في دلالة الآية على الإمامة
وقد استدلّ أصحابنا بهذه الآية المباركة ـ بالنظر إلى الأحاديث المعتبرة والمتّفق عليها، الصريحة في نزولها في أمير المؤمنين عليه السلام لمّا تصدّق بخاتمه وهو راكع ـ منذ قديم الأيّام، نذكر هنا كلمات بعضهم:
* قال الشريف المرتضى:
«ويدلّ على ذلك: قوله تعالى: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ…).
وقد ثبت أنّ لفظة (وَلِيُّكُمُ) في الآية تفيد: مَن كان أوْلى بتدبير أُموركم، ويجب طاعته عليكم.
وثبت أيضاً أنّ المشار إليه في قوله تعالى: (وَالَّذينَ آمَنُوا): أمير المؤمنين; وفي ثبوت ذلك وضوح النصّ عليه بالإمامة»(1).
* قال شيخ الطائفة:
«وأمّا النصّ على إمامته من القرآن، فأقوى ما يدلّ عليها: قوله تعالى: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ).
ووجه الدلالة من الآية هو: إنّه ثبت أنّ المراد بلفظة (وَلِيُّكُمُ)المذكورة في الآية: من كان متحقّقاً بتدبيركم والقيام بأُموركم، وتجب طاعته عليكم، وثبت أنّ المعنيّ بـ (الَّذينَ آمَنُوا): أمير المؤمنين عليه السلام.
وفي ثبوت هذين الوصفين دلالة على كونه عليه السلام إماماً لنا»(2).
* وقال الشيخ نصير الدين الطوسي:
«ولقوله تعالى: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ…); وإنّما اجتمعت الأوصاف في عليّ عليه السلام».
* فقال العلاّمة الحلّي بشرح هذا الكلام ما نصّه:
«أقول: هذا دليل آخر على إمامة عليّ عليه السلام، وهو قوله: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ).
والاستدلال بهذه الآية يتوقّف على مقدّمات:
(إحداها:) إنّ لفظة (إِنَّما) للحصر; ويدلّ عليه: المنقول والمعقول.
أمّا المنقول: فلإجماع أهل العربية عليه.
وأمّا المعقول: فلأنّ لفظة (إن) للإثبات، و(ما) للنفي قبل التركيب، فيكون كذلك بعد التركيب; عملاً بالاستصحاب، وللإجماع على هذه الدلالة. ولا يصحّ تواردهما على معنىً واحد، ولا صرف الإثبات إلى غير المذكور والنفي إلى المذكور; للإجماع، فبقي العكس، وهو: صرف الإثبات إلى المذكور والنفي إلى غيره، وهو معنى: الحصر.
(الثانية:) إنّ (الوليّ) يفيد: (الأوْلى بالتصرّف); والدليل عليه: نقل أهل اللغة واستعمالهم، كقولهم: السلطان وليّ من لا وليّ له، وكقولهم: وليّ الدم ووليّ الميّت، وكقوله عليه السلام: أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل.
(الثالثة:) إنّ المراد بذلك: بعض المؤمنين; لأنّه تعالى وصفهم بوصف مختص ببعضهم، ولأنّه لولا ذلك لزم اتّحاد الوليّ والمولّى عليه.
وإذا تمهّدت هذه المقدّمات، فنقول:
المراد بهذه الآيات هو: عليّ; للإجماع الحاصل على أنّ من خصص بها بعض المؤمنين قال: إنّه عليّ عليه السلام، فصرفها إلى غيره خرق للإجماع.
ولأنّه عليه السلام إمّا كلّ المراد، أو بعضه; للإجماع، وقد بيّنّا عدم العموميّة; فيكون هو كلّ المراد.
ولأنّ المفسّرين اتّفقوا على أنّ المراد بهذه الآية: عليّ عليه السلام; لأنّه لمّا تصدّق بخاتمه حال ركوعه نزلت هذه الآية فيه، ولا خلاف في ذلك»(3).
* وقال العلاّمة الحلّي أيضاً:
«أمّا القرآن فآيات:
الأُولى: (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ…).
أجمعوا على نزولها في عليّ عليه السلام، وهو مذكور في الجمع بين الصحاح الستّة، لمّا تصدّق بخاتمه على المسكين في الصلاة بمحضر من الصحابة، والولي هو المتصرّف.
وقد أثبت اللّه الولاية لذاته وشرّك معه الرسول وأمير المؤمنين، وولاية اللّه تعالى عامّة، فكذا النبيّ والولي»(4).
أقول:
إنّ الاستدلال يتّضح ببيان مفردات الآية المباركة، فنقول:
(إنّما): دالّة على الحصر، كقوله تعالى: (إنَّمَا اللّه إِلهٌ وَاحِدٌ)(5).
و(الولاية) هنا بمعنى: «الأوْلوية»، كما في قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «ألست أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى. قال: فمن كنت مولاه فعليّ مولاه». وكما في قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «عليّ منّي وأنا من عليّ، وهو وليّكم بعدي»(6).
(الَّذينَ آمَنُوا): المراد: خصوص أمير المؤمنين عليه السلام; للأحاديث الصحيحة المتّفق عليها.
(وَهُمْ راكِعُونَ): هذه «الواو» حاليّة، و(راكِعُونَ) بمعنى: «الركوع» الذي هو من أفعال الصلاة; وذلك للأحاديث في أنّ أمير المؤمنين أعطى السائل خاتمه في حال الركوع.
وعلى الجملة، فإنّ العمدة في الاستدلال بالآية المباركة: نزولها لدى الفريقين في قضيّة إعطاء أمير المؤمنين عليه السلام خاتمه للسائل في حال الركوع من صلاته، وأنّ «الولاية» في الآية هي: «الأوْلوية»..
أمّا كون «الولاية» بالمعنى المذكور، فلأنّ سائر معاني الكلمة لا يجتمع شيء منها مع الحصر المدلول للفظة «إنّما»، وقد اتّضح إثبات مجيء «الولاية» بمعنى: «الأوْلوية بالتصرّف» ـ كتاباً وسُنّة ولغةً وعرفاً ـ في كتابنا، في بيان دلالة الحديثين المذكورين على الإمامة(7).
وأمّا كون المراد من الآية هو: عليّ عليه السلام; فللأحاديث، وقد اعترف غير واحد من الأعلام باتّفاق المفسّرين على ذلك، كما اعترف الآلوسي بأنّه: رأي غالب الأخباريّين(8).
(1) الذخيرة في علم الكلام: 438.
(2) تلخيص الشافي 2 / 10.
(3) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 394.
(4) نهج الحقّ وكشف الصدق: 172.
(5) سورة النساء (4): 171.
(6) راجع: كتابنا الكبير الجزء 7 «حديث الغدير»، والجزء 9 «حديث الولاية».
(7) راجع: كتابنا 4 / 11، و9 / 268 وما بعدهما من صفحات.
(8) روح المعاني 6 / 167.