عليّ بن أبي طالب في مكّة
]1[ صفات أمير المؤمنين موروثة؟!
قال في الصفحة 17:
«يحسن بنا أن نستعرض ـ في أمانة تاريخيّة وحياد علمي ـ وضع الأُسرة والسلالة اللتين وُلد ونشأ فيهما أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب…».
كأنّه يريد أنّ الخصائص التي امتاز بها أمير المؤمنين عليه السّلام والصفات التي فضّلته على غيره… إنّما هي قضايا موروثة من آبائه، فللدم الموروث في أعضاء الأُسرة كابراً عن كابر تأثير على أخلافها وذرّيّاتها… .
فالفضل في كلّ ما كان الإمام عليه السلام يتمتّع به من الصفات العالية في أعلى درجاتها، كالشجاعة والبلاغة… يعود إلى القبيلة التي كان ينتمي إليها، والأُسرة التي نشأ فيها… .
وكأنّ الرجل نسي ـ أو تناسى كما تقتضيهما الأَمانة التاريخية والحياد العلمي!! ـ أنّه لم يوجد في بني هاشم ولا قريش… من كان يداني سيّدنا المرتضى عليه السّلام في شيء من الصفات التي كانت متوفّرة فيه، وحتّى إخوته الّذين نشأوا معه وعاشوا سويّةً… لم يبلغوا معشار ما بلغه… .
إذن، ليست القضيّة قضيّة عشيرة وقبيلة، أو أُسرة وبيئة…
ثمَّ ما يقول المؤلّف في النّبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم؟! هل كانت صفاته التي كان عليها موروثةً من آبائه كما يقول «علم التشريح وعلم النفس وعلم الاَْخلاق وعلم الاجتماع» ـ على حدّ تعبيره ـ؟!
إنّ حال أمير المؤمنين عليه السلام في فضائله التي ميّزته عن أبناء أُسرته حال النّبي صلّى اللّه عليه واله وسلّم، فإنّ ذلك فضل من اللّه يؤتيه حيث يجعل رسالته… .
]2[ مات أبو طالب ولم يسلم؟!
قال في الصفحة 22:
«مات أبو طالب في النصف من شوّال في السنة العاشرة من النّبوة، وهو ابن بضع وثمانين سنة، وهو العام الذي ماتت فيه خديجة زوج النّبي صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم.
ولم يسلم أبو طالب، وهو المشهور الثابت من كتب الحديث والسيرة، المعروف عند المسلمين قديماً وحديثاً، وقد تأسّف على ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم وحزن له، وذلك يدلُّ على أنّ هذا الدين دين مبدئي عقائدي، لا يحابي فرداً ولا سلالةً على أساس نسب وسلالة، أو رحم وقرابة، ولا على حبٍّ ودفاع، إذا لم تقرن به عقيدة صحيحة وإيمان بما جاء به الرسول».
أقوّل:
أمّا أنّ ما زعمه هو المعروف بين المسلمين قديماً وحديثاً، فكذب صريح، إذ الشيعة مجمعون على إسلام سيّدنا أبي طالب عليه السّلام وإيمانه، وجماعة كبيرة من علماء الفرق الأُخرى، ينصّون على ذلك ويعترفون به، وقد اُلّفت في إثباته الكتب قديماً وحديثاً.
وأمّا أنّه الثابت من كتب الحديث والسيرة، فكذب آخر، لأَنّ كتب الشيعة متّفقة على إسلامه، وكتب غيرهم مشحونة بالاْخبار الثابتة والآثار الواضحة الدلالة على إيمانه.
وأمّا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم «قد تأسّف على ذلك» أي على عدم إسلام أبي طالب عليه السلام، فكذب ثالث.
ولنذكر بعض الروايات الصريحة في موته مسلماً ومؤمناً، عن المصادر «الموثوق بها المتلقّاة بالقبول» كما قال، وذلك إلزاماً للمكابر، وإلاّ فلسنا بحاجة إلى ما يروونه في مثل هذا الموضوع الثابت عندنا بالضرورة:
فمن ذلك: قول أبي طالب لعليّ عليه السلام لَمّا رآه يصلّي مع النبي:
«أما إنّه لم يدعُك إلاّ إلى خير، فالزمه»(1).
ورووا قوله لجعفر ـ لَمّا رأى النّبي وعليّاً عن يمينه يصلّيان ـ : «صِلْ جناحَ ابن عمّك وصلّ عن يساره»(2).
ومن ذلك: قوله مخاطباً لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم:
«واللّه لنْ يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أُوسّد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وابشر بذاك وقرّ منك عيونا
ودعوتني وعلمت أنّك ناصحي *** ولقد دعوتَ وكنتَ ثمَّ أمينا
ولقد علمت بأنّ دين محمّد *** من خير أديان البريّة دينا»(3)
ومن ذلك: قوله في شعر له في أمر الصحيفة المعروف المشهور:
«ألم تعلموا أنا وجدنا محمّداً *** رسولا كموسى خُطَّ في أول الكتب»(4) *** ومن ذلك: ما ورد في كتب القوم بأسانيد يروون بها عن سيّدنا أبي طالب عليه السلام أنّه قال: «حدّثني محمّد ابن أخي، وكان واللّه صدوقاً، قال: قلت له: بمَ بُعثت يا محمّد؟ قال: بصلة الاَْرحام وإقام الصّلاة وإيتاء الزكاة»(5).
ومن ذلك: وصيّته، فإنّه دعا بني عبدالمطّلب فقال: «لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمّد وما اتّبعتم أمره، فاتّبعوه وأعينوه ترشدوا»(6).
ومن ذلك: إقراره بالشهادة قبيل وفاته، كما ذكر علماء القوم في كتبهم، ونكتفي هنا بكلام أبي الفداء حيث قال:
«ذكر وفاة أبي طالب: توفّي في شوّال سنة عشر من النبوّة، ولَمّا اشتدّ مرضه قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم: يا عمّ قلها، أستحلّ لك بها الشفاعة يوم القيامة ـ يعني الشهادة ـ .
فقال له أبو طالب: يا ابن أخي، لولا مخافة السبّة وأنْ تظنّ قريش إنّما قلتها جزعاً من الموت، لقلتها.
فلما تقارب من أبي طالب الموت، جعل يحرّك شفتيه، فأصغى إليه العبّاس بأُذنه وقال: واللّه ـ يا ابن أخي ـ لقد قال الكلمة التي أمرته أنْ يقولها.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم: الحمدللّه الذي هداك يا عمّ.
هكذا روى ابن عبّاس. والمشهور(7) أنّه مات كافراً.
ومن شعر أبي طالب ممّا يدلّ على أنّه كان مصدّقاً لرسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم قوله:
ودعوتني وعلمت أنّك صادقٌ *** ولقد صدقت وكنتَ ثَمَّ أمينا
ولقد علمتُ بأنّ دينَ محمّد *** من خير أديان البريّة دينا
واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أُوسّد في الترب دفينا
وكان ]عمر[ أبي طالب بضعاً وثمانين سنة»(8).
وقال السيّد أحمد زيني دحلان بعد نقل حديث العبّاس: «نقل الشيخ السحيمي في شرحه على شرح جوهرة التوحيد، عن الإِمام الشعراني والسبكي وجماعة: أنّ ذلك الحديث ثبت عند بعض أهل الكشف، وصحَّ عندهم إسلامه».
هذا، ولا يخفى أنّه قد جاء حديث العبّاس في سيرة ابن هشام مع إضافة في آخره، وهو أنّ النبيّ ـ لَمّا أخبره العبّاس بقول أبي طالب الكلمة التي أمرها بها ـ قال: «لم أسمع».
ولكنّ الصحيح ما جاء في تاريخ أبي الفداء فإنّه عن ابن عبّاس، ولابُدّ وأنّه يرويه عن أبيه الذي هو صاحب القصّة.
لكنّ القوم زادوا تلك الكلمة وجعلوا يفسّرونها بما لا يخلو من اضطراب، ففي «الروض الاُْنف» في شرح هذا الموضع: شهادة العبّاس لأَبي طالب لو أدّاها بعد ما أسلم لكانت مقبولة ولم يُردّ بقوله: لم أسمع، لأنّ الشاهد العدل إذا قال: سمعت، وقال من هو أعدل منه: لم أسمع، أُخذ بقول من أثبت السماع، لأَنّ عدم السماع يحتمل أسباباً منعت الشاهد من السمع. ولكنّ العبّاس شهد بذلك قبل أنْ يسلم».
قلت:
أولا: قد عرفت بطلانَ هذه الزيادة.
وثانياً: إنّ العبّاس في هذا الموضع مخبِرٌ وليس بشاهد، والمُخبر إنْ كان موثوقاً في إخباره يُقبل منه، ولا يشترط فيه العدالة كما لا يشترط التعدُّد، بل لا يشترط فيه الإسلام، ويشهد بذلك قبول النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم خبر سلمان رضوان اللّه عليه في الهديّة والصدقة قبل إسلامه، وترتيب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم الأثر على إخباره بأنّ الطبق المقدَّم له من الرطب صدقة فلم يأكل منه، ثمّ إخباره مرّة أُخرى عن طبق آخر قدّمه إليه بأنّه هديّة، فجعل صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يأكل ويقول لأصحابه: كلوا… فحينذاك أسلم سلمان.
وذلك في قضيّة معروفة رواها أحمد في المسند(9)، وغيره، واستشهد بها كبار العلماء في كتبهم في علم اُصول الفقه في مبحث خبر الواحد، راجع في ذلك مثلاً: كشف الأسرار(10).
فيظهر أنّ السهيلي ـ على جلالته ـ نسي أو تناسى قصّة سلمان التي كانت من الثبوت بحيث اعتمد عليها الاُْصوليّون في بحوثهم.
ومن ذلك: ما كان من النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من قول وفعل بعد وفاته، وإيراد بعض ذلك ـ ولو باختصار ـ كاف في بيان المطلب وكذب المؤلّف:
1 ـ بكاؤه الشديد على فقده;
2 ـ حضوره جنازته;
3 ـ معارضته لجنازته;
4 ـ دعاؤه له بقوله: «جزاك اللّه عنّي خيراً»;
5 ـ أمره عليّاً بأنْ يغسّله ويكفّنه ويواريه(11).
وأخرج ابن سعد في الطبقات بسند صحيح عن إسحاق بن عبداللّه:
قال العبّاس: «يا رسول اللّه، أترجو لأَبي طالب؟
قال: كلّ الخير أرجو من ربّي»(12).
]3[ أين كان مولد عليّ؟
قال في الصفحة 28:
«قال الحاكم في ترجمة حكيم بن حزام: قد تواترت الاَْخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين عليّاً في جوف الكعبة، وولد حكيم بن حزام في الكعبة. وقال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: اختلف في مولد عليّ عليه السلام أين كان؟ فكثير من الشيعة يزعمون أنّه ولد في الكعبة، والمحدّثون لا يعترفون بذلك، ويزعمون أنّ المولود في الكعبة: حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبدالعزّى بن قصيّ».
أقول:
هنا نقاط:
أوّلا: كلام الحاكم بترجمة حكيم بن حزام هو: «تواترت الاَْخبار أنّ فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علياً في جوف الكعبة» هذا كلامه. وليس بعده «وولد حكيم بن حزام في الكعبة» كما لا يخفى على من راجع المستدرك(13).
ولعلّه من هنا لم يذكر المؤلّفُ المصدرَ الذي نقل عنه هذا الكلام!
نعم، نقل الحاكم بترجمة حكيم بسند له عن «عليّ بن غنّام العامري» أنّه وُلد حكيم بن حزام في جوف الكعبة.
لكنّ الذي يعتقده الحاكم هو الذي نصّ على تواتر الاَْخبار به.
أمّا القائل بولادة حكيم فيها وهو «عليّ بن غنّام العامري» فلم أجد له في الكتب الرجاليّة ذكراً، فقيل: أنّ «غنّام» مصحّف «عثام»، فهو أبو الحسن الكلابي المتوفّى سنة 228، فإنْ كان الاَْمر كما ذكر، خرج الرجل عن الجهالة، إلاّ أنّه لا قيمة لخبره، لأَنّ المفروض كونه من رجال القرن الثالث ولا يدرى عمّن يروي ذلك؟!
وثانياً: نقله عن ابن أبي الحديد وكتابه «شرح نهج البلاغة» يُفيد كون المؤلّف والمؤلَّف موثوقاً به ومقبولا عنده، لكونه قد زعم الالتزام بالكتب الموثوق بها والمقبولة فقط.
وثالثاً: الغرض من ذكره كلام ابن أبي الحديد بعد كلام الحاكم وسكوته عليه، هو التشكيك في صحّة ما نصّ عليه الحاكم، ولكنْ كان من المناسب أن يُعارض كلام الحاكم بكلام إمام من أئمّة الحديث، لا بكلام أديب مؤرّخ خلط في كتابه بين الغثّ والسمين.
ورابعاً: كلام ابن أبي الحديد مردود، فإنّ القول بولادة أمير المؤمنين عليه السلام في الكعبة هو قول عامّة الشيعة لا كثير منهم.
بل، لقد نصّ غير واحد من أعلامهم المتقدّمين والمتأخرين أنّ هذه الفضيلة خصيصة من خصائص أمير المؤمنين عليه السلام، فراجع مثلاً:
* الإرشاد إلى معرفة حجج اللّه على العباد 1 / للشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان البغدادي الملقّب بالمفيد، المتوفى سنة 413.
* خصائص الأئمة ص 4، للشريف الرضي الموسوي البغدادي، المتوفى سنة 406.
* شرح قصيدة السيد الحميري ص 51، للشريف المرتضى الموسوي البغدادي سنة 436.
* إعلام الورى بأعلام الهدى: 153، للشيخ أبي علي الطبرسي صاحب مجمع البيان في تفسير القرآن، المتوفى سنة 548.
* الخرائج والجرائح 2 / 888، للشيخ قطب الدين الراوندي المتوفى سنة 573.
* مناقب آل أبي طالب 2 / 175، للشيخ ابن شهراشوب السروي، المتوفى سنة 588.
* عمدة عيون صحاح الأخبار: 24، للشيخ الحافظ ابن البطريق الحلّي، المتوفّى سنة 600.
* كشف الغمة في معرفة الأئمة 1 / 59، للشيخ الوزير بهاء الدين الإربلي المتوفى سنة 693.
* نهج الحق وكشف الصّدق: 233، للعلاّمة الحلّي المتوفى سنة 726.
وقوله: «والمحدّثون لا يعترفون بذلك» يردّه كلام الحاكم الملقّب عندهم بـ«إمام المحدّثين».
وأيضاً، فقد نصّ على ولادته عليه السلام في الكعبة، وتواتر الاَْخبار بذلك، كثير من علماء أهل السُنّة من محدِّثين ومؤرّخين، منهم شاه وليّ اللّه الدهلوي، صاحب كتاب «إزالة الخفا» الذي هو من مصادر المؤلّف(14).
ومنهم جماعة ينصّون على اختصاص هذه الفضيلة بأمير المؤمنين عليه السلام:
* قال الحافظ أبو عبداللّه الكنجي الشافعي (المقتول سنة 658):
«أخبرنا الحافظ أبو عبداللّه محمّد بن محمود النجّار ـ بقراءتي عليه ببغداد ـ فقلت له: قرأت على الصفّار بنيسابور: أخبرتني عمّتي عائشة، أخبرنا ابن الشيرازي، أخبرنا الحاكم أبو عبداللّه محمّد بن عبداللّه الحافظ النيسابوري قال: ولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بمكّة في بيت اللّه الحرام، ليلة الجمعة، لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل. ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت اللّه الحرام سواه، إكراماً له بذلك وإجلالاً لمحلّه في التعظيم»(15).
أقول: أمّا الحاكم النيسابوري، فمعروف. وكذلك الحافظ ابن النجّار البغدادي المتوفى سنة 643، فإنّه من كبار الحفّاظ والمحدّثين الأعلام، كما لا يخفى على من يراجع ترجمته(16).
* وقال شيخ الإسلام إبراهيم بن محمّد الجويني الحمويني (المتوفى سنة 730): «قيل: لم يولد في الكعبة إلاّ علي»(17).
* وقال الحافظ نورالدين ابن الصبّاغ المالكي (المتوفى سنة 855): «ولم يولد في البيت الحرام قبله أحد سواه، وهي فضيلة خصّه اللّه تعالى بها، إجلالاً له وإعلاءً لمرتبته، وإظهاراً لتكرمته»(18).
* ونقل عن الفصول المهمّة هذه الكلمة مع نسبتها إلى ابن الصبّاغ غير واحد من أثبات أهل السنّة: كالحافظ نورالدين السمهودي (المتوفى سنة 911) في كتاب (جواهر العقدين) وبرهان الدين الحلبي (المتوفى سنة 1044) في (إنسان العيون)، كما ذكر الفقيه المحدّث الأديب الشيخ محمّد علي الغروي الاوردبادي في كتابه (علي وليد الكعبة).
* وقال صفي الدين أحمد بن الفضل بن محمّد باكثير الحضرمي (من أعلام القرن الحادي عشر): «ولد يوم الجمعة ثالث عشر رجب الفرد الحرام سنة ثلاثين من عام الفيل قبل الهجرة بثلاث وعشرين سنة وقيل بخمس وعشرين. وكانت ولادته بالكعبة المشرّفة، وهو أوّل من ولد بها، بل لم يعلم أنّ غيره ولد بها»(19).
* وقال الحافظ محمّد بن معتمدخان البدخشاني الحارثي (من أعلام القرن الثاني عشر): «ولم يولد في البيت الحرام أحد سواه قبله ولا بعده، وهي فضيلة خصّه اللّه بها»(20).
* وقال محمّد حبيب اللّه الشنقيطي (المتوفى سنة 1363): «ومن مناقبه ـ كرّم اللّه وجهه ـ أنه ولد في داخل الكعبة، ولم يعرف ذلك لأحد غيره»(21).
]4[ إسلام عليّ عليه السلام
قال في الصفحة 29:
«ذكر ابن إسحاق: أنّ عليّ بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ جاء، وهما ـ أي النبيّ صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم وخديجة رضي اللّه عنها ـ يصلّيان، فقال عليّ: يا محمّد، ما هذا؟ قال: دين اللّه الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى اللّه وحده لا شريك له، وإلى عبادته، وأنْ تكفر باللاّت والعزّى.
فقال عليٌّ: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمراً حتّى أُحدّث به أبا طالب، فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم أنْ يفشي عليه سرّه قبل أنْ يستعلن أمره، فقال له: يا عليّ، إذ لم تسلم فاكتم.
فمكث عليٌّ تلك الليلة، ثمّ إنّ اللّه أوقع في قلب عليٍّ الإِسلام…».
أقول:
إن أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسّلام أوّل من أسلم، وبذلك أحاديث كثيرة في أهم كتب أهل السنّة، مناقبه عند المسلمين، ولذا يعدّ في فضائله وخصائصه بتراجمه في كتب أهل السنّة أيضاً، فلننقل بعض الأحاديث:
أخرج أحمد ـ في حديث ـ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لفاطمة عليها السلام: «أو ما ترضين أنّي زوّجتك أقدم اُمّتي سلماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً»(22).
وفي حديث أخرجه أبو نعيم وجماعة أنه خاطبه قائلاً: «أنت أوّلهم إيماناً باللّه…»(23).
وفي حديث خاطب عائشة: «يا عائشة، دعي لي أخي، فإنه أوّل الناس إسلاماً، وآخر الناس بي عهداً، وأوّل الناس لي لقياً يوم القيامة»(24).
وفي حديث أخرجوه عن سلمان قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: «أوّلكم وارداً عليّ الحوض أوّلكم إسلاماً علي بن أبي طالب»(25).
نكتفي من الأحاديث بما ذكرناه. ومن الأقوال بما جاء في كتاب الاستيعاب بترجمة الإمام عليه السلام حيث قال:
«وروي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وخباب وجابر وأبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم: إن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أوّل من أسلم، وفضّله هؤلاء على غيره»(26).
ثم أقول:
إن الخبر الذي أورده المؤلّف هو عن ابن إسحاق صاحب السيرة، لكنّ مصدره كتاب البداية والنهاية لابن كثير(27)، والذي في السيرة النبوية لابن هشام، وهي تهذيب السّيرة لابن إسحاق كما هو معلوم، ما نصّه:
«ذِكْر أنّ عليَّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه أوّل ذَكَر أسلم. قال ابن إسحاق: ثم كان أوّل ذَكَر من الناس آمن برسول اللّه صلّى اللّه عليه و]آله[ وسلّم، وصلّى معه وصدّق بما جاءه من اللّه تعالى: عليّ بن أبي طالب بن عبدالمطّلب بن هاشم، رضوان اللّه وسلامه عليه، وهو يومئذ ابن عشر سنين.
وكان ممّا أنعم اللّه على عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه، أنّه كان في حجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم قبل الإِسلام.
قال ابن إسحاق: وحدّثني عبداللّه بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر أبي الحجّاج، قال: كان من نعمة اللّه على عليّ بن أبي طالب، وكان ممّا صنع اللّه له وأراد به من الخير، أنَّ قريشاً أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و]آله[ وسلّم للعبّاس عمّه ـ وكان من أيسر بني هاشم ـ : يا عبّاس: إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال… فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم عليّاً فضمّه إليه وأخذ العبّاس جعفراً فضمّه إليه، فلم يزل عليٌّ مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم حتى بعثه اللّه تبارك وتعالى نبيّاً، فاتّبعه عليٌّ رضي اللّه عنه وآمن به وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العبّاس حتّى أسلم واستغنى عنه.
قال ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم كان إذا حضرت الصّلاة خرج إلى شعاب مكّة، وخرج معه عليّ بن أبي طالب مستخفياً من أبيه طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصلّيان الصّلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا…».
فالذي أورده عن «البداية والنهاية» غير موجود في سيرة ابن هشام!
والخبر الذي رواه ابن إسحاق بإسناده عن مجاهد، أورده المؤلّف عن تاريخ الطبري بسنده عن مجاهد! ثم قال في الهامش: «والحكاية عند محمّد بن إسحاق أيضاً».
والذي جاء في السيرة لابن هشام أنّه «قال ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم…» أورده المؤلّف عن ابن إسحاق تحت عنوان «بين عليّ وأبي طالب»!!
فالملاحظ: أن المؤلّف يذكر شيئاً عن ابن إسحاق بواسطة ابن كثير الدمشقي وهو غير موجود في السيرة الهشامية، والذي فيه لا يورده…!!
وشيءٌ موجود عند ابن إسحاق، يذكره عن الطبري ولا يورده عن ابن إسحاق، وشيءٌ يورده عنه ولكن تحت عنوان مخترَع من عنده!!
والمهمُّ أنْ نقارن بين الذي في السيرة لابن هشام عن ابن إسحاق، والذي ذكره ابن كثير عن ابن إسحاق، ثم نسأل المؤلِّفَ عمّا دعاه إلى اعتماد نقل ابن كثير دون ما جاء في نفس سيرة ابن إسحاق؟!
هذا، وقد سبق ابن الاَْثير في «أُسد الغابة» ابن كثير في هذا الذي أورده معزوّاً إلى ابن إسحاق، ولا أَستبعدُ أن يكون ابن كثير قد أخذ المطلب من «أُسد الغابة» بلا مراجعة لسيرة ابن إسحاق.
ثمّ إنّ المؤلّف بعد ما رأى نفسه مضطرّاً إلى الاعتراف بأنّ عليّاً أوّل من أسلم، قال في الصفحة 30:
«وهو ما تدلُّ عليه القرائن وطبيعة الاَْشياء، فإنّه رضي اللّه عنه نشأ في أحضان رسول اللّه صلّى اللّه عليه ]وآله[ وسلّم، وفي البيئة النبوية التي احتضنت الدعوة إلى الإسلام، وتبليغ رسالات اللّه إلى كافّة الاَْنام، والخضوع لتأثيرها ـ إذا لم يكن مانع قاسر أو طبيعة منحرفة قاسية وحاشا عليّاً عن ذلك ـ شيء طبيعي».
إذن، كان إسلام عليٍّ عليه السلام على أثر وجوده في هذه البيئة، والخضوع لتأثيرها شيء طبيعي، فالفضل للبيئة التي أثّرت فيه وحملته على الخضوع…!! هذا معنى كلامه، ويشهد بذلك عبارته بعد هذا حيث قال:
«وقد جمع بعض المحقّقين والباحثين بين الروايات بأنّه كان أوّل النساء وأهل البيت إسلاماً خديجة أُمّ المؤمنين، وأوّل الرجال الواعين الناضجين إسلاماً أبو بكر الصدّيق، وأوّل الصغار والاَْحداث إسلاماً عليّ بن أبي طالب. والاَْوّل أقرب إلى القياس، واللّه أعلم».
فإسلام عليٍّ عليه السلام كان إسلام تأثّر بالبيئة، لا إسلام نضوج!!
وهنا يأتي هذا السؤال:
إذا كان إسلام عليٍّ عن تأثير البيئة، ولم يكن عن وعي ونضج، فما رأيك في الأحاديث المشار إليها؟ وما رأيك بكلمات الصّحابة وكبار التابعين وكبار الأئمة الذين جعلوا هذا الأمر من فضائله الخاصّة به، وفضّله الكثيرون بذلك على غيره؟ وما تصنع بما روي عن أمير المؤمنين نفسه من فخره بذلك على جميع المسلمين ممّا هو مشهور في الكتب ولم نذكره؟ وما تصنع بالحديث الثابت المعروف بـ«حديث الإِنذار» الصريح في خلافة عليٍّ بعد النبيّ فضلا عن صحّةِ إسلامه؟!
(1) رواه المؤلّف في ص 31 عن سيرة ابن هشام 1 / 246، وهو أيضاً في تاريخ الطبري 2 / 214، وسيرة ابن سيّد الناس 1 / 94، وفي الإِصابة 4 / 116، وغيرها.
(2) أُسد الغابة 1 / 287.
(3) البداية والنهاية 3 / 42، فتح الباري 7 / 153، السيرة الحلبية 1 / 305، المواهب اللدنّية بالمنح المحمديّة 1 / 61.
(4) سيرة ابن هشام 1 / 373، ابن كثير 3 / 87، وغيرهما.
(5) الإصابة 4 / 118، أسنى المطالب ـ لأحمد زيني دحلان ـ : 6، وغيرهما.
(6) الطبقات الكبرى 1 / 79.
(7) أي بين المناوئين للّه ولرسوله، لكنّ المتأمّل في كلام أبي الفداء صدراً وذيلا يحكم بأنْ هذا المؤرّخ مخالف لهذا.
(8) المختصر في أخبار البشر 1 / 120.
(9) مسند أحمد 5 / 438.
(10) كشف الأسرار عن اصول فخر الاسلام 2 / 685.
(11) الطبقات الكبرى 1 / 105، تاريخ ابن كثير 3 / 125، تاريخ بغداد 13 / 196، الإِصابة 4 / 116، تاريخ اليعقوبي 2 / 26.
(12) الطبقات الكبرى 1 / 106.
(13) المستدرك على الصحيحين 3 / 482.
(14) إزالة الخفا عن سيرة الخلفا 4 / 406.
(15) كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب: 407.
(16) وصفه الذهبي بـ«الإمام العالم الحافظ البارع محدّث العراق مؤرّخ العصر… كان مع حفظه فيه دين وصيانة ونسك» سير أعلام النبلاء 23 / 131 وأنظر: الهامش للوقوف على مصادر ترجمته.
(17) فرائد السمطين 1 / 426.
(18) الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 30.
(19) وسيلة المآل في عدّ مناقب الآل: 282. مخطوط.
(20) مفتاح النجا في مناقب آل العبا: 34. مخطوط.
(21) كفاية الطالب: 37.
(22) مسند أحمد 5 / 26، وأنظر: الاستيعاب واُسد الغابة وغيرهما بترجمة الإمام. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 114: رواه أحمد والطبراني برجال وثّقوا.
(23) حلية الأولياء 1 / 65 وأنظر: الرياض النضرة 2 / 198.
(24) الإصابة بمعرفة الصحابة 4 / 389.
(25) المستدرك على الصحيحين 3 / 136، والاستيعاب وذخائر العقبى وغيرهما، وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
(26) الاستيعاب 2 / 456، وأنظر: اُسد الغابة وتهذيب التهذيب والاصابة وغيرها بترجمته عليه السلام.
(27) البداية والنهاية 3 / 24.