساب»(37). وعن الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه وانّما دعاكم إلى الرّضا من آل محمّد، ولو ظفر لو في بما دعاكم إليه»(38). وعن الرضا عليه السلام: «كان من علماء آل محمّد، غضب للّه فجاهد أعداءه حتّى قتل»(39).
وأمّا كلمات المدح والثناء والتعظيم من كبار علماء الطائفة فكثيرة جداً، قال المفيد: «كان زيد بن علي بن الحسين عين أُخوته بعد أبي جعفر عليه السلام. وكان ورعاً عابداً فقيهاً سخيّاً شجاعاً، وظهر بالسيف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويطلب بثارات الحسين عليه السلام» ثمّ روى بأسانيده أخباراً في فضله وقال: «لما قتل بلغ ذلك أبا عبد اللّه عليه السلام كلّ مبلغ وحزن له حزناً شديداً عظيماً حتّى بان عليه، وفرّق من ماله على عيال من أصيب مع زيد من أصحابه ألف دينار»(40).
(وضرب المأمون اسمه على الدراهم والدنانير، وكتب إلى الآفاق ببيعته…)
قال ابن تيميّة: «وأمّا ما ذكره من تولية المأمون له الخلافة فهذا صحيح، لكن ذلك لم يتم . . . ولم يجعله وليَّ عهده».
أقول:
جاء هذا في كافّة كتب التاريخ والسّير، وقد تقدّم النقل عن بعضها. وقال ابن الجوزي: «وفي هذه السنة جعل المأمون علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده، وسمّاه الرضيّ من آل محمّد، وأمر جنده أن يطرح السواد ولبس ثياب الخضرة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وذلك يوم الإثنين لليلتين خلتا من رمضان هذه السنة. فكتب الحسن بن سهل إلى عيسى بن محمّد يخبره أنّ أمير المؤمنين قد جعل علي بن موسى الرضا ولي عهده، وذلك أنّه نظر في بني العبّاس وبني علي فلم يجد أحداً أفضل ولا أورع ولا أعلم منه، وأنّه سمّاه الرضي من آل محمّد، وأمر أن يأمر من قبله من الجند والقوّاد وبني هاشم بالبيعة له . . .» ثمّ ذكر نصّ العهد الذي كتبه المأمون بخطّه للإمام عليه السلام، وما كتبه الإمام، والشهادات على ذلك(41).
وقد جاء الخبر كذلك قبله في تاريخ الطبري(42) وعنه في الكامل في التاريخ(43)، وكذا هو في تاريخ ابن خلّكان قال: «وجعله ولي عهده، وضرب اسمه على الدينار والدرهم، وكان السبب في ذلك . . . أنّه نظر في أولاد العبّاس وأولاد علي بن أبي طالب فلم يجد في وقته أحداً أفضل ولا أحق بالأمر من علي الرضا، فبايعه . . .»(44).
واختصر السيوطي الخبر فقال: «وجعل ولي العهد من بعده علي الرضا ابن موسى الكاظم ابن جعفر الصادق، حمله على ذلك إفراطه في التشيع، حتى قيل: انّه همّ أن يخلع نفسه ويفوّض الأمر إليه، وهو الذي لقّبه الرضا، وضرب الدراهم باسمه، وزوّجه ابنته، وكتب إلى الآفاق بذلك، وأمر بترك السواد ولبس الخضرة»(45).
أقول:
فانظر كيف ينكر ابن تيميّة الحقائق التاريخية، واحكم عليه بما يوجبه الحق!!
(وقيل لأبي نؤاس: لم لا تمدح الرضا؟ فقال: …)
قال ابن تيميّة: «القوم جهال بحقيقة المناقب والمثالب والطرق التي يعلم بها ذلك، ولهذا يستشهدون بأبيات أبي نواس، وهي لو كانت صدقاً لم تصلح أن تثبت فضائل شخص بشهادة شاعر معروف بالكذب والفجور الزائد الذي لا يخفى على من له أدنى خبرة بأيّام الناس، فكيف والكلام الذي ذكره فاسد، فإنّه قال:
قلت لا أستطيع مدح إمام *** كان جبريل خادماً لأبيه
ومن المعلوم أنّ هذا وصف مشترك بين جميع من كان من ذريّة الرسل . . . فإنّ الناس كلّهم من ذريّة نوح ومن ذريّة آدم . . .».
أقول:
أوّلاً: هل جميع الذين يستند ابن تيميّة إلى أقوالهم من شعر وغير شعر في هذا الكتاب وغيره، وكذا غيره من علماء طائفته، عدولٌ مبرّءون من كلّ ذنب وعيب؟! لماذا يتناسى الرجل استشهاده بكلام أبي سفيان الكافر، وبقول حذّاق المنافقين؟!
ثانياً: إنّ الإماميّة لا يثبتون مناقب أئمّتهم وفضائلهم بالإستناد إلى شعر هذا وذاك، بل هم في غنى عن ذلك، بالأدلّة القويمة من الكتاب الكريم والسنّة الصحيحة المتّفق عليها.
وثالثاً: إنّ المعاني التي يتضمّنها هذا الشعر وأمثاله إنّما هي أخبار وآثار واردة، وليست بقضايا قد أنشأها الشاعر من عند نفسه، فالإستشهاد في الحقيقة إنّما هو بالحديث الذي تضمّنه الشعر، ولاسيّما إذا كان قائله من رواة الحديث أيضاً.
ورابعاً: إنّ هذا الشعر وغيره ممّا قاله أبو نؤاس في مدح الإمام الرضا (عليه السلام)مذكور بترجمة الإمام ولغرض المدح له، من قبل كبار العلماء الأجلاّء المتقدّمين على العلاّمة (رحمه الله)والمعاصرين له والمتأخّرين عنه كما سنرى، فلولا صحّة الاستشهاد به عندهم ـ قولاً وقائلاً ـ لما كان ذلك منهم يقيناً.
وخامساً: إنّ السبب الحقيقي لكلام الرجل هذا ـ ومع الإلتفات إلى الوجوه التي ذكرناها ـ هو: إنّ أبا نؤاس من الشعراء المحبّين لأهل البيت (عليهم السلام)، وأشعاره في الإمام الرضا وآبائه تدلّ على مدح عظيم لهم، وابن تيميّة يكره المحبّ لأهل البيت المتجاهر بالمدح لهم . . . وأمّا ما اشتهر عن أبي نؤاس من المجون والخلاعة، فقد ذكروا أنّه في الأغلب ممّا لا أصل له، على أنّ ذلك لو كان فقد كان في أوّل العمر، وقد ثبت عنه التوبة في آخره كما نصّ عليه ابن الجوزي.

(1) هو: علي بن عبد اللّه، المتوفّى سنة: 911.
(2) جواهر العقدين ق 2 ج 2 ص 427.
(3) هو المحدّث الفقيه الشّافعي المتوفى سنة: 652.
(4) مطالب السئول: 84.
(5) هو: الشيخ مؤمن بن حسن المتوفى بعد سنة: 1308.
(6) نور الأبصار: 312.
(7) هو: الشيخ إبراهيم بن محمّد، من مشايخ الذهبي، توفي سنة: 730.
(8) فرائد السمطين 2 / 187.
(9) المتوفى سنة: 972.
(10) الصواعق المحرقة: 122.
(11) تذكرة خواص الأُمّة: 351.
(12) تهذيب التهذيب 7 / 338، فرائد السمطين 2 / 199، عن تاريخ نيسابور.
(13) المنتظم 10 / 120.
(14) البداية والنهاية، حوادث 203.
(15) تهذيب الكمال 21 / 148.
(16) سير أعلام النبلاء 9 / 387.
(17) تاريخ الإسلام: 269 حوادث 201 ـ 210.
(18) تهذيب التهذيب 7 / 339.
(19) أخبار اصبهان 1 / 138، المنتظم في أخبار الأُمم 10 / 120، الصواعق المحرقة: 122 عن تاريخ نيسابور، الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 253، جواهر العقدين.
(20) كذا وصفوه، انظر مثلاً: تقريب التهذيب 2 / 358.
(21) انظر: لسان الميزان 1 / 16.
(22) لاحظ الكلمات بترجمته من الكتب الرّجالية، كتهذيب الكمال 18 / 73.
(23) تقريب التهذيب 1 / 506.
(24) وفيات الأعيان 5 / 231.
(25) حلية الأولياء 8 / 360.
(26) المنتظم 10 / 88.
(27) لواقح الأنوار 1 / 72.
(28) سير أعلام النبلاء 9 / 339.
(29) طبقات الصّوفية: 83.
(30) سير أعلام النبلاء 9 / 343.
(31) مقاتل الطالبيين: 436.
(32) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير 2 / 462.
(33) منهاج السنّة 2 / 126.
(34) المستدرك على الصحيحين 3 / 152.
(35) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير 2 / 462.
(36) شرح المواهب اللدنيّة 3 / 203.
(37) عيون أخبار الرضا 1 / 249.
(38) رجال الكشي: 184.
(39) عيون أخبار الرضا 1 / 250.
(40) الإرشاد 2 / 171 ـ 173.
(41) المنتظم 10 / 93 ـ 99.
(42) تاريخ الطبري 8 / 554.
(43) الكامل لابن الأثير 6 / 326.
(44) وفيات الأعيان 2 / 432.
(45) تاريخ الخلفاء: 307.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *