متى طرحت فكرة الشورى
إذن، متى جاء ذكر الشورى؟ ومتى طرحت هذه الفكرة؟ في أيّ تاريخ؟ ولماذا؟ وحتّى عمر أيضاً لم تكن عنده هذه الفكرة، وإنّه كان مخالفاً لهذه الفكرة، وإنّما كان قائلاً بالنص والشواهد على ذلك عديدة:
منها: قوله: لو كان أبو عبيدة حياً لولّيته(1).
وقوله: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لولّيته(2).
وقوله: لو كان معاذ بن جبل حيّاً لولّيته(3).
إذن، ما الذي حدث؟ ولماذا طرحت هذه الفكرة، فكرة الشورى؟
هذه الفكرة طرحت وحدثت بسبب، سأنقله لكم من صحيح البخاري(4)، وهو أيضاً في: سيرة ابن هشام(5)، وأيضاً في تاريخ الطبري(6)، وأيضاً في مصادر أُخرى(7)، وهناك فوارق بين العبارات، وقد تلاعبوا به، لا أتعرّض لتلك الناحية، ولا أبحث عن التلاعب الذي حدث منهم في نقل القصة، وإنّما أذكر النص في صحيح البخاري، لتروا كيف طرحت فكرة الشورى من قبل عمر في سنة 23، والنص طويل، وتأمّلوا في ألفاظه، يقول البخاري:
حدّثنا عبد العزيز بن عبداللّه، حدّثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب ]وهو الزهري[ عن عبيداللّه بن عبداللّه بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس قال: كنت ]ابن عباس يقول، والقضية أيضاً فيها عبد الرحمن بن عوف كما سترون [أقرئ رجالاً من المهاجرين ]أقرؤهم يعني القرآن[ منهم عبد الرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى ]القضيّة في الحج، وفي منى بالذات، وفي سنة 23 من الهجرة [وهو عند عمر بن الخطاب ]أي: عبد الرحمن بن عوف كان عند عمر بن الخطاب [في آخر حجّة حجّها، إذ رجع إليّ عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين، هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً، فو اللّه ما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلته فتمّت، فغضب عمر ثمّ قال: إنّي إن شاء اللّه لقائم العشيّة في الناس، فمحذّرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم.
]لاحظوا القضيّة: عبد الرحمن كان عند عمر بن الخطاب في منى، فجاء رجل وأخبر عمر أنّ بعض الناس كانوا مجتمعين وتحدّثوا، فقال أحدهم: لو قد مات عمر لبايعنا فلاناً، فو اللّه ما كانت بيعة أبي بكر إلاّ فلتة، في البخاري فلان، وسأذكر لكم الاسم، وهذا دأبهم، يضعون كلمة فلان في مكان الأسماء الصريحة، فقال قائل من القوم: واللّه لو قد مات عمر لبايعت فلاناً. القائل من؟ وفلان الذي سيبايعه من؟ لبايعت فلاناً، يقول هذا القائل: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمّت، لكن سننتظر موت عمر، لنبايع فلاناً، لمّا سمع عمر هذا المعنى غضب، وأراد أن يقوم هناك ويخطب[.
قال عبد الرحمن فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل، فإنّ الموسم يجمع رعاء الناس وغوغاءهم، فإنّهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كلّ مطيّر، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتّى تقدم المدينة، فإنّها دار الهجرة والسنّة، فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكّناً، فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها، فقال عمر: أمّا واللّه إن شاء اللّه لأقومنّ بذلك أوّل مقام أقومه بالمدينة.
]فتفاهما على أن يسكت عن القضيّة إلى أن يرجعوا إلى المدينة المنوّرة[.
قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجّة، فلمّا كان يوم الجمعة عجّلنا الرواح حين زاغت الشمس، حتّى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالساً إلى ركن المنبر، فجلست حوله تمسّ ركبتي ركبته، فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطّاب، فلمّا رأيته مقبلاً قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولنّ العشيّة مقالة لم يقلها منذ استخلف، فأنكر عَلَيّ ـ سعيد بن زيد ـ وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله؟ فجلس عمر على المنبر، فلمّا سكت المؤذنون قام فأثنى على اللّه بما هو أهله ثمّ قال:
أمّا بعد، فإنّي قائل لكم مقالة، قد قدّر لي أن أقولها، لا أدري لعلّها بين يدي أجلي، فمن عقلها ووعاها فليحدّث بها حيث انتهت به راحلته، ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحلّ لأحد أن يكذب عَليّ. إنّ اللّه بعث محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحقّ، وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل آية الرّجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فلذا رجم رسول اللّه ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل واللّه ما نجد آية الرجم في كتاب اللّه، فيضل بترك فريضة أنزلها اللّه، والرجم في كتاب اللّه حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البيّنة، أو كان الحبل أو الاعتراف.
ثمّ إنّا كنّا نقرأ في ما نقرأ من كتاب اللّه: أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ]هذا كان يقرؤه في كتاب اللّه عمر بن الخطاب، وليس بموجود الآن في القرآن المجيد، فيكون دليلاً من أدلّة تحريف القرآن ونقصانه، إلاّأن يحمل على بعض المحامل، وعليكم أن تراجعوا كتاب التحقيق في نفي التحريف [ثمّ يقول عمر بن الخطّاب: ثمّ إنّ رسول اللّه قال: لا تطروني كما أطري عيسى بن مريم، وقولوا عبد اللّه ورسوله.
ثمّ إنّه بلغني أنّ قائلاً منكم يقول: واللّه لو مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترنّ امرؤ أن يقول: إنّما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت، ألا وإنّها قد كانت كذلك ولكنّ اللّه وقى شرّها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر. من بايع رجلاً ]تأمّلوا هذه الكلمة [من غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرّة أن يقتلا.
وإنّه قد كان من خبرنا حين توفى اللّه نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الأنصار خالفونا، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف علينا علي والزبير ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر، انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نريدهم، فلمّا دنونا منهم، لقينا منهم رجلان صالحان، فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار، فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم أخذوا أمركم، فقلت: واللّه لنأتينّهم، فانطلقا حتّى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمّل بين ظهرانيهم، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ قالوا: يوعك، فلمّا جلسنا قليلاً تشهّد خطيبهم، فأثنى على اللّه بما هو أهله، ثمّ قال:
أمّا بعد، فنحن أنصار اللّه، وكتيبة الإسلام، وأنتم معشر المهاجرين رهط، وقد دفّت دافّة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلها، وأن يحضوننا من الأمر.
فلمّا سكت أردت أن أتكلّم، وكنت زوّرت مقالة أعجبتني أريد أن أقدّمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الحدّ، فلمّا أردت أن أتكلّم قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أغضبه، فتكلّم أبو بكر، فكان هو أحلم منّي وأوقر، واللّه ما ترك من كلمة أعجبتني في تزوير إلاّ قال في بديهته مثلها أو أفضل منها، حتّى سكت، فقال:
ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلاّ لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسباً وداراً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ]يعني أبا عبيدة وعمر [فبايعوا أيّهما شئتم، فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، فلم أكره ممّا قال غيرها، كان واللّه لأن أقدّم فتضرب عنقي لا يقرّبني ذلك من إثم أحبّ إليّ من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر، اللهمّ إلاّ أن تسوّل إليّ نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن.
فقال قائل من الأنصار: أنا جذيله المحكك وعذيقها المرجّب، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثر اللّغط وارتفعت الأصوات، حتّى فرقت من الاختلاف.
فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعته وبايعه المهاجرون، ثمّ بايعته الأنصار، ونزونا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة، فقلت: قتل اللّه سعد بن عبادة.
قال عمر: وإنّا واللّه ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فإمّا بايعناهم على ما لا نرضى، وإمّا نخالفهم فيكون فساد.
فمن بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا».
هذه خطبة عمر بن الخطاب التي أراد أن يخطب بها في منى، فمنعه عبد الرحمن بن عوف، فوصل إلى المدينة، وفي أوّل جمعة خطبها، ولماذا في أوائل الخطبة تعرّض لقضيّة الرجم؟ هذا غير واضح عندي الآن، أمّا فيما يتعلّق ببحثنا، فالتهديد بالقتل للمبايع والمبايع له مكرّر، فقد جاء في أوّل الخطبة وفي آخرها بكلّ صراحة ووضوح: من بايع بغير مشورة من المسلمين هو والذي بايعه يقتلان كلاهما.
أمّا من فلان المبايع؟ وفلان المبايع له؟ وما الذي دعا عمر بن الخطّاب أن يطرح فكرة الشورى، وقد كان قد قرّر أن يكون من بعده عثمان كما قرأنا؟
الحقيقة: إنّ أمير المؤمنين وطلحة والزبير وعمّار وجماعة معهم كانوا في منى، وكانوا مجتمعين فيما بينهم يتداولون الحديث، وهناك طرحت هذه الفكرة أن لو مات عمر لبايعنا فلاناً، ينتظرون موت عمر حتّى يبايعوا فلاناً، ثمّ أضافوا أنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة، فأُولئك الجالسون هناك، الذين كانوا يتداولون الحديث فيما بينهم قالوا: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة، يريدون أنّ تلك الفرصة مضت، وإنّا قد ضيّعنا تلك الفرصة، وخرج الأمر من أيدينا، لكن ننتظر فرصة موت عمر فنبايع فلاناً، قالوا هذا الكلام وفي المجلس من يسمعه، فأبلغ الكلام إلى عمر، وغضب عمر وأراد أن يقوم هناك ويخطب، فمنعه عبد الرحمن بن عوف من ذلك.
وفي المدينة، اضطرّ الرجل إلى أن يذكر لنا بعض وقائع داخل السقيفة، وإلاّ فمن أين كنّا نقف على ما وقع في داخل السقيفة، وهم جماعة من الأنصار وأربعة أو ثلاثة من المهاجرين، ولابدّ أن يحكي لنا ما وقع في داخل السقيفة أحد الحاضرين، واللّه سبحانه وتعالى أجرى على لسان عمر، وجاء في صحيح البخاري بعض ما وقع في قضيّة السقيفة، وإلاّ فمن كان يحدّثنا عمّا وقع؟
يقول عمر: إرتفعت الأصوات، كثر اللّغط، حتّى نزونا على سعد بن عبادة، هذا بمقدار الذي أفصح عنه عمر، أمّا ما كان أكثر من هذا، فاللّه أعلم به، ما عندنا طريق لمعرفة كلّ ما وقع في داخل السقيفة، والقضية قبل قرون وقرون، ومن يبلّغنا ويحدّثنا، لكن الخبر بهذا القدر أيضاً لو لم يكن في صحيح البخاري فلابدّ وأنّهم كانوا يكذّبون القضيّة.
ثمّ إنّ عمر أيّد قول القائلين إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتة، لكنه يريد الأمر لمن؟ يريده لعثمان من بعده، فهل يتركهم أن يبايعوا بمجرّد موته غير عثمان؟ فلابدّ وأن يهدّد، فهدّدهم وجاءت الكلمة: فلان وفلان، وليس هناك تصريح في الاسم كما في كثير من المواضع.
(1) مسند أحمد 1 / 18، سير أعلام النبلاء: الجزء 1: 9، وغيرهما، تاريخ مدينة دمشق 58: 404، شرح نهج البلاغة 1: 190.
(2) الطبقات الكبرى 3 / 343.
(3) مسند أحمد 1: 18، الطبقات 3: 590، سير أعلام النبلاء 1: 10، 446.
(4) صحيح البخاري 8: 25، 152.
(5) سيرة ابن هشام 4: 1071.
(6) تاريخ الطبري 2: 445.
(7) مسند أحمد بن حنبل 1: 54، صحيح ابن حبان 2: 146، تاريخ دمشق 30: 280.