2. عدم دلالة الحديث على الأعلمية
وزعم غير واحد منهم عدم دلالة الحديث على الأعلميّة، بين قائل بأنّ قوله صلّى الله عليه وآله: «فمن أراد العلم فليأت الباب» لا يقتضي الأعلمية، فقد يكون غير الأعلم يقصد لما عنده من زيادة الإيضاح والبيان والتفرغّ للناس، بخلاف الأعلم.
وقائل: أنّ أعلم الصحابة هم الخلفاء الراشدون.
وقائل: بأن هذا الحديث يتضمّن ثبوت العلم لعلي رضي الله عنه، ولا شكّ أنه بحر علم زاخر لا يدرك قعره، إلاّ أنّه لا يتضمّن ثبوت الرجحان على غيره، بدليل ثبوت العلم لغيره على وجه المساواة.
والجواب:
أنّ حديث مدينة العلم يدلّ على أعلميّة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فهو أعلم الخلائق بعد النبي صلّى الله عليه وآله، حتّى الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين، فهذه دلالة حديث «أنا مدينة العلم وعلي بابها»، وقد شهدت بذلك كلمات كثير من أعلام أهل السنّة، وكان منها عبارات ابن حجر المكي نفسه في كتابه (المنح المكية)، فمن الغريب بعدئذ دعواه في (الصواعق) أعلميّة من جهل حتى معنى «الأب» و«الكلالة»، استناداً إلى دعاوى فارغة وأكاذيب واضحة كما سيأتي، فإذن، من الحق أن يقال: علي أعلم. فقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فمن أراد العلم فليأت الباب» يقتضي أعلمية الامام عليه السلام، وإلاّ لزم إرجاعه الناس إلى غير الأعلم مع وجود الأعلم، وهذا غير صحيح شرعاً وعقلا… ويخالف سيرة العقلاء والعلماء…
وأيضاً: هو ينافي مقتضى نصح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمّته، مع أنه أنصح الخلائق لها…
وأيضاً: هو ظلم بالنسبة إلى الأعلم.
وأيضاً: هو ترجيح للمرجوح، وذلك لا يكون من أدنى المتشرّعين فضلا عن شارع دين الإسلام عليه وآله الصلاة والسّلام.
وأيضاً: في قوله: «فمن أراد العلم فليأت الباب» دلالة ظاهرة على حصر المرجعيّة بالباب، وذلك يقتضي الأعلميّة، وإلاّ فإنّ الإرجاع إلى غير الأعلم مع وجود الأعلم قبيح كما تقدّم، فكيف بحصر المرجعيّة فيه؟
ثم إن قول ابن حجر في توجيه الإرجاع إلى غير الأعلم: «فقد يكون غير الأعلم يقصد لما عنده من زيادة الإيضاح والبيان والتفرغ للناس» يردّه: أنّ باب مدينة العلم، والحائز لجميع علوم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما هو حق الباب، والمقدّم على غيره من حيث الإيضاح والبيان، هو الأعلم من غيره بالضرورة لاغيره، ودعوى انفكاك «الأعلمية» عن هكذا شخص مكابرة واضحة…
فظهر أنّ ما ذكره ابن حجر في توجيه دعواه هو في الحقيقة دليل على بطلان مدّعاه، وهذا من جلائل آثار علوّ الحق والصواب.
على أنّه لا يخفى ما في كلامه من دعوى وجود الإيضاح والبيان عند أبي بكر، لكن للإمام عليه السلام زيادة عليه!!
وأمّا «التفرغ للناس»، فما الدليل على أنّ تفرّغ الامام عليه السلام للناس على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان أكثر من تفرّغ أبي بكر؟ ومن ادّعى فعليه البيان… بل إذا نظرت في تاريخ الرجلين وسيرتهما رأيت الإمام عليه السلام خائضاً في الحروب والمغازي والبعوث والسّرايا… بخلاف أبي بكر… فقد كان في معزل عن تحمّل هذه المكاره لخوره وجبنه، فأيهما كان المتفرّغ؟! إذن، ليس الإرجاع في العلوم بسبب التفرّغ للناس، بل الملاك هو الأعلميّة كما هو مقتضى السيرة العقلائيّة… هذا بالنسبة إلى زمن الحياة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وأمّا بعده صلّى الله عليه وآله وسلّم، حيث كان أبو بكر خليفة والامام عليه السلام جليس بيته، أليس من أهمّ وأجلّ وظائف الخليفة وأعماله تعليم الأمة ونشر العلوم الدينيّة بين الناس؟ فهل يعقل أن يسند النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر الخلافة عنه إلى شخص ثمّ يرجع الناس في أهمّ واجباته ووظائفه ـ مع كونه أعلم الناس ـ إلى غيره؟! بل الحق أنّ إرجاع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الأمة إلى الامام عليه السلام في أخذ العلم منه دليل واضح على إمامته، وبرهان لائح على خلافته، وإنّ ما كان منه عليه السلام من نشر علم الدين على عهد النبي وبعده على عهد حكومة الخلفاء من أقوى الأدلة على ذلك، وإن تغلّب القوم على الخلافة…
فالخليفة الحقيقي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من حفظ دينه ونشر علومه، وحلّ المشكلات والمعضلات.
ثم إنّ دعوى: «أنّ أعلم الصحابة هم الخلفاء الراشدون…» باطلة من وجوه أيضاً.
أمّا أولاً: فإن الثلاثة ليسوا من الخلفاء الراشدين عن رسول ربّ العالمين صلّى الله عليه وآله المعصومين.
وأمّا ثانياً: فلأن أحداً من أهل الإنصاف لا يرتضي القول بأعلميّة الثلاثة من: سلمان، وأبي ذر، والمقداد، وعمار، وابن عباس، وحذيفة، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وأبي الدرداء، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وأمثالهم من مشاهير الأصحاب… بل إنّ هؤلاء، بل ومعاذ بن جبل وأبو هريرة وزيد بن ثابت وأضرابهم… أعلم من الثلاثة قطعاً… بل الحق أن الثلاثة لم يحصلوا على شيء من العلوم، وتلك آثار جهلهم بالأمور الواضحة مشهودة ومشهورة.
وأمّا ثالثاً: فلأنهم لو كانوا علماء لأفادوا وأفاضوا، وظهرت الآثار واشتهرت الشواهد على بلوغهم المراتب العلميّة في الموارد المختلفة، وانتشرت بواسطتهم أحكام الحلال والحرام، من غير أن يمنعهم عن ذلك الخلافة، بل إنه من أجلّ وأهمّ أعمال خليفة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم. ألا ترى أنّ الإمام عليه السلام ـ على قصر مدّته ـ لم تشغله الحروب عن نشر العلوم الجليلة والمعارف السّامية، ولقد صدق ضرار حين قال في وصفه عليه السلام: «يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه «كما رواه ابن عبد البر القرطبي بترجمته عليه السلام في (الاستيعاب).
وأمّا رابعاً: سلّمنا أنّ تقيّدهم بأمر الخلافة منعهم عن الإفادة، فما الذي منعهم عنها في حياة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ وما الذي منع عمر وعثمان عنها أيام أبي بكر؟ وما الذي منع عثمان عنها أيام عمر؟ نعم إنهم يقولون بأن عمر وعثمان كانا يفتيان في خلافة أبي بكر، وأن عثمان كان يفتي في خلافة عمر… ، قال ابن سعد: «أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي، نا جارية بن أبي عمران، عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: إن أبا بكر الصديق كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي وأهل الفقه، دعا رجالاً من المهاجرين والأنصار، دعا عمر وعثمان وعلياً وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت، وكلّ هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكر، وإنما تصير فتوى الناس إلى هؤلاء، فمضى أبو بكر على ذلك، ثمّ ولّي عمر فكان يدعو هؤلاء النفر، وكانت الفتوى تصير وهو خليفة إلى عثمان وأبي وزيد».(1)
لكن ما السّبب في عدم ظهور آثار أعلميّة عمر وعثمان للمستفيدين والمستفتين بل لغير هم؟ بل لم تظهر آثار عالميّتهم، ولم نعثر على ما يدلّ على رسوخ قدم لهم في العلم…
وقد رووا أيضاً: إنّ عمر كان يشغل منصب القضاء على عهد أبي بكر، روى ابن عبد البرّ بن إبراهيم النخعي: «قال: أوّل من ولّي شيئاً من أمور المسلمين عمر بن الخطاب، ولاّه أبو بكر القضاء، وكان أوّل قاض في الإسلام، وقال: اقض بين الناس فإني في شغل»،(2) وروى الطبري: «واستقضى أبو بكر فيها عمر بن الخطاب، فكان على القضاء أيام خلافته».(3) وروى ابن الأثير: «وفيها استقضى أبو بكر عمر بن الخطاب، وكان يقضي بين الناس خلافته كلّها»،(4)
والقضاء من أحسن أسباب ظهور الآثار، فأين قضايا عمر الدالّة على سعة علمه فضلا عن أعلميّته؟ ولم يذكروا قضية واحدة ـ ولو مفتعلة ـ من قضاياه على عهد أبي بكر، تدلّ على عالميّته فضلا عن أعلميّته؟
بل إنهم يروون اشتغال الثلاثة بالقضاء أيّام خلافتهم… قال السيوطي: «وأخرج أبو القاسم البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الأمر سنّة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع عليه النفر كلّهم يذكر من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنّة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع أمرهم على رأي قضى به. وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنّة نظر هل كان لأبي بكر فيه قضاء، فإن وجد أبا بكر قد قضى فيه بقضاء قضى به وإلاّ دعا رؤوس المسلمين فإذا اجتمعوا على أمر قضى به».
وقد رواه المتقي في (كنز العمال) والمحبّ الطبري ـ قبل السيوطي ـ في (الرياض النضرة).
ولكن أين آثار أعلميّتهم؟ بل إنّ أكثر تلك الأخبار يشتمل على شواهد بيّنة على جهلهم وبلادتهم…
وأمّا خامساً: فرضنا أنّ تقيّدهم بأمر الخلافة منعهم عن الإفادة ونشر العلوم والآثار الدالّة على أعلمّيتهم، لكنّ التقيّد بأمر الخلافة لا يوجب ظهور آثار الجهل والضلال منهم، فإذا كان من المعقول اختفاء أعلميّة شخص أو علم عالم بوجه من الوجوه، فإن شيئاً لا يكون سبباً في ظهور جهله، بل لا يعقل ذلك مع فرض عالميّته فضلا عن كونه الأعلم، لأن العلم والجهل ضدّان، مع أنّ آثار الجهل المنقولة عنهم كثيرة جدّاً بحيث لا تقبل الستر والكتمان.
هذا، وحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها، يتضمن رجحان علم الإمام عليه السلام على علم غيره، لا على ثبوت العلم له عليه السلام كما زعم الأعور، لأنّ من بلغ في العلم مرتبة جعله النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم باباً إلى نفسه ـ وهو مدينة العلم ـ يكون أعلى مرتبة وأرجح علماً من غيره، وهذا ظاهر كلّ الظهور.
ويدلّ على إحاطة أمير المؤمنين عليه السلام وعلمه بجميع علوم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ورجحان علم النبيّ لا يشك فيه أحد، فمن كان عالماً بجميع علومه يكون علمه راجحاً على غيره بالضرورة.
ويدل على أعلمية الامام عليه السلام، كما اعترف به جماعة من أهل السنة الأعلام، أمثال أبي بكر محمد بن علي الخوافي، وشهاب الدين أحمد، وابن روزبهان الشيرازي، وعبد الرءوف المناوي، وابن حجر المكي، وغيرهم، وعليك بمراجعة كلمات هؤلاء وغيرهم لئلاّ تغترّ بأقاويل الأعور.
ثم دعوى ثبوت العلم لغيره على وجه المساواة، من الأباطيل الواضحة، فإنّ اختلاف مراتب الصحابة في العلم من الأمور الضروريّة عند كلّ ذي فهم فضلا عن العلماء الأعلام.
وكيف يتمكّن الأعور من إثبات العلم لكلّ الصحابة، على وجه المساواة أو التفاوت؟ وأي دلالة في حديث النجوم الموضوع على ذلك؟ ومن هنا ترى الكردي ينزّل الحديث على المجتهدين من الصحابة فيقول: «ثم إن لم يوجد منصوصاً عليه فيهم، رأيناه قد أحالنا على الأخذ بقول المجتهدين من الصحابة رضي الله عنهم، وصوّب الجميع حتى نصّ على أنّ الآخذ بقول أيّهم كان مهتدياً».
ويقول نصر الله الكابلي في (الصواقع) عند ذكر حديث النجوم: «والمراد من الأصحاب من لازمه عليه السلام، من المهاجرة والأنصار وغيرهم، غدوة وعشية، وصحبه في السفر والحضر، وتلقّى الوحي منه طريّاً، وأخذ عنه الشريعة والأحكام وآداب الإسلام، وعرف الناسخ والمنسوخ، كالخلفاء الراشدين وغيرهم، لا كلّ من رآه مرة أو أكثر».
(1) الطبقات الكبرى 2 / 350.
(2) الاستيعاب 3 / 1150.
(3) تاريخ الطبري حوادث سنة 11.
(4) الكامل في التاريخ، حوادث سنة 11.