تحقيق أبي بكر هذه الشروط و المتطلّبات

تحقيق أبي بكر هذه الشروط و المتطلّبات:
فقال:
«وقد اجتمعت هذه الصفات والشروط كلّها في سيّدنا أبي بكر رضي اللّه عنه…»!!
وقال في الصفحة 63:
«ونتناول مظاهر تحقيق سيّدنا أبي بكر الشروط المذكورة أعلاه بالترتيب…».
فشرع يشرح تحقيق أبي بكر لتلك الشروط… حتّى الصفحة 71!
أقول:
أولا: كلّ هذه الصفحات التي سوّدها المؤلّف أجنبيّة عن «سيرة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب».
وثانياً: البحث عن أنّ الاَْصل والاَْساس في خلافة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ما هو؟ وأنّ الشروط التي يعتبر وجودها في الخليفة ما هي؟ وأنّ الذي كان واجداً لذلك وأهلا للخلافة من هو؟ والبحوث الاُْخرى المتعلّقة بموضوع (الإِمامة)… موضعها (علم الكلام) ومرجعها (كتب الإِمامة) والمفروض أنّ هذا الكتاب مؤلَّف في (سيرة المرتضى)!
وثالثاً: من يراجع كتب أهل السُنّة كـ «المواقف» و«المقاصد» وشروحهما وغيرهما… يجد الشروط المعتبرة عندهم في الخليفة أشيآء أُخرى غير هذه التي اخترعها هذا المؤلّف… فهو في كلّ ما أتى به مخالف لما قال به أئمّة مذهبه.
ورابعاً: هذه الشروط ـ التي زعم توفّرها في أبي بكر ـ كانت متوفّرة بصورة أتمّ وأكمل في كثير من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فيكون كلّ واحد منهم أحقّ وأَوْلى منه بالخلافة عن النبيّ.
وخامساً: هذه الشروط ـ التي زعم توفّرها في أبي بكر ـ كانت متوفّرة ـ على هذا الحدّ الذي ادّعاه ـ في عشرات ـ إنْ لم نقل مئات ـ من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فما الذي قدّمه وفضّله عليهم؟!
ويشهد بما ذكرنا قوله المشهور المتّفق عليه: «أقيلوني، فلست بخيركم»(1).
وسادساً: إنْ كان يقصد اختصاص أبي بكر ـ دون غيره ـ ببعض الاُْمور، فلذا قُدّم على غيره، فإنّا لم نجد فيما أورده شيئاً يختصّ بأبي بكر إلاّ مسألة الصّلاة في مرض النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وقد حقّقنا هذه المسألة من قبل في رسالة خاصّة مطبوعة، وتوصّلنا ـ على ضوء أحاديث الصحاح والمسانيد المعتبرة عند القوم ـ إلى أنْ لا أساس لذلك من الصحّة… ومن شاء فليرجع إلى تلك الرسالة(2).
وسابعاً: إنّه قد أثبت علماؤنا أنّ الإمامة بالنصّ من اللّه ورسوله، ولا ينصب اللّه ورسوله إلاّ من هو أفضل الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وأنّه ليس إلاّ أمير المؤمنين المرتضى عليه الصّلاة والسلام، وستأتي الإشارة إلى ذلك.

قال في الصفحة 71:
]12[ الاَْمر الشورى في الإِسلام وخلافة أبي بكر
وتحت هذا العنوان ذكر أنّ الحكومة والسيطرة كانت في الاُْمم والاَْديان السالفة وراثيّة وقد قضى الإِسلام على ذلك.
ولا أعلم لهذا المطلب علاقة بـ(المرتضى أمير المؤمنين) إلاّ دعوى أنّ القول بإمامته بعد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مبنيٌّ على أساس الوراثة، وأنّه لا دليل على هذا القول، ويشهد بهذا قوله في الصفحة 73:
«وقد قضى الإِسلام على هذين الاحتكارين الوراثّيين اللذين جنيا على الإنسانية جناية تجلّت شواهدها ومظاهرها في تاريخ روما وإيران والهند، وترك الاَْمر إلى المسلمين وإلى أهل الشورى وأهل العلم والإِخلاص في اختيار الخليفة، ولذلك لم يصرّح رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم بشيء في شأن من يكون خليفته بعده ووليّ أمر المسلمين، فإن كان ذلك فريضةً من فرائض الدين وكان لابُدّ من التصريح به، لَنَفّذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم وصرّح به… يقول الاُْستاذ العقّاد معلّقاً على حديث القرطاس: أمّا القول بأنّ عمر هو الذي حال بين النبيّ عليه السلام والتوصية باختيار عليٍّ للخلافة بعده، فهو قول من السخف…».
أقول:
أولا: ليست إمامة عليٍّ وأولاده بعد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من باب الوراثة وحصر الخلافة في الاُْسرة الهاشمية، فإن كان الغرض من هذا الكلام نسبة هذا الاعتقاد إلى شيعة أهل البيت عليهم السلام، فهو كذب وافتراء.
وثانياً: تعتقد الشيعة أنّ جميع ما قاله النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أو فَعَلَه كان بأمر من اللّه سبحانه، ولكنّ المنافقين يجوّزون عليه «الهجر»!!
وثالثاً: وتعتقد أن نصب الإمام بعد النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بيد اللّه وليس باختيار من الخلق، وأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم صرّح بأشياء ـ لا بشيء ـ في شأن من يكون خليفته بعده، والتفصيل موكول إلى محلّه في الكتب الكلامية، ونكتفي هنا بالقول: بأنّ في كلّ ما قاله في حقّ عليٍّ ـ منذ يوم الإِنذار إلى يوم الغدير ـ دلالة على خلافته من بعده بأمر من اللّه عزّ وجلّ.
ورابعاً: لقد ثبت في محلّه أنّ عمر هو الذي حال دون وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بقوله: «حسبنا كتاب اللّه» و«إنّ الرجل ليهجر».. وهذا ما تؤكّده «المصادر القديمة الموثوق بها» كما وصفها المؤلّف، ولذا لم ينقل عنها شيئاً في الباب، والتجأ إلى نقل كلام زميله في العناد، عبّاس محمود العقّاد.

قال في الصفحة 76:
]13[ مبايعة أبي بكر
«وقف المسلمون في المدينة على مفترق طرق: إمّا اتّفاق الكلمة، وإمّا تنازع واختلاف، وقد زاد الاَْمر تعقّداً حدوث هذا الحادث في المدينة التي كانت موطن قبيلتين عظيمتين من قحطان وهم الاَْوس والخزرج… فلم يكن غريباً ولا غير طبيعي أن يروا لهم حقّاً في خلافة النبيّ المكّي المهاجر. وقد فطن لهذه العقدة النفسية والمحنة عمر بن الخطّاب، فاستعجل الاَمر، وقد علم أنّ الأنصار يستشرفون إلى أن يكون منهم الخليفة، فجمع المسلمين في سقيفة بني ساعدة، فقام ودعا إلى بيعة أبي بكر، فبايع الناس أبا بكر، ثم كانت البيعة العامة من غد بعد بيعة السقيفة في المسجد النبوي، ولم تكن مبايعة أبي بكر مصادفة من المصادفات التي قد يحالفها التوفيق، ومؤامرة من المؤامرات التي قد تُكَلّل بالنجاح، وقد أجاد الكاتب الإِسلامي الشهير (في الإِنجليزية) السيّد أمير علي التعبير عن هذه الحقيقة التاريخية، إذ قال…».
أقول:
أوّلا: كلّ هذه الأُمور لا علاقة لها بموضوع الكتاب.
وثانياً: لماذا وقفوا على مفترق طرق؟ هل تركهم رسول اللّه سدى فكانوا حيارى لا يهتدون الطريق؟ إن قلتم: نعم، فقد نسبتم النبي صلّى اللّه عليه وآله إلى التقصير، ونستعيذ باللّه من هذه النسبة، لقد بين لهم الطريق وعرّفهم الإمام الحق وبايعوه في غدير خم واتفقت كلمتهم عليه، فما عدا ممّا بدا؟
وثالثاً: إنّه لم ينقل هنا شيئاً عن المصادر القديمة الموثوق بها!! وإنّما ذكر كلاماً للكاتب الإِسلامي الشهير في الإِنجليزية…!!
ورابعاً: لم يتم أمر البيعة لأَبي بكر بهذه البساطة والسذاجة، فأحداث السقيفة، وأحداث دار عليٍّ والزهراء عليهما السلام مثبتة في التاريخ، ومذكورة في محلّها من الكتب المفصّلة.
وخامساً: لم يجمع المسلمين في سقيفة بني ساعدة ولم يجتمعوا، بل كان هناك ثلة من الأنصار وثلاثة من المهاجرين وهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ابن الجرّاح، فقوله: «فجمع المسلمين…» خلاف الواقع والحقيقة.
وسادساً: قول عمر بن الخطّاب: «كانت بيعة أبي بكر فلتةً وقى اللّه شرّها، ألا ومن عاد إلى مثلها فاقتلوه» ثابت مشهور بين المسلمين… وهو يفيد أنّ بيعته كانت مصادفةً من المصادفات إن لم تكن مؤامرةً من المؤامرات… .

قال في الصفحة 81:
]14[ الحكمة في تأخير خلافة سيّدنا عليّ
«وكان من تقدير العزيز العليم أنّه لم يخلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم في ولاية أمر المسلمين ولم يتولّ خلافته على أثر وفاته، أحد من أهل بيته وأبناء الاُْسرة الهاشمية مباشرة… فما بقيت القضية قضية أُسرية وقضيّة محسوبيّة وعصبيّة…».
أقول:
حال خلافة سيّدنا أمير المؤمنين عليه السّلام عن النبيّ، حال خلافة هارون عن موسى، فهارون كان أخاً لموسى وقد جعله خليفةً له بأمر من اللّه، قال تعالى (وَقالَ مُوسى ِلأَخيهِ هارُونَ اخْلُفْني في قَوْمي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبيلَ الْمُفْسِدينَ)(3) وعليٌّ عليه السّلام كان أخاً لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآلهوسلّم بنصّ منه يوم الإِنذار وغيره، وقد جعله خليفةً من بعده بأمر من اللّه، كما في حديث يوم الإِنذار كذلك وغيره من الاَْحاديث في المواقف المختلفة، وقد قال له: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى… .
وكما أنّ قوم موسى اتّبعوا السامريّ واتّخذوا العجل من بعده وتركوا هارون… كذلك قوم محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وكما أنّ موسى قال لهارون: (وَلا تَتَّبِعْ سَبيلَ الْمُفْسِدينَ) كذلك النبي قال لعليّ وأوصاه بأنْ لا يتّبع سبيل المفسدين… .
فإذا كان إعراض قوم موسى عن هارون وضلالتهم… من تقدير العزيز العليم… فكذلك إعراض هذه الأُمّة عن عليٍّ وانقلابهم على أعقابهم… من تقدير العزيز العليم!!

قال في الصفحة 81 :
]15[ المحنة الاُْولى لأبي بكر وموقفه الصارم فيها
«وقد ثبت واتّفق عليه المحدّثون وأصحاب السيرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم قال: إنّا معشر الاَْنبياء لا نورّث، ما تركنا صدقة. وجاءت محنة دقيقة تمتحن صرامة أبي بكر، وتفصيل القصّة هو ما رواه البخاري بسنده عن عائشة. قالت: إنّ فاطمة والعبّاس أتيا أبا بكر رضي اللّه عنه يلتمسان ميراثهما… وظلّ أبو بكر على ما اعتقده ودان به وعزم على تنفيذ وصيّة رسول اللّه، وظلّت السيّدة فاطمة عليها السّلام على مطالبتها، وهي إمّا لم يبلغها ما عرفه الصدّيق، وإمّا رأت متّسعاً أو مبرّراً لخليفة رسول اللّه لتحقيق ما أرادته وإجابة ما طلبته، وكلٌّ مجتهد في ذلك وله العذر والثواب.
وقد جاء في مسند الإِمام أحمد بن حنبل أنّ السيّدة فاطمة قالت: فأنت وما سمعت من رسول اللّه أعلم.
وعاشت فاطمة بعد وفاة رسول اللّه ستّة أشهر وهي واجدة على ذلك مهاجرة لأَبي بكر حتّى توفّيت. ويقع مثل هذا كثيراً في حياة العشائر والجماعات، وممّا تقتضيه الطبيعة البشرية، وما جُبلت عليه من العاطفية والحسّاسيّة والاقتناع بما عرفه الإِنسان ودان به.
ولكنْ لم يكن اختلافها في هذا الاَْمر موجدتها(4) على أبي بكر متخطّيةً للحدود الشرعية، مخالفة لما جُبلت عليه من كرم النفس وعلوّ النظر والسماحة، فقد روي عن عامر أنّه قال: جاء أبو بكر إلى فاطمة وقد اشتدّ مرضها فاستأذن عليها فقال لها عليٌّ: هذا أبو بكر على الباب يستأذن، فإِنْ شئت أن تأذني له.
قالت: أَوَذاك أحبّ إليك؟ قال: نعم. فدخل فاعتذر إليها وكلّمها فرضيت عنه.
ولنختم هذا البحث بما قاله الاُْستاذ العقّاد…».
أقول:
ليس ما ذكره تفصيل القصّة، وكيف يكون تفصيلها في صفحة وقد اُلّفت الكتب فيها منذ القرون الاولى؟ إنّ اُسلوب المؤلّف يضطرّنا إلى شرح المهمّ من أخبار القضيّة بالإستناد إلى الأحاديث الصحيحة في الكتب الموثوق بها عند أهل السنّة:
لقد ذكرت فاطمة عليها السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهبها فدكاً، فقال أبو بكر: هاتِ أسود أو أحمر ليشهد لك بذلك، فجاءت باُمّ أيمن فشهدت لها بذلك، فقال: إمرأة، لا يُقبل قولها. فجاء أمير المؤمنين عليه السلام فشهد لها، فقال: هذا بعلك يجرّه إلى نفسه ولا نحكم بشهادته لك.
وإذْ لم يسمع أبو بكر قولها وكذّب شهودها، جاءت مرّةً اُخرى فطالبت بفدك من باب الإرث كما سيأتي.
أمّا أنه صلّى اللّه عليه وآله وقد وهبها فدكاً، فقد رواه أكابر أهل السنّة، قالوا: لمّا نزلت الآية المباركة (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) «أنحل فاطمة فدكاً»(5). ومن رواة الخبر:
أبو بكر البزّار المتوفى سنة 291 وأبو يعلى الموصلي المتوفى سنة 307 وابن أبي حاتم الرازي المتوفى سنة 327 وابن مردويه المتوفى سنة 401 والحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405 والطبراني المتوفى سنة 360 وابن النجّار المتوفى سنة 643 والذهبي المتوفى سنة 748 والهيثمي المتوفى سنة 807، والسيوطي المتوفى سنة 911 والمتقي المتوفى سنة 975 وغيرهم.
فكانت فدك في يد الزهراء عليها السلام وفي ملكها على حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، ولقد كانت الهبة في البيت ولذا قلّ عدد الشهود، لكنْ اُمّ أيمن من أهل الجنّة، فقد قال رسول اللّه: «من سرّه أنْ يتزوّج امرأة من أهل الجنة فليتزوّج اُمّ أيمن. فتزوّجها زيد بن حارثة، فولدت له اُسامة بن زيد»(6).
وكذلك أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسّلام. مضافاً إلى أنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله قال في حقّه: «علي مع الحق والحق مع علي» هذا الحديث المقطوع به لدى كافّة المسلمين، المرويّ عن عدّة من الصحابة وقد أخرجه الترمذي والحاكم وأبو يعلى والبزّار والطبراني والخطيب وابن عساكر وغيرهم(7)، وصحّحه غير واحد منهم كالحاكم في المستدرك والذهبي في تلخيصه.
وقد ورد خبر مطالبتها هبةً وشهادة أمير المؤمنين واُم أيمن في كافّة الكتب(8).
وإذا كان أبو بكر لا يصدّقها في الهبة، فالأرض باقيةٌ على ملك رسول اللّه، لأنّها ممّا لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، والزهراء الوارثة الوحيدة، فجاءت وطالبت بفدك إرثاً، فأجاب أبو بكر ـ فيما يروون ـ بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله قال: إنّا معاشر الأنبيا لا نورث ما تركنا صدقة».
لكنّ هذا ليس من كلام النبي، لأنّه لا يقول ما يخالف القرآن، وقد جاء في كلام اللّه عز وجلّ (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُودَ)(9) وعن زكريّا قوله: (وَإِنّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائي وَكانَتِ امْرَأَتي عاقِرًا فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُني وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)(10).
وقد قالت الزهراء عليها السلام لأبي بكر: «أنت ورثت رسول اللّه أمْ أهله؟ قال: بل أهله»(11).
وفي السيرة الحلبيّة قالت له: «أفي كتاب اللّه أن ترثك ابنتك ولا أرث أبي؟…»(12).
ثم إنّ ما ذكره أبو بكر عن رسول اللّه لم يسمعه أحدٌ منه، وإنما انفرد به أبو بكر كما نصّ على ذلك كبار الحفّاظ والمحدّثين من أهل السنّة، كأبي القاسم البغوي المتوفى سنة 317 وأبي بكر الشافعي المتوفّى سنة 354 وابن عساكر المتوفّى سنة 571. والجلال السيوطي المتوفّى سنة 911 وابن حجر المكّي المتوفّى سنة 973 والمتّقي الهندي المتوفى سنة 975(13).
وكذلك نصَّ عليه كبار علماء اُصول الفقه في مباحث خبر الواحد من كتبهم(14).
وكذلك نصّ عليه كبار العلماء في علم الكلام(15).
ولمّا كان الخبر مخالفاً للكتاب، ولم يسمع من غير أبي بكر ـ وحتّى منه إلى تلك الساعة ـ وكذّب به أمير المؤمنين والصدّيقة الطاهرة وأهل البيت، فإنّا لا يمكننا التصديق به، بل لقد وجدنا أحد كبار الحفّاظ من أهل السنة أيضاً يكذّب به ويصرّح بكونه موضوعاً، وهو الحافظ الكبير أبو محمّد عبدالرحمن بن يوسف ابن خراش المتوفّى سنة 283(16).
وقال الفخر الرازي:
«إنّ المحتاج إلى معرفة هذه المسألة ما كان إلاّ فاطمة وعلي والعبّاس، وهؤلاء كانوا من أكابر الزهّاد والعلماء وأهل الدين، وأما أبو بكر فإنّه ما كان محتاجاً إلى معرفة هذه المسألة ألبتّة، لأنّه ما كان ممّن يخطر بباله أنّه يورّث من الرسول، فكيف يليق بالرسول أن يبلّغ هذه المسألة إلى من لا حاجة له إليها، ولا يبلّغها إلى من له إلى معرفتها أشدّ الحاجة»(17).
ثم إنّ الصدّيقة الطّاهرة قد غضبت على أبي بكر وحَلَفت أنْ لا تكلّمه أبداً وهجرته حتى فارقت الدّنيا، وهذا هو ما أخرجه البخاري عن عائشة قالت:
«إنّ فاطمة ـ عليها السّلام ـ بنت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، مما أفاء اللّه عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر. فقال أبو بكر:
إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: لا نورّث ما تركنا صدقة، إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال، وإنّي ـ واللّه ـ لا اُغيّر شيئاً من صدقة رسول اللّه عن حالها التي كان عليها في عهد رسول اللّه، ولأعملنّ فيها بما عمل بها رسول اللّه.
فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً.
فوجدت فاطمة على أبي بكر، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت.
وعاشت بعد النبي ستة أشهر.
فلمّا توفّيت دفنها زوجها علي ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلّى عليها.
وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة»(18).
يقول المؤلّف بعد تصرّفه في الحديث:
«ويقع مثل هذا كثيراً في حياة العشائر والجماعات، وممّا تقتضيه الطبيعة البشريّة وما جبلت عليه من العاطفيّة والحساسيّة…».
ولكنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقول:
إنّ اللّه ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها، فانظر ـ أيّها القارئ ـ كيف يقول بعض الناس أمام قول رسول ربّ العالمين!!
وهذا الحديث قد أخرجه:
الإمام علي بن موسى الرضا عليه السّلام في مسنده(19).
الحافظ أبو موسى ابن المثنّى البصري المتوفى سنة 252 في معجمه(20).
الحافظ أبو بكر ابن أبي عاصم المتوفى سنة 287(21).
الحافظ أبو يعلى الموصلي المتوفى سنة 307 في مسنده(22).
الحافظ أبو القاسم الطبراني المتوفى سنة 360 في معجمه(23).
الحافظ الحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405(24).
الحافظ أبو سعد الخركوشي المتوفى سنة 406 في شرف النبوّة(25).
الحافظ أبو نعيم الإصبهاني المتوفى سنة 430 في فضائل الصحابة(26).
الحافظ أبو الحسن ابن الأثير المتوفى سنة 630(27).
الحافظ محبّ الدين ابن النجّار البغدادي المتوفى سنة 643(28).
الحافظ أبو المظفر سبط ابن الجوزي المتوفى سنة 654(29).
الحافظ محبّ الدين الطبري المتوفى سنة 694(30).
الحافظ أبو الحجاج المزّي المتوفى سنة 742(31).
الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852(32).
الحافظ ابن حجر المكّي المتوفى سنة 954(33).
الحافظ أبو عبداللّه الزرقاني المالكي المتوفى سنة 1122(34).
الحافظ علي المتقي الهندي المتوفى سنة(35).
وقال صلّى اللّه عليه واله: إنّ فاطمة بضعة منّي من آذاها فقد آذاني أو فمن أغضبها أغضبني… .
وهذا الحديث أخرجه:
البخاري في صحيحه(36).
ومسلم في صحيحه(37).
والترمذي في صحيحه(38).
والنسائي في خصائصه(39).
وأبو داود في سننه(40).
وأحمد في مسنده(41).
والحاكم في مستدركه(42).
والبيهقي في سننه(43).
وأبو نعيم في حليته(44).
ولهذا أوصت عليها الصلاة والسّلام بأنْ تدفن باللّيل، ولا يصلّي عليها أحدٌ ممّن آذاها وأغضبها، وهذا من ضروريّات تاريخ الإسلام، ومن رواته من أهل السنّة الأعلام:
البخاري، باب فرض الخمس.
مسلم، كتاب الجهاد والسير.
ابن سعد(45).
الطّحاوي(46).
الطبري(47).
الحاكم النيسابوري(48).
البيهقي(49).
أبو نعيم الإصفهاني(50).
ابن عبدالبر القرطبي(51).
محيي الدين النووي(52).
أبو بكر الهيثمي(53).
ابن الأثير الجزري(54).
ابن حجر العسقلاني(55).
وأمّا حديث تخاصم علي والعباس عند عمر، فقد أخرجه مسلم في صحيحه وهذا نصّه:
«لمّا توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال أبو بكر: أنا وليّ رسول اللّه، فجئتما، أنت تطلب ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: لا نورّث ما تركناه صدقة، فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً، واللّه يعلم أنّه لصادق بارّ راشد تابع للحقّ. ثمّ توفّي أبو بكر فقلت: أنا وليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ووليّ أبي بكر، فرأيتماني كاذباً آثماً غادراً خائناً(56).
وقد تصرّف البخاري في هذا الحديث وحرّفه بأشكال مختلفة، فراجعه في باب فرض الخمس، وباب حديث بني النضير من كتاب المغازي، وباب حبس نفقة الرجل قوت سنته من كتاب النفقات، وباب قول النبي: لا نورث من كتاب الفرائض، وباب ما يكره من التعمّق والتنازع من كتاب الاعتصام(57).
وفي آخر أخرجه أحمد والبزّار ـ وقال: حسن الإسناد ـ عن ابن عباس قال: «لمّا قبض رسول اللّه واستخلف أبو بكر، خاصم العبّاس عليّاً في أشياء تركها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فقال أبو بكر: شيء تركه رسول اللّه فلم يحرّكه فلا اُحرّكه، فلمّا استخلف عمر اختصما إليه، فقال: شيء لم يحرّكه أبو بكر فلا أحركّه، فلمّا استخلف عثمان إختصما إليه، فسكت عثمان ونكس رأسه. قال ابن عباس: فخشيت أنْ يأخذه أبي، فضربت بيدي بين كتفي العباس فقلت: يا أبت أقسمت عليك إلاّ سلّمته»(58).
أقول:
فالذي جاء مع «العباس» هو «علي» لا «فاطمة»، وقد جاءا إلى «عمر» لا إلى «أبي بكر»، وقد قال عمر ـ عن نفسه وأبي بكر ـ ما أورده مسلم وحرّفه البخاري، وتبعه المؤلّف في التحريف… .
وقد كان ما ذكرناه بعض التفصيل للقضيّة استناداً إلى ما ورد في المصادر الأصليّة لأهل السنّة، كما رأيت أيها القارئ الكريم، فليحكم عقلك بما يقيضيه الدين والإنصاف!
ثم قال المؤلّف في الصفحة 87:
«توفّيت فاطمة رضي اللّه عنها بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بستّة أشهر على الاَْشهر… ودفنت ليلا… وولدت لعليٍّ: حسناً وحسيناً ومحسّناً وأُمّ كلثوم، رضي اللّه عنها وأرضاها».
أقول:
أوّلا: إذا كانت على قيد الحياة بعد أبيها مدّة ستّة أشهر، وتوفّيت مهاجرةً لأَبي بكر، ولم تبايعه بالخلافة، فمن بايعت؟! ومن كان إمامها؟! وهل كان غير عليٍّ؟!
وثانياً: لماذا كان دفنها ليلا؟!
وثالثاً: أين «محسّن» الّذي ولدته لعليٍّ؟! متى وُلد؟! وما كان مصيره؟!

قال في الصفحة 88:
]16[ مبايعة سيّدنا عليّ
«واختلفت الاَْخبار في مبايعة عليّ متى كانت؟».
فذكر حديثاً عن البيهقي ثم قال: «والمشهور أنّ عليّاً عليه السّلام رأى أنْ يراعي خاطر فاطمة رضي اللّه عنها بعض الشيء، فلم يبايع أبا بكر، فلمّا ماتت رضي اللّه عنها بعد ستّة أشهر من وفاة أبيها بايعه…».
أقول: هنا بحوث:
هل بايع علي أمير المؤمنين عليه السّلام أبا بكر؟ وكيف بايع؟ ومتى؟
قال بعض العلماء المحققين إنه لم يبايع ولا مكرَهاً، والبحث عن كيفية بيعته ووقتها إنما يطرح بناءً على وقوع البيعة… .
أمّا كيفيّتها، فقد روى غير واحد من الأعلام كابن قتيبة وغيره أنها كانت بعد التهديد بالقتل وأنه قد بايع والسيف على رأسه… .
وأمّا وقتها، فقد روى البخاري أنّها كانت بعد رحيل الصدّيقة الطاهرة عليها السّلام، قال: «فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت. وعاشت بعد النبي صلّى اللّه عليه ]وآله [وسلّم ستة أشهر. فلمّا توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلّى عليها. وكان لعلي من الناس وجهٌ حياة فاطمة، فلما توفّيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن أئتنا ولا يأتي أحد معك، كراهية لمحضر عمر…»(59).
ففي هذا الحديث: إن فاطمة لم تبايع أبا بكر حتى توفيت، وإنّ علياً ما بايعه حتى توفيت، ولمّا توفيت استنكر وجوه الناس… أي: اضطرّ لأنْ يبايع.
فبناءً على أنه قد بايع، فإنّ ذلك كان بعد وفاتها عن كره واضطرار، ولو بقيت فاطمة في الحياة سنيناً لما بايع، لأنه الخليفة بعد رسول اللّه بلا فصل، بالأدلّة العقليّة والنقلية المذكورة في الكتب المفصّلة.

(1) تفسير الآلوسي 27 / 180، شرح نهج البلاغة لإبن أبي الحديد 1 / 168.
(2) أنظر: كتاب «صلاة أبي بكر في مرض النبي صلى اللّه عليه وآله».
(3) سورة الأعراف: الآية 142.
(4) كذا.
(5) أنظر: الدر المنثور 4 / 177، شواهد التنزيل 1 / 439.
(6) الطبقات الكبرى 8 / 224، الإصابة 4 / 433.
(7) صحيح الترمذي 5 / 592، المستدرك على الصحيحين 3 / 119 و 124، مجمع الزوائد 7 / 234 و 235 و 9 / 134، تاريخ بغداد 14 / 321، تاريخ مدينة دمشق: 42 / 449.
(8) أنظر: تفسير الرازي 29 / 284، الصواعق المحرقة: 21، السيرة الحلبيّة 3 / 486، وفاء الوفا 3 / 995.
(9) سورة النمل: الآية 16.
(10) سورة مريم: الآية 6.
(11) مسند أحمد 1 / 4.
(12) السيرة الحلبيّة 3 / 488.
(13) أنظر: تاريخ الخلفاء: 28، الصواعق المحرقة: 20، وكنز العمال 5 / 605 برقم 14071.
(14) أنظر: شرح المختصر لإبن الحاجب 2 / 59، المحصول في علم الاصول للرازي 2 / 180 ـ 181، المستصفى في علم الاصول للغزالي 2 / 121 ـ 122، الإحكام في اصول الأحكام للآمدي 2 / 75 ـ 77 وغيرها.
(15) أنظر: شرح المواقف 8 / 355 وشرح المقاصد 5 / 278.
(16) أنظر: تذكرة الحفّاظ 2 / 284 وسير أعلام النبلاء 13 / 510.
(17) أنظر: تذكرة الحفّاظ 2 / 684 وسير أعلام النبلاء 13 / 510.
(18) صحيح البخاري، باب غزوة خيبر، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير 5 / 152.
(19) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: 39.
(20) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: 39.
(21) الاصابة في معرفة الصحابة 4 / 378، شرح المواهب اللدنية 3 / 202.
(22) كنز العمال 12 / 111 رقم: 34238.
(23) المعجم الكبير 1 / 108.
(24) المستدرك على الصحيحين 3 / 154.
(25) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: 39.
(26) كنز العمال 12 / 111 رقم: 34238.
(27) اُسد الغابة في معرفة الصحابة 5 / 522.
(28) كنز العمال 13 / 674 رقم: 37725.
(29) تذكرة خواص الامّة: 310.
(30) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى: 39.
(31) تهذيب الكمال 35 / 250.
(32) الإصابة في معرفة الصحابة 4 / 378، تهذيب التهذيب 12 / 469.
(33) الصواعق المحرقة: 105.
(34) شرح المواهب اللدنية 3 / 202.
(35) كنز العمال 12 / 111 و13 / 674.
(36) صحيح البخاري كتاب بدء الخلق، باب مناقب قرابة رسول اللّه صلى اللّه عليه ]وآله [4 / 210.
(37) صحيح مسلم كتاب فضائل الصّحابة، باب فضائل فاطمة بنت النبي عليها الصلاة والسلام 7 / 141.
(38) صحيح الترمذي فضل فاطمة رضي اللّه عنها 5 / 360، رقم 3961.
(39) خصائص أمير المؤمنين عليه السلام: 121.
(40) سنن أبي داود باب ما يكره أن يجمع بينهنّ من النساء.
(41) مسند أحمد بن حنبل 4 / 238، 323، 332.
(42) المستدرك على الصحيحين 3 / 158.
(43) سنن البيهقي 7 / 64.
(44) حلية الأولياء 2 / 40 و 174.
(45) البداية والنهاية 6 / 2 ـ 10.
(46) الطبقات الكبرى 8 / 29.
(47) تاريخ الطبري 3 / 162.
(48) المستدرك على الصحيحين 3 / 162.
(49) السنن الكبرى 6 / 300، 396.
(50) حلية الأولياء 2 / 43.
(51) الاستيعاب 4 / 1898.
(52) شرح مسلم 12 / 77.
(53) مجمع الزوائد 9 / 211.
(54) الكامل في التاريخ 5 / 540.
(55) فتح الباري 3 / 167.
(56) صحيح مسلم، كتاب الجهاد، باب حكم الفئ 5 / 152.
(57) أنظر: صحيح البخاري 4 / 503، 5 / 188، 7 / 120، 8 / 551، 9 / 754.
(58) كنز العمال 5 / 586 برقم 14044.
(59) صحيح البخاري كتاب المغازي، باب غزوة خيبر 5 / 252.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *