الفصل الخامس: في دحض المناقشات في دلالات الحديث
وتكلّم بعضهم في دلالات الحديثٌ، ولا بأس بالتعرّض لما قالوا ودفعه:
1. كثرة أبواب المدينة
فقد ذكر بعضهم في مقام الجواب عن الاستدلال بحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها أن للمدينة أبواباً عديدة، فكما أن عليّاً باب من أبواب مدينة العلم، كذلك سائر الخلفاء بل الأصحاب كلّهم. وقد اختلفت عباراتهم في توجيه هذه الشّبهة:
فقيل: إنّ المدينة لا تخلو من أربعة أبواب، لأنّها مبنيّة على أربعة أركان وأسباب.
وقيل: إذا كانت مدينة مثل النبي صلّى الله عليه، فليس بعحب أن يكون لها أبواب كثيرة.
وقيل: ليس دار الجنة بأوسع من دار الحكمة، ولها ثمانية أبواب
وقيل: ولكلّ من الخيرات والمبرات والأنوار والأسرار التي أشرقت من شمس النبوة لها مظاهر ومجالي متعدّدة بل لا تعدّ ولا تحصى.
والجواب:
إنه ليس لمدينة العلم إلاّ باب واحد وهو علي عليه السلام، وما ذكر من أنها لا تخلو من أربعة أبواب دعوى بلا دليل، فإنّها قد تخلو من أربعة أبواب، ولا يشترط أن تكون مبنيّة على أربعة أركان وأسباب، ولو سلّم ذلك، فلا يشترط أن يكون في كلّ ركن باب، ومع التسليم، فكيف يجوز قياس مدينة العلم بالمدينة المادية الظاهريّة؟
ثم إنّ قول هذا القائل:
«وإذا كانت مدينة مثل النبي صلّى الله عليه، فليس بعجب أن يكون لها أبواب كثيرة، لأن مدينة مثلها مثل النّبي عليه السلام فليس بعجب أن يكون لها طول وسعة وعرض كأوسع مدينة في الدنيا، وليس بعجب أن يكون لها أبواب كثيرة».
يناقض كلامه المردود المتقدّم، لأنّه زعم هناك «إنّ المدينة لاتخلو من أربعة أبواب، لأنّها مبنيّة على أربعة أركان وأسباب…» فجعل الخلفاء الأربعة الأبواب المؤدّية إلى المدينة، وهنا يقول: «فليس بعجب أن يكون لها أبواب كثيرة…» ثم ذكر تسعة أشخاص جعلهم الأبواب الموصلة إليها، مستنداً إلى روايات موضوعة سيأتي بيان حالها.
وإنّ سعة الدار لا تستلزم أبداً أن يكون لها أكثر من باب، كما ادّعاه الطيبى وقال «اذ ليس دار الجنة بأوسع من دار الحكمة، ولها ثمانية أبواب»، وإنّما اللاّزم اتّساع باب الدار بما يتناسب وسعتها، ولا ريب في سعة باب دار الحكمة بما يتناسب وسعة دار الحكمة، ولقد بلغت سعة هذا الباب حدّاً تقصر عنه عقول الحكماء وعبارات البلغاء، وبه صرّح ابن حجر المكي حيث قال:
«مما يدلّ على أنّ الله سبحانه اختصّ علياً من العلوم بما تقصر عنه العبارات قوله صلّى الله عليه وسلّم: أقضاكم علي. وهو حديث صحيح لا نزاع فيه، وقوله: أنا دار الحكمة.
وفي رواية: مدينة العلم ـ وعلي بابها»(1)
ثم إنّ الأخبار الكثيرة الواردة في كتب أهل السنة تدلّ على أن تعدّد أبواب الجنة وتعيينها هو بحسب أفعال الخير الصادرة من أهل الجنة في دار الدنيا، وليس ذلك بحسب سعة الجنة حتى يقال بأن دار الجنة ليست بأوسع من دار الحكمة، ولها ثمانية أبواب، فيلزم أن يكون لدار الحكمة ثمانية أبواب كذلك أو أكثر…
هذا، وإنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد ورد عنه تمثيل نفسه الشريفة بـ «دار الجنّة»، كما ورد التمثيل بـ «دار الحكمة»، ولا ريب في أنّه كان يعلم بأن للجنة ثمانية أبواب، وأنّ نفسه الشريفة أوسع من دار الجنّة، وهو مع ذلك جعل أمير المؤمنين عليه السلام بمفرده باب دار الجنّة. فظهر بطلان كلام الطّيبي، ولعلّه لم يقف على الحديث المذكور.
ولو كان لدار الحكمة أبواب عديدة، فليس تلك الأبواب إلاّ الأئمة المعصومون عليهم السلام، لأنهم أبواب العلم، وأنّهم الموصوفون بـ «الباب المبتلى به من أتاهم نجا ومن أباهم هوى» وأنّهم الذين قال فيهم: «مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة من دخله غفر له» ولم يرد في حقّ غيرهم شيء من هذا القبيل، بل إن غيرهم لا يليق لهذا المقام، للمفضولية وعدم العصمة وغيرهما من الموانع.
ولو كان الخلفاء الثلاثة الأبواب الثلاثة الأخرى للمدينة، لذكر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ذلك كما ذكر عليّاً عليه السلام، بل كان عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يذكرهم قبله ـ على ما يدّعي العاصمي ـ وإلاّ لزم ترجيح المرجوح في الذكر وترك ذكر الراجح والأسبق، وهو غير جائز.
وحيث لم يذكر صلّى الله عليه وآله وسلّم باباً للمدينة سوى أمير المؤمنين عليه السلام، ظهر بطلان ما زعمه العاصمي في معنى الحديث.
وبما ذكرنا يظهر لنقّاد الكلام إن ما تفوّه به العاصمي ـ على أثر حبّ الشيوخ الثّلاثة ـ من الكلام الباطل العاطل في نفسه، يستلزم نسبة الظلم إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والعياذ بالله.
وأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في ذيل الحديث ـ بإتيان الباب، وهو لا يريد من «الباب» إلاّ «عليّاً عليه السلام»، بل لقد صرّح باسمه في بعض ألفاظ الحديث بقوله: «فمن أراد بابها فليأت علياً»
ومن الواضح جيّداً: إنّه لو كان الخلفاء الثلاثة قد بلغوا هذه المرتبة لذكرهم صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ذكره، إذ لو كان ثمّة مصلحة لعدم ذكرهم في صدر الحديث فلا أقل من الإرجاع إليهم والأمر بإتيانهم في ذيله! وإذ لم يشر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى هذا الأمر، واقتصر على ذكر علي عليه السلام، كيف يجوز أن يقال بأنّهم كانوا الأبواب الثلاثة؟ وهل هذا إلاّ مجرّد الإفك والافتراء؟
ولو فرض وجود مصلحة لترك الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ذكر كون الثلاثة الأبواب الأخرى لمدينة العلم في هذا الحديث، كان من اللاّزم أن يصرّح بهذا المعنى في حديث آخر، ولكن دون إثبات ذلك خرط القتاد.
ومن هنا أيضاً يظهر أنّ دعوى العاصمي ذلك ليس إلاّ من الهواجس النفسانية.
وبالتّالي، فإنّ هذا الوجه الذي ذكره العاصمي منقوض بما قاله هو في الجواب عمّا يذهب إليه الشيعة من أنه «إن كان الأمر على ما قالوا لما كان يوصل إلى العلم والأحكام والحدود وشرائع الإسلام إلاّ من جهته، ولكان فيه إبطال كلّ حديث لم يكن المرتضى طريقه، ولكان فيه إبطال كثير من شرائع الدين التي أجمعت عليها الامّة باليقين» فإنّ هذا الكلام بعينه يتوجّه إلى الوجه الذي اختاره، ولا سيّما وأنّ أهل السّنة يأخذون عن كلّ من دبّ ودرج من أصحابهم، وأنّ روايات غير الخلفاء في مصادر الحديث عندهم أكثر بكثير من روايات الخلفاء.
ومن الطّريف قول العاصمي بعدئذ: «وهذا وإن كان صحيحاً في المعنى والحكم، فإن تخصيص النبي عليه السلام إيّاه بلفظة باب مدينة العلم يدلّ على تخصيص كان له في العلم والخبرة وكمال في الحكمة ونفاذ في القضيّة، وكفى بها رتبة وفضيلة ومنقبة شريفة جليلة». فإنه بعد ما حاول تأويل الحديث وتوجيهه بما ذكره لم يجد بدّاً من الاعتراف بتخصيص أمير المؤمنين عليه السلام بهذه الفضيلة، لعدم وصف أولئك بلفظ «باب مدينة العلم» أو نحوه، لا في هذا الحديث ولا في غيره من الأحاديث، فاعترف بدلالة هذا التخصيص «على تخصيص كان له في العلم والخبرة وكمال في الحكمة ونفاذ في القضية، وكفى بها رتبة وفضيلة ومنقبة شريفه جليلة» وهذا يفيد أعلمية الامام عليه السلام.
فهذا الحديث يدلّ على إمامته من جهة دلالته على الأعلمية. كما يدلّ على الامامة من جهة دلالته على أنّه لا يوصل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ من جهته عليه الصلاة والسلام.
فكلام العاصمي هذا يتضمّن وجهاً آخر لدلالة حديث «أنا مدينة العلم وعلي بابها» على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام. والله يحقّ الحق بكلماته، ويبطل الباطل بقواهر حججه وبيّناته.
وأمّا قول الشيخ عبدالحق الدهلوي:
قيل: لا شك أنّ العلم قد جاء منه صلّى الله عليه وسلّم من قبل باقي الصحابة، وليس بمنحصر في علي المرتضى رضي الله عنه، فلا بدّ أن يكونوا أبواب العلم.
فمردود من وجوه:
أحدها: دعوى مجيء العلم من قبل باقي الصحابة باطلة بالضّرورة، فقد كان في الصحابة من لا حظّ له من العلم ولا كلمة، وعليك بمراجعة أسامي الصحابة في (الإستيعاب) و(أسد الغابة) و(الإصابة) وأمثالها ليتّضح لك واقع الأمر.
والثاني: إنه لا يكفي نقل شيء من العلم عن رجل لأن يكون باباً للعلم، لما قرّرنا بالتفصيل من أنّ باب مدينة العلم محيط بجميع علم المدينة، وتحقّق هذه المرتبة لجميع أفراد الأصحاب من المستحيلات.
والثالث: إنه ليس كلّ ما نقل عن كلّ صحابي بعلم، فبعض ما يرويه أهل السنّة عن الصحابة وأودعوه في أسفارهم وجوامعهم ليس بعلم، فإنّ كثيراً من الأشياء المنقولة عندهم تكذّبها الآيات القرآنية وأحاديث أهل بيت العصمة عليهم السلام بصراحة، ومن الواضح أنّ نقلة هكذا أشياء لا يعدّون علماء ولا يكونون أبواباً للعلوم.
بل كان فيهم أشخاص معروفون بالكذب والاختلاق كأبي هريرة وأمثاله، ومنافاة الكذب والافتراء على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لبابيّة مدينة العلم، وبعد المتّصف بهذه الصفة عن مدينة العلم في غاية الوضوح.
والرابع: إن الصحابة كلّهم ـ كما صرّح به العجيلي في (ذخيرة المال) ـ كانوا يسألون الامام أمير المؤمنين عليه السلام، ويرجعون إليه في القضايا والأحكام، ولا سيّما الثلاثة منهم، فإن رجوعهم إليه في نهاية الشّهرة والتواتر، فكيف يكونون أبواباً لمدينة العلم كما هو سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام؟! بل إنّ بعضهم اشتهر ـ على العكس من ذلك ـ بالجهالات الفاضحة حتى ضرب به المثل، فالقول بأنّ العلم قد جاء منه صلّى الله عليه وآله وسلّم من قبل باقي الصّحابة مكابرة واضحة.
(1) المنح المكية في شرح القصيدة الهمزية: 120.