في رثاء الميّت بالقريض
في رثاء الميّت
ويظهر من القسطلاني في شرح البخاري(1): إنّ الجماعة يفصّلون القول فيه، فيحرّمون ما اشتمل منه على مدح الميّت وذكر محاسنه الباعث على تحريك الحزن وتهييج اللّوعة، ويبيحون ما عدا ذلك.
والحق إباحته مطلقاً، إذ لا دليل هنا يعدل بنا عن مقتضى الأصل، والنواهي التي يزعمونها إنّما يستفاد منها الكراهة في موارد مخصوصة، على أنّها غير صحيحة بلا ارتياب.
وقد رثى آدم (عليه السّلام) ولده هابيل(2)، واستمرّت على ذلك ذريّته إلى يومنا هذا بلا نكير.
وأقرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أصحابه عليه مع إكثارهم من تهييج الحزن به، وتفننهم بمدائح الموتى فيه، وتلك مراثيهم منتشرة في كتب الأخبار، فراجع من الإستيعاب ـ إن أردت بعضها ـ أحوال سيدالشهداء حمزة، وعثمان بن مظعون، وسعد بن معاذ، وشماس بن عثمان بن الشريد، والوليد بن الوليد بن المغيرة، وأبي خراش الهذلي، وأياس بن البكير الليثي، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وغيرهم.
ولاحظ من الإصابة أحوال ذي الجناحين جعفر بن أبي طالب، وأبي زيد الطائي، وأبي منان بن حريث المخزومي، والأشهب بن رميلة الدارمي، وزينب بنت العوام، وعبداللّه بن عبد المدان الحارثي، وجماعة آخرين لا تحضرني أسماؤهم.
ودونك كتاب الدرّة في التعازي والمراثي، وهو في أول الجزء الثاني من العقد الفريد، تجد فيه من مراثي الصحابة ومن بعدهم شيئاً كثيراً.
وليس شيء مما أشرنا إليه إلاّ وقد اشتمل على ما يهيّج الحزن، ويجدد اللّوعة بمدح الميت وذكر محاسنه.
ولمّا توفي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم تنافست فضلاء الصحابة في رثائه، فرثته سيدة نسآء العالمين (عليها السلام) بأبيات تُهيّج الأحزان، ذكر القسطلاني(3) في إرشاد الساري بيتين منها وهما قولها عليها السلام:
ماذا على مَن شمَّ تربة أحمد *** أن لا يشمَّ مدى الزمان غواليا
صُبَّت عليَّ مصائب لو أنها *** صُبَّت على الأيام صرن لياليا
ورثته أيضاً بأبيات تثير لواعج الأشجان، ذكر ابن عبدربه المالكي بيتين منها في أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد وهما:
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها *** وغاب مذ غبتَ عنّا الوحيُّ والكتبُ
فليت قبلك كان الموت صادفنا *** لما نعيت وحالت دونك الكثب
ورثته عمّته صفيّة بقصيدة يائية، ذكر ابن عبدالبر في أحوال النبي (صلّى اللّه عليه وآله) من استيعابه(4) جملة منها.
ورثاه أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب بقصيدة لاميّة، ذكر بعضها صاحبا الاستيعاب والإصابة(5) في ترجمة أبي سفيان المذكور.
ورثاه أبو ذويب الهذلي ـ كما يعلم من ترجمته في الإستيعاب والإصابة(6) ـ بقصيدة حائية.
ورثاه أبو الهيثم بن التيهان بقصيدة دالية، أشار إليها ابن حجر في ترجمة أبي الهيثم من إصابته(7).
ورثته أم رعلة القشيرية بقصيدة رائية، أشار إليها العسقلاني في ترجمة أم رعلة من إصابته(8).
ورثاه عامر بن الطفيل بن الحرث الأزدي بقصيدة جيمية، أشار إليها ابن حجر في ترجمة عامر من الإصابة(9).
ومَن استوعب الإستيعاب، وتصفّح الإصابة واُسد الغابة، ومارس كتب الأخبار، يجد من مراثيهم المشتملة على تهييج الحزن بذكر محاسن الموتى شيئاً يتجاوز حدّ الأحصاء.
وقد أكثرت الخنساء ـ وهي صحابيّة ـ من رثاء أخويها صخر ومعاوية وهما كافران، وأبدعت في مدائح صخر، وأهاجت عليه لواعج الحزن فما أنكر عليها منكر.
وأكثر أيضاً متمم بن نويرة من تهييج الحزن على أخيه مالك في مراثيه السائرة، حتى وقف مرة في المسجد وهو غاص بالصحابة أمام أبي بكر بعد صلاة الصبح واتكأ على سية قوسه فأنشد:
نعم القتيلُ إذا الرياح تناوحت *** خلف البيوت قُتِلَت يا ابن الأزور
ثم أومأ إلى أبي بكر ـ كما في ترجمة وثيمة بن موسى بن الفرات من وفيات ابن خلكان(10) ـ فقال مخاطباً له:
أدعوته باللّه ثم غدرته *** لو هو دعاك بذمّة لم يغدر
فقال أبو بكر: «واللّه ما دعوته ولا غدرته» ثم قال:
ولنعم حشو الدرع كان وحاسراً *** ولنعم مأوى الطارق المتنور
لا يمسك الفحشاء تحت ثيابه *** حلو شمائله عفيف المأزر
وبكى حتى انحط عن سية قوسه، قالوا: «فمازال يبكي حتى دمعت عينه العوراء» فما أنكر عليه في بكائه ولا في رثائه منكر، بل قال له عمر: ـ كما في ترجمة وثيمة من الوفيات(11) ـ «لوددت أنّك رثيت زيداً أخي بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك» فرثى متمم بعدها زيد بن الخطاب فما أجاد، فقال له عمر: «لما لم ترث زيداً كما رثيت مالكاً» فقال: «إنّه واللّه ليحرّكني لمالك ما لا يحركني لزيد».
واستحسن الصحابة ومَن تأخر عنهم مراثيه في مالك وكانوا يتمثّلون بها، كما اتفق ذلك من عائشة إذ وقفت على قبر أخيها عبد الرحمن ـ كما في ترجمته من الإستيعاب(12) ـ فبكت عليه وتمثّلت:
وكنا كندماني جذيمة حقبة *** من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا
فلمّا تفرّقنا كأني ومالكاً *** لطول اجتماع لم نبت ليلةً معا
وما زال الرثاء فاشياً بين المسلمين وغيرهم في كلِّ عصر ومصر لا يتناكرونه مطلقاً.
(1) أنظر: باب رثاء النبي (صلّى اللّه عليه وآله) سعد بن خولي ص 298 ج 3 من إرشاد الساري للقسطلاني. (المؤلف).
(2) فيما روى وقد ضعف.
(3) إرشاد الساري 3 / 318، باب رثاء النبي (صلى اللّه عليه وآله) سعد بن خولي.
(4) الإستيعاب 1 / 49.
(5) المصدر 4 / 1675، الإصابة 7 / 366، رقم 10689.
(6) الإستيعاب 4 / 1650، الإصابة 7 / 111.
(7) الإصابة 7 / 366.
(8) المصدر 3 / 473.
(9) المصدر 8 / 390.
(10) وفيات الأعيان 6 / 16.
(11) المصدر.
(12) الإستيعاب 2 / 826 و 4 / 1638.