4. حمل الحديث على اختصاص الامام بالعلوم الباطنية و القضاء.
وهذه شبهة اخرى، يحاولون بها إسقاط الحديث عن الدلالة على الأعلمية والأفضلية فالإمامة والولاية العامّة:
ففي موضع من (قرة العينين) خصّ وليّ الله الدهلوي «العلم» في حديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» بعلم الباطن، زاعماً المساواة بين الامام وسائر الصحابة في علم الظاهر.
وحمل القاضى ثناء الله باني بتي حديث: «أنا دار الحكمة» و«حديث أنا مدينة العلم» كليهما على العلوم الباطنة … إذ قال: في ذيل الآية: (أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ) ما نصّه:
«وقيل: الشاهد هو علي بن أبي طالب، قال البغوي قال علي رضي الله عنه: ما من رجل من قريش إلاّ وقد نزلت فيه آية من القرآن. فقال له رجل: وأنت أيش نزل فيك؟ قال: (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ).
فإن قيل: فما وجه تسمية علي بالشاهد؟ قلت: لعلّ وجه ذلك أنه أوّل من أسلم من الناس، فهو أول من شهد بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم. والأوجه عندي أن يقال: إن علياً رضي الله عنه كان قطب كمالات الولاية، وسائر الأولياء حتى الصحابة رضوان الله عليهم أتباع له في مقام الولاية، وأفضلية الخلفاء الثلاثة عليه بوجه آخر. كذا حقّق المجدّد رضي الله عنه في مكتوب من أواخر مكتوباته.
فكان معنى الآية: (أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ) يعني حجة وإضحة وبرهان قاطع وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم، فإنه كان على حجة واضحة من ربّه وبرهان قاطع يفيد العلم بالقطع أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك معجزاته وأفضلها القرآن وعلومه المستندة إلى الوحي وَيَتْلُوهُ أي يتبعه شاهِدٌ من الله على صدقه، وهو علي ومن شاكله من الأولياء، فإن كرامات الأولياء معجزات النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلومهم المستندة إلى الإلهام والكشف ظلال لعلوم النبي صلّى الله عليه وسلّم المستندة إلى الوحي، فتلك الكرامات والعلوم شاهدة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم.
فقوله صلّى الله عليه وسلّم: أنا دار الحكمة وعلي بابها. رواه الترمذي بسند صحيح عن علي. وأنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب. رواه ابن عدي في الكامل والعقيلي في الضعفاء والطبراني والحاكم عن ابن عباس، وابن عدي والحاكم عن جابر، إشارة إلى علوم الأولياء دون علوم الفقهاء، فإن أخذ علوم الفقهاء لم ينحصر على علي رضي الله عنه، بل قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم».
والجواب
وهذا الكلام ـ وإن اشتمل على بعض المطالب الصادقة ـ مخدوش من وجوه:
إنّه وإن كان اعترافه بكون أمير المؤمنين عليه السلام «قطب كمالات الولاية، وسائر الأولياء حتى الصّحابة أتباع له في مقام الولاية» دليلا على أفضلية الإمام من الصّحابة من وجه، لكنّ حديث «أنا مدينة العلم» ونظائره يدلّ على أفضليّته وأعلميّته منهم من جميع الجهات والوجوه… وحمله حديث: «أنا دار الحكمة» على أنه «إشارة إلى علوم الأولياء دون علوم الفقهاء» باطل قطعاً، لأن «الحكمة» هو «العلم النافع» … ولا ريب في أنّ علوم الفقهاء من العلم النّافع.
أمّا أنّ «الحكمة» هو «العلم النافع»، فقد صرّح به عبد العزيز (الدهلوي) في جواب سؤال عن ثبوت «العصمة» و«الحكمة» و«الوجاهة» و«القطبيّة» للأئمة الاثني عشر عليهم السلام… ونصّ على أنه المراد من حديث «أنا دار الحكمة وعلي بابها» وحديث «أنا مدينة العلم وعلي بابها».
… ولمزيد الفائدة نذكر كلمات بعض العلماء حول معنى حديث: «أنا دار الحكمة» لكي يتضّح لك بطلان الحمل المذكور على لسان علماء أهل السنّة:
قال الكنجي الشافعي: «الباب الحادي والعشرون، فيما خصّ الله تعالى علياً رضي الله عنه بالحكمة. قال الله تعالى: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثيرًا).
أخبرنا عبد اللطيف بن محمد ببغداد، أخبرنا محمد بن عبد الباقي، أخبرنا أبو الفضل بن أحمد، حدّثنا أحمد بن عبد الله الحافظ، حدّثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الجرجاني، حدّثنا الحسن بن سفيان، حدّثنا عبد الحميد بن بحر، حدّثنا شريك عن سلمة بن كهيل عن الصنابحي عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنا دار الحكمة وعلي بابها.
قلت: هذا حديث حسن عال. وقد فسّرت الحكمة بالسنّة لقوله عزّ وجلّ: (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) الآية.
يدل على صحة هذا التأويل ما قد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أوتيت الكتاب ومثله معه. أراد بالكتاب القرآن. ومثله معه ما علّمه الله تعالى من الحكمة. وبيّن له من الأمر والنهي والحلال والحرام. فالحكمة هي السنّة، فلهذا قال: أنا دار الحكمة وعلي بابها».(1)
وقال المناوي: «أنا دار الحكمة. وفي رواية: أنا مدينة الحكمة، وعلي بابها.
أي علي بن أبي طالب هو الباب الذي يدخل منه إلى الحكمة. وناهيك بهذه المرتبة ما أسناها وهذه المنقبة ما أعلاها. ومن زعم أنّ المراد بقوله: وعلي بابها أنه مرتفع من العلوّ وهو الارتفاع، فقد تمحّل لغرضه الفاسدبما لا يجديه ولا يسمنه ولا يغنيه.
أخرج أبو نعيم عن ترجمان القرآن مرفوعاً: ما أنزل الله عزّ وجلّ يا يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إلاّ وعلي رأسها وأميرها.
وأخرج عن ابن مسعود قال: كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسئل عن علي كرّم الله وجهه فقال: قسّمت الحكمة عشرة أجزاء فاعطي علي تسعة أجزاء والناس جزءاً واحداً.
وعنه أيضاً: أنزل القرآن على سبعة أحرف ما منها حرف إلاّ له ظهر وبطن، وأما عليّ فعنده منه علم الظاهر والباطن.
وأخرج أيضاً: علي سيد المسلمين وإمام المتقين.
وأخرج أيضاً: أنا سيّد ولد آدم وعلي سيد العرب.
وأخرج أيضاً: علي راية الهدى.
وأخرج أيضاً: يا علي، إنّ الله أمرني أن أدنيك وأعلّمك لتعي، وأنزلت عليّ هذه الآية (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ). أخرج أيضاً عن ابن عباس: كنّا نتحدّث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إلى علي كرّم الله وجهه سبعين عهداً لم يعهد إلى غيره.
والأخبار في هذا الباب لا تكاد تحصى».(2)
وقال ابن حجر المكي: «ومما يدلّ على أنّ الله سبحانه اختص عليّاً من العلوم بما تقصر عنه العبارات: قوله صلّى الله عليه وسلّم: أقضاكم علي. وهو حديث صحيح لا نزاع فيه، وقوله: أنا دار الحكمة، ورواية: أنا مدينة العلم وعلي بابها».(3)
ثمّ إنّ ممّا يردّ الحمل على العلوم الباطنة:
حديث «أنا مدينة الفقه وعلي بابها»
فكما ورد الحديثان عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد ورد هذا الحديث الشريف عنه أيضاً، وأخرجه وأثبته جماعة من العلماء الأعيان… كما علمت سابقاً… وكما لا مجال للتأويل والحمل فيه، كذلك لامجال له في الحديثين، فظهر بطلان ما ذكره القاضي الهندي بهذا البيان أيضا، فليمت الجاحد المنكر لذلك غيظاً.
والحاصل: إنّ جميع هذه الأحاديث تدلّ على اختصاص العلوم مطلقاً وانحصارها بمولانا أمير المؤمنين عليه السلام… وقد ذكرنا الوجوه الدالّة على ذلك في جواب كلمات العاصمي والقاري وغيرهما، وذكرنا هناك كلمات الأعلام.
وأمّا ما ذكره القاري: «أللهم إلاّ أن يختص بباب القضاء، فإنه ورد في شأنه أنه أقضاكم، كما أنه جاء في حق أبيّ أنه أقرؤكم، وفي حقّ زيد ابن ثابت أنه أفرضكم، وفي حق معاذ بن جبل: أنه أعلمكم بالحلال والحرام، فدعوى باطلة كذلك، لوجوه:
الأوّل: إنّ دعوى كون «معاذ بن جبل» باباً من أبواب مدينة العلم من غير نصّ صريح في ذلك عن مدينة العلم صلّى الله عليه وآله وسلّم تجاسر قبيح وتخرّص فضيح.
الثاني: استشهاده بما نسب إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «وأعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل» يبطله كون هذا من الحديث الطويل الثابت وضعه واختلاقه على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
الثالث: إن كون معاذ بن جبل باباً من أبواب المدينة، إنّما يثبت في حال اختصاص علم الحلال والحرام به دون غيره من الأصحاب، أو إثبات كونه مبرّزاً من بينهم في هذا العلم، وكلا الأمرين غير ثابت، فإن كونه مخصوصاً بهذا العلم دونهم ـ بأن يكون هو العالم بهذا العلم وليس لغيره منهم نصيب منه ـ ظاهر البطلان جدّاً، ولا يلتزم به أحد من أهل السنّة أبداً. وأمّا الأمر الثاني فغير ثابت كذلك، لتنصيص العلماء المحققين على أنه «يصير كذلك بعد انقراض عظماء الصحابة وأكابرهم» قال المناوي (فيض القدير): «يعني إنه يصير كذلك بعد انقراض عظماء الصحابة وأكابرهم، وإلاّ فأبو بكر وعمر وعلي أعلم منه بالحلال والحرام…» وفي (التيسير): «يعني: سيصير أعلمهم بعد انقراض أكابر الصحابة» وقال العزيزي في (السراج المنير) «يعني سيصير أعلمهم بعد انقراض أكابر الصحابة».
الرابع: إنه مع قطع النظر عمّا تقدّم، فهناك في أمهات مصادر أهل السّنة شواهد على جهل معاذ بالحلال والحرام، ومعها تبطل الدعوى من أصلها … ومن ذلك ما رواه ابن سعد بترجمته حيث قال:
«أخبرنا عبيد الله بن موسى، أنا شيبان، عن الأعمش، عن شقيق قال:
استعمل النبي صلّى الله عليه وسلّم معاذا على اليمن، فتوفي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم واستخلف أبو بكر وهو عليها وكان عمر عامئذ على الحج، فجاء معاذ إلى مكة ومعه رقيق ووصفاء على حدة. فقال له عمر: يا أبا عبد الرحمن لمن هؤلاء الوصفاء؟ قال: هم لي. قال: من أين هم لك؟ قال: أهدوا لي. قال: أطعني وأرسل بهم إلى أبي بكر، فإن طيّبهم لك فهم لك. قال: ما كنت لأطيعك في هذا، شيء أهدي لي أرسل بهم إلى أبي بكر؟! قال: فبات ليلة ثم أصبح فقال:
يا ابن الخطاب ما أراني إلاّ مطيعك، إني رأيت اللّيلة في المنام كأنّي أجرّ وأقاد ـ أو كلمة تشبهها ـ إلى النار وأنت آخذ بحجزتي! فانطلق بي وبهم إلى أبي بكر. فقال: أنت أحق بهم. فقال أبو بكر: هم لك. فانطلق بهم إلى أهله فصفّوا خلفه يصلّون. فلما انصرف قال: لمن تصلّون؟
قالوا: لله تبارك وتعالى. قال: فانطلقوا فأنتم له».(4)
وفيه أيضاً: «أخبرنا محمد بن عمر، حدثني عيسى بن النعمان، عن معاذ بن رفاعة، عن جابر بن عبد الله قال: كان معاذ بن جبل ـ رحمه الله ـ من أحسن الناس وجهاً وأحسنه خلقاً وأسمحه كفّاً، فادّان ديناً كثيراً، فلزمه غرماؤه حتى تغيّب منهم أيّاماً في بيته، حتى استأدى غرماؤه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى معاذ يدعوه، فجاءه ومعه غرماؤه، فقالوا:
يا رسول الله خذ لنا حقّنا منه.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: رحم الله من تصدّق عليه.
قال: فتصدّق عليه ناس وأبى آخرون وقالوا: يا رسول الله، خذ لنا حقّنا منه.
فقال رسول الله: اصبر لهم يا معاذ.
قال: فخلعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ماله فدفعه إلى غرمائه فاقتسموه بينهم، فأصابهم خمسة أسباع حقوقهم.
قالوا: يا رسول الله بعه لنا.
قال لهم رسول الله: خلّوا عنه فليس لكم إليه سبيل.
فانصرف معاذ إلى بني سلمة فقال له قائل: يا أبا عبد الرحمن، لو سألت رسول الله، فقد أصبحت اليوم معدماً. قال: ما كنت لأسأله. قال: فمكث يوماً، ثم دعاه رسول الله فبعثه إلى اليمن وقال: لعلّ الله يجبرك ويؤدّي عنك دينك.
قال: فخرج معاذ إلى اليمن فلم يزل بها حتى توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوافى السنة التي حجّ فيها عمر بن الخطاب ـ استعمله أبو بكر على الحج ـ فالتقيا يوم التروية بمنى، فاعتنقا وعزّى كلّ واحد منهما صاحبه برسول الله، ثم أخلدا إلى الأرض يتحدّثان، فرأى عمر عند معاذ غلماناً فقال: ما هؤلاء يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أصبتهم في وجهي هذا. فقال عمر: من أيّ وجه؟ قال: أهدوا إليّ وأكرمت بهم. فقال عمر: أذكرهم لأبي بكر. فقال معاذ: ما ذكري هذا لأبي بكر؟ ونام معاذ، فرأى في النوم كأنّه على شفير النّار وعمر آخذ بحجزته من ورائه يمنعه أن يقع في النار، ففزع معاذ فقال: هذا ما أمرني به عمر. فقدم معاذ، فذكرهم لأبي بكر، فسوّغه أبو بكر ذلك وقضى بقيّة غرمائه وقال: إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لعلّ الله يجبرك».(5)
أقول: وهذه القصّة فيها دلالة واضحة على جهل معاذ بالحلال والحرام، وعدم تورّعه في جمع الأموال، وحينئذ لا يعقل أن يصدق في حقه كونه أعلم الأصحاب والأمّة بالحلال والحرام.
وعلى فرض التسليم، فإن هذا الاختصاص يفيد الأعلميّة المطلقة له عليه السلام، لأنّ كونه أقضى الأصحاب يستلزم إحاطته بأنواع العلوم الشرعيّة، مع المزيّة والأفضليّة من غيره في هذا الباب.
أمّا قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أقضاكم علي» فممّا لا ريب فيه ولا كلام، لكنّ ما ذكره في حقّ غيره موضوع وباطل سنداً ودلالة.
(1) كفاية الطّالب: 118.
(2) فيض القدير 3/46.
(3) المنح المكيّة: 303.
(4) الطبقات الكبرى 3 / 585.
(5) الطبقات الكبرى 3 / 587.