إمامة عمر لم تكن بالشورى
ثمّ أراد أبو بكر أن ينصب من بعده عمر بن الخطاب، ولكنْ، حتى آخر لحظة من أيّام أبي بكر، لم يكن عنوان الشورى مطروحاً عنده ولا عند أحد، حتّى أوصى أبو بكر بعمر بن الخطاب من بعده، فكان كما يروي القاضي أبو يوسف الفقيه الكبير في كتاب الخراج(1) يقول: لمّا حضرت الوفاة أبا بكر، أرسل إلى عمر يستخلفه، فقال الناس: أتستخلف علينا فظّاً غليظاً، لو قد ملكنا كان أفظ وأغلظ، فماذا تقول لربّك إذا لقيته ولقد استخلفت علينا عمر؟ قال: أتخوّفوني ربّي! أقول: اللهمّ أمّرت خير أهلك.
هذا النصّ يفيدنا أمرين:
الأمر الأوّل: إنّ إمامة عمر بعد أبي بكر لم تكن بنصٍّ من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ولا بشورى، ولم تكن باختيار، من الناس، بل لقد اعترضوا على أبي بكر كما تقدّم.
إذن، لم يكن لإمامة عمر نص من رسول اللّه، ولم تكن شورى من المسلمين، وإنّما يدّعي أبو بكر الأفضليّة لعمر، يقول للمعترضين: أقول: اللهمّ أمّرت خير أهلك، والأفضليّة طريق ثبوت الإمام، فهذا النص الذي قرأناه لا دلالة فيه على تحقّق الشورى فحسب، بل يدلّ دلالةً صريحةً على مخالفة الناس ومعارضتهم لهذا الذي فعله أبو بكر. وهو الأمر الثاني.
وهذا النص بعينه موجود في المصنّف لابن أبي شيبة، وفي الطبقات الكبرى(2)، وغيرهما(3).
أمّا لو راجعنا المصادر، لوجدنا في بعضها بدل كلمة: الناس، جملة: معشر المهاجرين.
ففي كتاب إعجاز القرآن للباقلاني، وكتاب الفائق في غريب الحديث للزمخشري، وكذا في غيرهما: عن عبد الرحمن بن عوف قال: دخلت على أبي بكر في علّته التي مات فيها، فقلت: أراك بارئاً يا خليفة رسول اللّه؟ فقال: أمّا إنّي على ذلك لشديد الوجع، وما لقيتُ منكم يا معشر المهاجرين أشدّ عَليَّ من وجعي! إنّي ولّيت أموركم خيركم في نفسي، فكلّكم ورم أنفه أن يكون له الأمر من دونه، واللّه لتتخذنّ نضائد الديباج وستور الحرير… إلى آخر الخبر(4).
أي إنّكم يا معاشر المهاجرين تريدون الخلافة، وكلّ منكم يريدها لنفسه، لأجل الدنيا، ويخاطب بهذا أبو بكر «المهاجرين»، بدل كلمة «الناس» في النص السابق.
فقال له عبد الرحمن: خفض عليك يا خليفة رسول اللّه، ولقد تخلّيت بالأمر وحدك، فما رأيت إلاّ خيراً.
من هذا الكلام نفهم أمرين أيضاً:
الأمر الأوّل: إنّه كان هذا الشيء من أبي بكر وحده، فقد تخلّيت بالأمر وحدك.
الأمر الثاني: أنّ عبد الرحمن بن عوف موافق على ما فعله أبو بكر.
ثمّ جاء في بعض الروايات اسم علي وطلحة بالخصوص، لاحظوا هذا الخبر: قالت عائشة: لمّا حضرت أبا بكر الوفاة، استخلف عمر، فدخل عليه علي وطلحة فقالا: من استخلفت؟ قال: عمر، قالا:
فماذا أنت قائل لربك؟ قال: أقول استخلفت عليهم خير أهلك.
ففي نصّ كلمة: الناس، وفي نصّ كلمة: معشر المهاجرين، وفي نصّ: علي وطلحة، وهذا النص في الطبقات(5).
لكن بعضهم ينقل نفس الخبر ويحذف الاسمين، ويضع بدلهما فلان وفلان، والخبر أيضاً بسند آخر في الطبقات(2).
وفي رواية أُخرى: سمع بعض أصحاب النبي بدخول عبد الرحمن و عثمان على أبي بكر وخلوتهما به، فدخلوا على أبي بكر فقال قائل منهم… إلى آخر الخبر((6)).
ونفهم من هذا النص أمرين:
الأمر الأول: إنّ أبا بكر لم يشاور أحداً في هذا الأمر، ولم يعاونه أحد ولم يوافقه أحد، إلاّ عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفّان فقط.
الأمر الثاني: إنّ بعض الأصحاب ـ من دون اسم ـ دخلوا حين كان قد اختلا بهما ـ بعبد الرحمن وعثمان ـ قال قائلهم له: ماذا تقول لربّك… إلى آخر الخبر.
فالمستفاد من هذه النصوص أمور، من أهمّها أمران:
الأمر الأوّل: إنّه كان لعبد الرحمن بن عوف وعثمان ضلع في تعيين عمر بعد أبي بكر، وإن شئتم التفصيل فراجعوا تاريخ الطبري(7)حتّى تجدوا كيف أشار عبد الرحمن وعثمان على أبي بكر، وكيف كتب عثمان وصيّة أبي بكر لعمر بن الخطّاب.
الأمر الثاني المهم: إنّ خلافة عمر بعد أبي بكر لم تكن بنصّ من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا برضا من أعلام الصحابة، بل إنّهم أبدوا معارضتهم واستيائهم من ذلك، وإنّما كانت خلافته بوصيّة من أبي بكر فقط.
وإلى الآن، لم نجد ما يفيد طريقيّة الشورى لتعيين الإمام والإمامة، مع ذلك لو تراجعون بعض الكتب المؤلّفة أخيراً، من هؤلاء الذين يُصوّرون أنفسهم مفكّرين وعلماء ومحقّقين، وهكذا تصوّر في حقّهم بعض الناس والتبس عليهم أمرهم!، تجدون هذه الدعوى:
يقول أحدهم في كتاب له باسم فقه السيرة: فشاور أبو بكر قبيل وفاته طائفة من المتقدّمين، ذوو النظر والمشورة من أصحاب رسول اللّه، فاتّفقت كلمتهم على أن يعهد بالخلافة إلى عمر بن الخطّاب.
وقد رأيتم من أهمّ مصادرهم ـ راجعوا طبقات ابن سعد، تاريخ الطبري، وسائر الكتب ـ لتروا أن لم يكن لأحد دخل ورأي في هذا الموضوع، بل الكلّ مخالفون، وإنّما عبد الرحمن بن عوف وعثمان فقط بحسب بعض الروايات.
وسنرى من خلال الأخبار ومجريات الحوادث: أنّ هناك تواطؤاً وتفاهماً على أن يكون عثمان بعد عمر، وعلى أن يكون عبد الرحمن بعد عثمان، ويؤكّد هذا الذي قلته النص التالي، فلاحظوا:
إنّ سعيد بن العاص أتى عمر يستزيده ]سعيد بن العاص تعرفونه، هذا من بني أميّة، ومن أقرباء عثمان القريبين، الذي ولاّه على بعض القضايا، وصدر منه بعض الأشياء[ في داره التي بالبلاط، وخطّط أعمامه مع رسول اللّه، فقال عمر: صلّ معي الغداة وغبّش، ثمّ أذكرني حاجتك، قال: ففعلت، حتّى إذا هو انصرف، قلت: يا أمير المؤمنين الحاجة التي أمرتني أن أذكرها لك، قال: فوثب معي ثمّ قال: امض نحو دارك حتّى انتهيت إليها، فزادني وخطّ لي برجله، فقلت: يا أمير المؤمنين، زدني، فإنّه نبتت لي نابتة من ولد وأهل، فقال: حسبك وخبّئ عندك أن سيلي الأمر بعدي من يصل رحمك ويقضي حاجتك، قال: فمكثت خلافة عمر بن الخطّاب، حتّى استخلف عثمان، فوصلني وأحسن وأقضى حاجتي وأشركني في إمامته… إلى آخر النصّ.
وهذا أيضاً في الطبقات(8). يقول عمر لسعيد بن العاص أن انتظر، سيعطيك ما تريد الذي سيلي الأمر من بعدي، واختبئ عندك هذا الخبر، فليكن عندك السر.
(1) كتاب الخراج: 11.
(2) المصنف 7: 485، الطبقات لابن سعد 3 / 199، 274.
(3) تاريخ الطبري 2 / 617 ـ 621، الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشرة 1 / 223، الفائق في غريب الحديث 1: 89.
(4) إعجاز القرآن للباقلاني: 156، الفائق في غريب الحديث 1 / 89، أساس البلاغة: 497، النهاية في غريب الحديث 1: 77 و 5: 177، لسان العرب 9: 15 و 12: 634، في مادة «ورم».
(5) و (2) الطبقات الكبرى 3 / 274، تاريخ دمشق 44: 251، كنز العمال 5: 677.
(6) الطبقات الكبرى 3: 199.
(7) تاريخ الطبري 2 / 617.
(8) طبقات الكبرى 5 / 31، كنز العمال 12: 580، تاريخ مدينة دمشق 21: 119.