7. شبهات ابن تيمية
وقال ابن تيميّة:
وحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها، أضعف وأوهى، ولهذا إنّما يعدّ في الموضوعات، وإن رواه الترمذي، وذكره ابن الجوزي وبيّن أن سائر طرقه موضوعة.
والكذب يعرف من نفس متنه، فإنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلاّ باب واحد، ولم يبلّغ عنه العلم إلاّ واحد فسد أمر الإسلام، ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلّغ عنه العلم إلاّ واحدا، بل يجب أن يكون المبلّغون أهل التواتر، الذين يحصل العلم بخبر هم للغائب، وخبر الواحد لا يفيد العلم إلاّ بقرائن، وتلك قد تكون منتفية أو خفيّة عن أكثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة.
وإذا قالوا: ذلك الواحد معصوم يحصل العلم بخبره.
قيل لهم: فلا بدّ من العلم بعصمته أوّلاً، وعصمته لا تثبت بمجرّد خبره قبل أن تعلم عصمته فإنه دور، ولا تثبت بالإجماع فإنه لا إجماع فيها، وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة لأن فيهم الإمام المعصوم، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه، فعلم أن عصمته لو كانت حقّاً لا بدّ أن تعلم بطريق آخر غير خبره، فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلاّ هو لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدين.
فعلم أنّ هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل ظنّه مدحاً، وهو يطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام، إذ لم يبلّغه إلاّ واحد.
ثم إن هذا خلاف المعلوم بالتواتر، فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي:
أما أهل المدينة ومكة، فالأمر فيهما ]فيهم[ ظاهر، وكذلك الشام والبصرة، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن عليّ إلاّ شيئاً قليلا، وإنما كان غالب علمه في الكوفة، ومع هذا، فأهل الكوفة كانوا تعلّموا القرآن والسنّة قبل أن يتولّى عثمان فضلا عن علي. وفقهاء أهل المدينة تعلّموا الدّين في خلافة عمر، وتعليم معاذ بن جبل لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من عليّ، ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل أكثر ممّا رووا عن علي، وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقّهوا على معاذ بن جبل، ولمّا قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضياً، وهو وعبيدة السلماني تفقّها على غيره، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة».(1)
والجواب:
1. بطلان دعوى ضعف الحديث
نقول: دعوى أن حديث مدينة العلم أضعف وأوهى، ولهذا إنما يعدّ في الموضوعات، إفك فضيح، لما عرفت سابقاً من صحّة هذا الحديث واستفاضته وشهرته بل وتواتره، حتى تجلّى ذلك كالشمس المنجلي عنها الغمام على رغم آناف المنكرين الطّغام، فمن العجيب تعامي ابن تيميّة عن جميع تلك النصوص والتصريحات من كبار المحقّقين، ومشاهير نقدة الأخبار والحديث المعتمدين!!
2. سقوط التمسّك بقدح ابن الجوزي
وأمّا تمسّك ابن تيميّة بقدح ابن الجوزي في حديث مدينة العلم، فقد تقدّم الجواب عنه بحيث يذعن كلّ منصف بصحة ما ذكرناه إذا وقف عليه، ولو تظاهر عظماء العلماء لما تمكّنوا من إنكاره وجحده، وكيف لا؟ وقد نصّ المحققون من أهل السنّة على تجاسر ابن الجوزي وتهوّره في الحكم على الأحاديث مطلقاً، وأنّ جماعة منهم ردّوا كلامه في خصوص حديث مدينة العلم.
إذن، لا يجوز الاعتماد على كلام من اشتهر بين علماء أهل السنة وحفّاظهم بهذه الصفة، وعلى هذا الأساس أعرضوا عن كلماته في الأحاديث، أو توقّفوا عن قبولها، وقد بلغ سقوط تقوّلاته في خصوص هذا الحديث إلى حدّ انبرى جماعة من أعلام المحققين للردّ عليه وبيان فساده وبطلانه، إلاّ أنّ ابن تيميّة لا يستحي من التمسّك بكلام ابن الجوزي الباطل، و«إذا لم تستح فاصنع ما شئت».
ونحن كما فنّدنا كلام ابن تيميّة بالنسبة إلى حديث مدينة العلم بكلام نفسه، نثبت بطلان كلام ابن الجوزي الذي تمسّك به ابن تيميّة في ردّ هذا الحديث مزيداً للإفحام والإلزام، وذلك أنّ ابن الجوزي يقول في كتابه (الموضوعات): «فمتى رأيت حديثاً خارجاً عن دواوين الإسلام، كالموطأ، ومسند أحمد، والصحيحين، وسنن أبي داود، والترمذي، ونحوها، فانظر فيه، فإن كان له نظير في الصحاح والحسان فرتّب أمره، وإن ارتبت به فرأيته يباين الأصول فتأمّل رجال إسناده، واعتبر أحوالهم من كتابنا المسمّى بالضعفاء والمتروكين، فإنك تعرف وجه القدح فيه».(2)
ففي هذا الكلام اعتراف بكون (كتاب الترمذي) من دواوين الإسلام، وأنّ كلّ حديث مخرج فيه مقبول ومعتبر بلا نظر وتردّد فيه، بل فيه تصريح بأنّ ما كان خارجاً عنه وعن غيره من دواوين الإسلام، وكان له نظير في الصحاح والحسان المخرجة في هذه الدواوين يرتّب أمره بلا ارتياب… وهذا مقام جليل وشأن عظيم لكتاب الترمذي وأمثاله عندهم، وإذا كان كذلك، فلماذا يرمي ابن الجوزي حديث مدينة العلم المخرج في صحيح الترمذي مع الحكم بالحسن بالوضع؟ هذا من موارد تسرّع ابن الجوزي، ومن مصاديق التهوّر كما وصفه بذلك كبار المحقّقين المتأخرين عنه.
فاللاّزم من كلام ابن الجوزي نفسه أن يتوب عمّا قال في حديث مدينة العلم، وبذلك يزداد سقوط تمسّك ابن تيميّة بكلامه وضوحاً وظهوراً، ولله الحمد على ما أبان دحوض حجة هذا الناصب العنيد.
ثمّ إنّ قوله: «وذكره ابن الجوزي وبيّن أنّ سائر طرقه موضوعة» كذب آخر، فإنّ ابن الجوزي لم يذكر جميع طرق حديث مدينة العلم، وإنما ذكر بعض طرقه التي كان يمكنه الخدشة في أسانيدها بزعمه، مع أنّ ما قاله بالنسبة إلى تلك الطرق غير مقبول لدى المحققين، ومن هنا تعقّبوا كلماته فيها. وأمّا سائر طرقه الصحيحة المخرجة في كتب علماء الحديث المعتمدة، فلم يذكرها ابن الجوزي أصلا، فقول ابن تيميّة أنه «بيّن أنّ سائر طرقه موضوعة» إفك صريح، وكذب فضيح.
3. قوله: «والكذب يعرف من نفس متنه»
فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا كان مدينة العلم، ولم يكن لها إلاّ باب واحد، ولم يبلّغ عنه العلم إلاّ واحد، فسد أمر الإسلام».
من الخرافات الواضحة البطلان.
ومن يلاحظ ردود ابن تيميّة على الإمامية، يرى أنّ كلماته في الغالب تنتهي إلى هدم مباني دين الإسلام، وتشييد أفكار المنكرين لنبوة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلاّ أنّه ـ لفرط نفاقه وشدة شقاقه ـ يسعى في سبيل الردّ على الإمامية، غير مبال بما يترتّب على أباطيله.
إنّ هذا الذي ذكره ابن تيميّة في جحد حديث مدينة العلم يمهّد الطّريق للكفّار لأن يقولوا: إنّه إذا كان الله عالماً بشرائع الدين والأحكام التكليفية للعباد، ولم يبلّغها من جانبه في كلّ عصر إلاّ واحد، لفسد أمر الدين وبطلت الشرائع، لأن التبليغ عن الله في كلّ عصر يلزم أن يكون بواسطة عدد كثير من الأنبياء يبلغون إلى حدّ التّواتر.
وهذا النقض كاف للردّ على ما ذكره ابن تيميّة، لأنّ كلّما أجيب به عنه فهو جوابنا على كلامه الباطل.
وأيضاً: كما أنّ نبيّنا صلّى الله عليه وآله وسلّم بوحده كاف للإبلاغ عن الله عزّ وجلّ، وأنّه لثبوت حقّيّته غيرمحتاج إلى أن يشاركه في الإخبار عن الله غيره، كذلك يكفي في الإبلاغ عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجود سيّدنا أمير المؤمنين عليه السلام، ولا حاجة إلى أن يشاركه أحد في الإبلاغ كائناً من كان، للقطع بحقّيّة ما يبلّغه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. وإنّ حديث مدينة العلم ـ بالإضافة إلى غيره من الأدلة ـ شاهد صدق على ذلك. ومن هنا جعل أهل العلم واليقين حديث مدينة العلم من أدلّة عصمة أمير المؤمنين، وقد وقع التصريح بذلك من نصوص أعاظم المخالفين.
والحاصل: كما لا يضرّ توحّد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في إبلاغه، بعد ثبوت حقّيّته، كذلك لا يضرّ توحّد الإمام في تبليغه عن النبي، بعد ثبوت حقّيّته بالأدلة الكثيرة ومنها حديث مدينة العلم.
4. بطلان دعوى وجوب أن يكون المبلّغون أهل التواتر
وأمّا قول ابن تيمية: «ولهذا اتفق المسلمون على أنّه لا يجوز أن يكون المبلّغ عنه العلم واحدا، بل يجب أن يكون المبلّغون أهل التواتر، الذين يحصل العلم بخبرهم» فظاهر السقوط جدّاً، لمنافاته لتصريحات أئمة علم أصول الفقه وعلوم الحديث، كما لا يخفى على المتتبّع لها، فإنّ قاطبة أهل السنّة يوجبون العمل بخبر الواحد، ولم يخالف في هذا الحكم إلاّ شاذ لا يعبأ به، وإليك نص عبارة أبي الحسن البزدوي في هذا المطلب، ليتّضح بطلان دعوى ابن تيميّة بوجوه عديدة:
قال البزدوي: «باب خبر الواحد(3)، وهو الفصل الثالث من القسم الأول، وهو كلّ خبر يرويه الواحد أو الاثنان فصاعداً، لا عبرة للعدد فيه، بعد أن يكون دون المشهور والمتواتر، وهذا يوجب العمل ولا يوجب العلم يقيناً عندنا، وقال بعض الناس: لا يوجب العمل، لأنه لا يوجب العلم، ولا عمل إلاّ عن علم. قال الله تعالى: (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)وهذا لأن صاحب الشرع موصوف بكمال القدرة، فلا ضرورة له في التجاوز عن دليل يوجب علم اليقين، بخلاف المعاملات لأنها من ضروراتنا، وكذلك الرأي من ضروراتنا، فاستقام أن يثبت غير موجب علم اليقين. وقال بعض أهل الحديث: يوجب علم اليقين، لما ذكرنا أنه أوجب العمل، ولا عمل من غير علم، وقد ورد الآحاد في أحكام الآخرة مثل: عذاب القبر، ورؤية الله تعالى بالأبصار، ولا حظّ لذلك إلاّ العلم. قالوا: وهذا العلم يحصل كرامة من الله تعالى، فثبت على الخصوص للبعض دون البعض، كالوطء تعلّق من بعض دون بعض، ودليلنا في أنّ خبر الواحد يوجب العمل واضح، من الكتاب والسنة والإجماع والدليل المعقول.
أمّا الكتاب: قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ ميثاقَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ) وكلّ واحد إنما يخاطب بما في وسعه، ولو لم يكن خبره حجة لما أمر ببيان العلم. وقال جلّ ذكره: (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طائِفَةٌ) وهذا في كتاب الله أكثر من أن يحصى.
وأمّا السنّة: فقد صحّ عن النبي عليه السلام قبوله خبر الواحد، مثل خبر بريرة في الهدية، وخبر سلمان في الهدية والصدقة، وذلك لا يحصى عدده ومشهور عنه أنّه بعث الأفراد إلى الآفاق، مثل علي ومعاذ وعتاب بن أسيد ودحية وغيرهم رضي الله عنهم، وهذا أكثر من أن يحصى وأشهر من أن يخفى. كذلك أصحابه رضي الله عنهم عملوا بالآحاد وحاجّوا بها، وقد ذكر محمد رحمه الله في هذا غيرحديث في كتاب الاستحسان، واقتصرنا على هذه الجملة لوضوحها واستفاضتها.
وأجمعت الأمة على قبول أخبار الآحاد من الوكلاء والرسل والمضاربين وغيرهم.
وأما المعقول، فلأن الخبر يصير حجة بصفة الصدق، والخبر يحتمل الصدق والكذب، وبالعدالة بعد أهلية الأخبار يترجّح الصدق، وبالفسق الكذب، فوجب العمل برجحان الصّدق ليصير حجة للعمل، ويعتبر احتمال السهو والكذب لسقوط علم اليقين، وهذا لأن العمل صحيح من غير علم اليقين، ألا ترى أنّ العمل بالقياس صحيح بغالب الرأي، وعمل الحكام بالبيّنات صحيح بلا يقين، فكذلك هذا الخبر من العدل يفيد علما بغالب الرأي، وذلك كاف للعمل، وهذا ضرب علم فيه اضطراب، فكان دون علم الطمأنينة».(4)
ولقد أكّد هذا المعنى وأوضح دلالة الأدلة عليه من الكتاب والسنة والإجماع والعقل: عبد العزيز بن أحمد البخاري في (كشف الأسرار ـ شرح أصول البزدوي) ومن أراد المزيد فليرجع إليه.(5)
ولقد أكثر العلماء من الأدلة المختلفة في هذه المسألة، وبلغ القول بحجيّة خبر الواحد حدّاً من الخطورة، حتّى ألّف الكثيرون من علماء أهل السنّة في هذه المسألة مصنّفات مستقلاّت، نصّ على ذلك الحافظ النووي حيث قال: «وقد تظاهرت دلائل النصوص الشرعيّة والحجج العقليّة، على وجوب العمل بخبر الواحد، وقد قرّر العلماء في كتب الفقه والأصول ذلك بدلائله، وأوضحوه أوضح ]أبلغ[ إيضاح، وصنّف جماعات من أهل الحديث وغيرهم مصنّفات مستكثرات مستقلات في خبر الواحد ووجوب العمل به. والله أعلم».(6)
5. قوله: «خبر الواحد لا يفيد العلم الا بقرائن»
وتلك قد تكون منتفية أو خفيّة عن أكثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة» والكلام عليه في وجوه:
1) قال أحمد: خبر الواحد يفيد العلم مطلقاً
إنّ هذا الكلام ردّ على أحمد بن حنبل، القائل بإفادة خبر الواحد العلم حتى مع عدم القرينة، فقد ذكر القاضي عضد الدين الإيجى ما نصّه:
«قد اختلف في خبر الواحد العدل هل يفيد العلم أو لا؟ والمختار: إنه يفيد العلم لانضمام القرائن، وعنى به الزائدة على ما لا ينفك التعريف عنه عادة. وقال قوم: يحصل العلم به بغير قرينة أيضاً. ثم اختلفوا فقال أحمد في قول: يحصل العلم به بلا قرينة ويطرد، أي كلّما حصل خبر الواحد حصل العلم. وقال قوم: لا يطرد، أي قد يحصل العلم به، لكن ليس كلّما حصل حصل العلم به. وقال الأكثرون: لا يحصل العلم به، لا بقرينة ولا بغير قرينة».(7)
وقال جلال الدين المحلّي في (شرح جمع الجوامع): «]مسألة: خبر الواحد لا يفيد العلم إلاّ بقرينة[ كما في إخبار الرجل بموت ولده المشرف على الموت، مع قرينة البكاء، وإحضار الكفن والنعش. ]وقال الأكثر لا يفيد مطلقاً[ وقد ردّ عليه العالم الحنفي عبد العلي الملقّب ببحر العلوم حيث قال:
«وقيل: خبر الواحد العدل يفيد العلم مطلقاً، محفوفاً بالقرائن أو لا. فعن الإمام أحمد: هذا الحكم مطرد، فيكون كلّما أخبر العدل حصل العلم. وهذا بعيد عن مثله…»(8)
بل قد علمت من عبارة شرح العضد على مختصر ابن الحاجب أنّ القول بإفادة خبر الواحد للعلم مطلقاً هو قول جماعة.
2) لا حاجة إلى القرينة بعد النصّ
لكنّ الحق الحقيق بالقبول هو: أنّه لا بدّ للمنصوب من قبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأجل الإخبار والتبليغ عنه إلى الأمّة، من حجة ـ من نص أو دليل ـ تثبت حقيّته، كي تقبل منه الأمّة ما يبلّغه إليها، ومع وجود النّص أو الدليل لا حاجة إلى احتفاف خبره بقرينة، حتى يقال بأنها: «قد تكون منتفية أو خفية عن أكثر الناس، فلا يحصل لهم العلم بالقرآن والسنن المتواترة»، بل إنّ خبره يكون ـ بسبب النص عليه ـ مفيداً للعلم. وهذا المعنى ثابت فيما نحن فيه، لإفادة حديث مدينة العلم نصب علي عليه السلام لهذا المنصب، فخبره عليه السلام مفيد للعلم واليقين.
ومن هنا يظهر أنّ قياس خبره عليه الصلاة والسلام على خبر غيره من آحاد المخبرين، كقياس الماء على السّراب، وهو يخالف الحق والصواب.
3) لماذا التخصيص بالقرآن والسنة المتواترة؟
ثم إنّ التخصيص بالقرآن والسنة لا وجه له، لأنه بناء على ما توهّمه ابن تيميّة لا يثبت بخبر هذا المخبر علم مطلقاً، سواء كان قرآناً أو سنة متواترة، أو سنة غير متواترة، فقصر نفي العلم على القرآن والسنّة المتواترة لا وجه له، بل كان مقتضى القاعدة أن يقول: «بالقرآن والسنة غير المتواترة، بل السنّة المتواترة» كما لا يخفى على البصير بأساليب الكلام.
5. الإشارة إلى أدلّة عصمة علي عليه السلام
وأمّا قوله: «وإذا قالوا: ذلك الواحد معصوم يحصل العلم بخبره. قيل لهم: فلا بدّ من العلم بعصمته أولا» فالكلام عليه بوجوه:
الأول: كأنّ ابن تيميّة لا يعلم بأنّ مقتضى مذهب الإمامية هو القول بعصمة هذا المبلّغ المنصوب للتبليغ!!
الثاني: إنّ عصمة هذا المبلّغ الواحد ثابتة من حديث مدينة العلم كما عرفت ذلك سابقا، وقد اعترف به بعض المنصفين من أهل السنّة، فيكون حديث مدينة العلم دالاًّ على مبلّغية أمير المؤمنين عليه السلام وعصمته معاً. فبطل قوله: «فلا بدّ من العلم بعصمته أوّلا»
الثالث: إن عصمة أمير المؤمنين عليه السلام ثابتة من آيات من الكتاب، وأحاديث كثيرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتفصيل هذا المطلب موكول إلى محلّه.
الرابع: إن نصب هذا المبلّغ من قبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو ـ عند التأمل ـ عين النصب للإمامة والخلافة، وقد ثبت في محلّه ضرورة كون الإمام معصوماً، فيكون مجرّد النصب دليل العصمة.
الخامس: لقد دلّت الآية المباركة: (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى) على أن جملة أفعال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هي من جانب الله عزّ وجلّ، وعلى هذا يمكن أن يقال بكون الناصب للتبليغ هو الله عزّ وجلّ نفسه، ولمّا كان هذا النصب عين النصب للإمامة والخلافة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهي لا تثبت إلاّ للمعصوم، فالنصب الإلهي للتبليغ كاشف عن اتّصاف المنصوب له بالعصمة.
وبما ذكرنا يظهر الجواب عن قوله: «وعصمته لا تثبت بمجرّد خبره، قبل أن يعلم عصمته، فإنّه دور» إذ لا توقف لثبوت عصمته على خبره، لكن يمكن إثبات عصمته بخبره أيضاً، لأن خبره ليس مجرداً بل مقرون بالمعجزات الباهرة المتواترة الموجبة للعلم بالعصمة، فلا دور كذلك.
وأمّا قوله: «ولا تثبت بالإجماع، فإنه لا إجماع فيها عند الإمامية، وإنما يكون الإجماع حجة لأن فيهم الامام المعصوم، فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرّد دعواه» فجوابه: أنه إن أراد نفي الإجماع من أصحاب الضلال فهذا لا يضرّنا أبداً، إذ لا حجّية لإجماع هؤلاء أصلا، وإن أراد نفي إجماع الامامية، فهذا إنكار للبداهة، لأن الإمامية أجمعين أكتعين قائلون بعصمة هذا الواحد المبلّغ عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ثم إنّ المراد من هذا المبلّغ هو أمير المؤمنين عليه السلام، والنبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم داخل في الإجماع المتحقّق على عصمته ـ وعصمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يرتاب فيها مؤمن، وإن كان لأهل السنة فيها كلام ـ .
وأيضاً: فإنّ الحسنين عليهما السلام داخلان في المجمعين، وعصمتهما ثابتة بالدلائل القطعية الأخرى غير الإجماع.
وأيضاً: في المجمعين سائر أئمة أهل البيت، المعصومون بالأدلة من الكتاب والسنّة. فظهر بطلان دعواه بعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرّد دعواه، وظهر جواز الاستدلال بالإجماع لإثبات عصمة كلّ واحد من الأئمة الأطهار، لأنه ليس من قبيل إثبات عصمة ذاك الامام بقول نفسه ليلزم الدور، وأمّا عصمة كلّهم، فقد ثبتت بالأدلة القطعيّة الأخرى غير الإجماع، كما ثبت عصمة كلّ واحد واحد منهم بها كما أشرنا، وظهر أيضاً بطلان قوله بعد ذلك:
«فعلم أنّ عصمته لو كانت حقّاً، لا بدّ أن تعلم بطريق آخر غير خبره»
لما عرفت من إمكان ثبوت عصمته بخبره، لاقترانه بما يوجب العلم واليقين، فضلا عن ثبوتها بالأدلّة والطرق الأخرى.
وإذ ظهر بطلان كلماته، فقد ظهر بطلان ما قاله كنتيجة لتلك الكلمات، وهو قوله:
«فلو لم يكن لمدينة العلم باب إلاّ هو، لم يثبت لا عصمته ولا غير ذلك من أمور الدّين»
وتحصّل: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو الباب لمدينة العلم، وهو المبلّغ الوحيد عن النبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإذا ثبت ذلك ثبتت عصمته وغيرذلك من امور الدين، والحمد لله رب العالمين.
7. لازم قوله: هذا الحديث إنما افتراه زنديق!
وأمّا ما تفوّه به ابن تيميّة لشدة عناده وحقده: «فعلم أنّ هذا الحديث إنما افتراه زنديق جاهل، ظنّه مدحاً وهو يطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام، إذ لم يبلّغه إلاّ واحد» فمن الكفريّات الشنيعة، والله سبحانه وتعالى حسيبه والمنتقم منه يوم القيامة.
لقد علمت أنّ حديث مدينة العلم حديث رواه أكابر العلماء الثقات عند أهل السنّة، طبقة بعد طبقة، وجيلا بعد جيل، وفيهم من حكم بصحّته، وجعله جماعة من أجلى فضائل ومناقب النبي والوصي عليهما وآلهما الصلاة والسّلام… وقد وقفت على عبارات هؤلاء الكبار، وإفادات أولئك الأحبار، فيلزم من تقوّل ابن تيميّة هذا أنّ يكون أولئك الأئمة الكبار والمشايخ العظام:
عبد الله بن عثمان القارئ، وسفيان بن سعيد الثوري، وعبدالرزاق الصنعاني، ويحيى بن معين، وسويد بن سعيد الحدثاني شيخ مسلم، وأحمد بن حنبل، وعباد بن يعقوب الرواجني شيخ البخاري، وأبو عيسى الترمذي، والحسين بن فهم البغدادي، وأبو بكر البزّار، ومحمد بن جرير الطبري، وأبو بكر الباغندي، وأبو العباس الأصم، وأبو الحسن القنطري، وأبو بكر الجعابي، وأبو القاسم الطبراني، وأبو بكر القفّال، وأبو الشيخ الأصبهاني، وابن السقاء الواسطي، وأبو الليث السمرقندي، ومحمد بن المظفر البغدادي، وابن شاهين البغدادي، وأبو الحسن السكري الحربي، وابن بطة العكبري.
والحاكم النيسابوري، وابن مردويه الأصبهاني، وأبو نعيم الأصبهاني، وأبو الحسن العطّار، وأبو الحسن الماوردي، وأبو بكر البيهقي، وابن بشران، والخطيب البغدادي، وابن عبد البر، وأبو محمد الغندجاني، وابن المغازلي، وابو المظفر السمعاني، وأبو علي البيهقي، وشيرويه الديلمي، وعبد الكريم السمعاني، وأخطب خوارزم، وابن عساكر، وأبو الحجاج الأندلسي، ومجد الدين ابن الأثير، وعز الدين ابن الأثير، و…
أن يكون كلّ واحد من هؤلاء زنديقاً جاهلاً!! وإذا كان هؤلاء زنادقة جهالا، فهل تبقى لمذهب أهل السنة من باقية؟! بل عرفت أنّ هذا الحديث الشريف قد رواه التابعون العظام، عن صحابة النبي عليه وآله السلام، فاعترفوا به وجعلوه فضيلة لمولانا أمير المؤمنين، لا سيّما أصحاب الشورى، الذين تلقّوه بالتسليم، وقد صرّح بثبوته عبد الرحمن ابن عوف منهم تصريحاً تامّاً.
ولقد عرفت سابقا أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكتف بمجرّد قوله أنا مدينة العلم وعلي بابها، بل إنّه بذل غاية الاهتمام في إبلاغ ذلك إلى الامة، إذ قاله في يوم الحديبيّة، مادّاً صوته، وآخذاً بعضد أمير المؤمنين… إلى غير ذلك من الأمور الدالّة على اهتمامه بإبلاغ هذا المعنى إلى الامّة.
وبما ذكرنا يظهر أنّ ما قاله ابن تيميّة لا يقول به إلاّ «زنديق جاهل، وهو يطرق الزنادقة إلى القدح في دين الإسلام».
(1) منهاج السنة 4/138.
(2) الموضوعات 1/99.
(3) في هذه العبارة وأمثالها شيء كثير من الأدلة والوقائع التي لا يصحّحها الاماميّة، فليتنبّه.
(4) الاصول بشرح البخاري 2 / 678 ـ 694.
(5) كشف الأسرار 2 / 678 ـ 694.
(6) شرح صحيح مسلم 1/85 هامش إرشاد الساري.
(7) شرح المختصر 2 / 55 ـ 56.
(8) فواتح الرحموت ـ شرح مسلّم الثبوت 2/121 هامش المستصفى.