بين الإمام و الحرّ بن يزيد في ذي حسم
قالوا: وسار الإمام عليه السلام حتّى نزل شراف، فلمّا كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا ماءً كثيراً ثمّ ساروا منها، فلمّا انتصف النهار كبّر رجلٌ من أصحابه… فقال له: مِمَّ كبّرتَ؟
قال: رأيتُ النخل.
فقال رجلان من بني أسد: ما بهذه الأرض نخلة قطّ!
فقال الحسين: فما هو؟!
فقالا: لا نراه إلاّ هوادي الخيل.
فقال: وأنا أيضاً أراه ذلك.
وقال لهما: أمَا لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟!
فقالا: بلى، هذا ذو حُسُم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك، فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد.
فمال إليه، فما كان بأسرع من أن طلعت الخيل وعدلوا إليهم، فسبقهم الحسين إلى الجبل، فنزل، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحُرّ بن يزيد التميميّ ثمّ اليربوعي، فوقفوا مقابل الحسين وأصحابه في حرّ الظهيرة، فقال الحسين لأصحابه وفتيانه: اسقوا القوم، ورشّفوا الخيل ترشيفاً!
ففعلوا، وكان مجيء الحرّ من القادسيّة، أرسله الحُصَين بن نُمَير التميميّ في هذه الألف يستقبل الحسين، فلم يزل مواقفاً الحسين حتّى حضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين مؤذّنه بالأذان، فأذّن، وخرج الحسين إليهم فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال:
أيّها الناس! إنّها معذرة إلى اللّه وإليكم، إنّي لم آتِكم حتّى أتتني كتبكم ورسلكم أن أقدِمْ إلينا فليس لنا إمام، لعلّ اللّه أن يجعلنا بك على الهدى; فقد جئتُكم، فإن تُعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم أقدِم مصركم، وإن لم تفعلوا أو كنتم لمقدمي كارهين انصرفتُ عنكم إلى المكان الذي أقبلتُ منه.
فسكتوا، وقالوا للمؤذّن: أقمْ! فأقام، وقال الحسين للحُرّ: أتريد أن تصلّي أنت بأصحابك؟
فقال: بل صلِّ أنت ونصلّي بصلاتك.
فصلّى بهم الحسين، ثمّ دخل واجتمع إليه أصحابه، وانصرف الحرّ إلى مكانه، ثمّ صلّى بهم الحسين العصر، ثمّ استقبلهم بوجهه فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال:
أمّا بعد، أيّها الناس! فإنّكم إن تتّقوا اللّه وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى للّه، ونحن أهل البيت أَوْلى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، فإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا وكان رأيكم غير ما أتتني به كتبكم ورسلكم انصرفتُ عنكم.
فقال الحرّ: إنّا واللّه ما ندري ما هذه الكتب والرسل التي تذكر.
فأخرج خرجَين مملوءين صحفاً فنثرها بين أيديهم.
فقال الحرّ: فإنّا لسنا من هؤلاء الّذين كتبوا إليك، وقد أُمرنا أنّا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتّى نُقْدمك الكوفة على عبيداللّه بن زياد.
فقال الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك!
ثمّ أمر أصحابه فركبوا لينصرفوا، فمنعهم الحرّ من ذلك، فقال له الحسين: ثكلتْك أُمّك! ما تريد؟!
قال له: أمَا واللّه لو غيرك من العرب يقولها ]لي[ ما تركت ذِكر أُمّه بالثكل كائناً مَنْ كان، ولكنّي واللّه ما لي إلى ذِكر أُمّك من سبيل إلاّ بأحسن ما يُقدر عليه.
فقال له الحسين: ما تريد؟!
قال الحرّ: أُريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد.
قال الحسين: إذن واللّه لا أتبعك.
قال الحُرّ: إذن واللّه لا أدَعُك.
فترادّا الكلام، فقال له الحرّ: إنّي لم أُؤمر بقتالك، وإنّما أُمرت أن لا أُفارقك حتّى أُقدمك الكوفة، ]فإذا أَبَيتَ[ فخذْ طريقاً لا تُدْخلك الكوفة ولا تَرُدّك إلى المدينة، حتّى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد أو إلى ابن زياد، فلعلّ اللّه أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أُبتلى بشيء من أمرك.
فتياسرَ عن طريق العُذَيْب والقادسيّة، والحرّ يسايره.
ثمّ إنّ الحسين خطبهم فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال:
أيّها الناس! إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: مَنْ رأى سلطاناً جائراً مستحلاًّ لحُرَم اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسُنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على اللّه أن يُدْخله مُدخَله.
ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام اللّه، وحرّموا حلاله، وأنا أحَقّ من غيري، وقد أتتني كتبكم ورسلكم ببيعتكم، وأنّكم لا تُسلموني ولا تخذلوني، فإن أقمتم على بيعتكم تُصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن عليّ بن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهلكم، فلكم فيَّ أُسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي وخلعتم بيعتي، فلعمري ما هي لكم بنكير، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم بن عقيل، والمغرور من اغترّ بكم، فحظّكم أخطأتم، ونصيبَكم ضيّعتم، (فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّمَا يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ)، وسيغني اللّه عنكم; والسلام.
فقال له الحُرّ: إنّي أُذكّرك اللّه في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلتَ لتُقْتَلنّ.
فقال له الحسين: أبالموت تخوّفني؟! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟! وما أدري ما أقول لك؟! ولكنّي أقول كما قال أخو الأوْسيّ لابن عمّه وهو يريد نُصرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أين تذهب؟! فإنّك مقتول! فقال:
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى *** إذا ما نوى خيراً وجاهَدَ مُسلما
وواسى رجالا صالحينَ بنَفسِهِ *** وخالَفَ مثْبوراً وفارَقَ مُجرِما
فإنْ عشتُ لم أندَمْ وإنْ متُّ لم أُلمْ *** كفى بك ذُلاًّ أن تعيشَ وتُرْغَما
فلمّا سمع ذلك الحُرّ تنحّى عنه، فكان يسير ناحيةً عنه(1).
(1) الكامل في التاريخ 3 / 407 ـ 409، تاريخ الطبري 3 / 305 ـ 307، الإرشاد 2 / 76 ـ 81.