وحينئذ، يقع الكلام في ما نسبه أبو بكر وحده إلى النبي عليه وآله الصلاة والسلام… .
أمّا أنّه انفرد به أبو بكر، فهذا ما نصّ عليه كبار الحفّاظ والمحدّثين من أهل السنّة، كأبي القاسم البغوي المتوفّى سنة 317، وأبي بكر الشافعي المتوفّى سنة 354، وابن عساكر المتوفّى سنة 571، والجلال السيوطي المتوفّى سنة 911، وابن حجر المكّي المتوفّى سنة 973، والمتّقي الهندي المتوفّى سنة 975.
الاعتراف بكونه ممّا تفرّد به أبو بكر
قال الحافظ جلال الدين السيوطي (ت 911): «أخرج أبو القاسم البغوي وأبو بكر الشافعي في فوائده وابن عساكر عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: لما توفي رسول اللّه عليه الصلاة والسلام . . . اختلفوا في ميراثه، فما وجدوا عند أحد من ذلك علماً. فقال أبو بكر: سمعت رسول اللّه عليه الصلاة والسلام يقول: إنّا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»(1).
وقال ابن حجر المكّي في صواعقه: «اختلفوا في ميراث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فما وجدوا عند أحد في ذلك علماً، فقال أبو بكر: سمعت رسول اللّه . . .»(2).
ورواه المتّقي الهندي فقال: «حم م د وابن جرير، هق»(3).
ونصّ على انفراده به كبار الأئمّة الأُصوليّين في مباحث خبر الواحد من كتبهم الأُصوليّة، وجعلوه من أهمّ وأشهر الأخبار التي انفرد بها آحاد من الصحابة، ولننقل طائفةً من عباراتهم كذلك:
قال القاضي عضد الدين الإيجي بشرح قول ابن الحاجب: «يجب العمل بخبر الواحد العدل خلافاً للقاساني و . . . لنا: تكرّر العمل به كثيراً من الصحابة والتابعين شائعاً ذائعاً من غير نكير . . .» قال:
«قد ثبت جواز التعبّد بخبر الواحد، وهو واقع، بمعنى أنّه يجب العمل بخبر الواحد، وقد أنكره القاساني والرافضة وابن داود. والقائلون بالوقوع قد اختلفوا في طريق إثباته، والجمهور على أنّه يجب بدليل السمع، وقال أحمد والقفال وابن سريج وأبو الحسين البصري بدليل العقل. لنا: إجماع الصحابة والتابعين، بدليل ما نقل عنهم من الاستدلال بخبر الواحد، وعملهم به في الوقائع المختلفة التي لا تكاد تحصى، وقد تكرّر ذلك مرّةً بعد أُخرى، وشاع وذاع بينهم، ولم ينكر عليهم أحد، وإلاّ نقل، وذلك يوجب العلم العادي باتّفاقهم كالقول الصريح، وإن كان احتمال غيره قائماً في كلّ واحد واحد، فمن ذلك:
أنّه عمل أبو بكر بخبر المغيرة في ميراث الجدّة، وعمل عمر . . . وعمل الصحابة بخبر أبي بكر: الأئمّة من قريش، و: الأنبياء يدفنون حيث يموتون. و: نحن معاشر الأنبياء لا نورث.
إلى غير ذلك ممّا لا يجدي استيعاب النظر فيه إلاّ التطويل . . .»(4).
وقال الرازي في المسألة: «المسلك الرابع: الإجماع، العمل بالخبر الذي لا يقطع بصحّته مجمع عليه بين الصحابة، فيكون العمل به حقّاً. إنّما قلنا: إنّه مجمع عليه بين الصحابة، لأنّ بعض الصحابة عمل بالخبر الذي لا يقطع بصحّته، ولم ينقل عن أحد منهم انكار على فاعله، وذلك يقتضي حصول الإجماع. وإنّما قلنا: إنّ بعض الصحابة عمل به، لوجهين: الأوّل: وهو أنّه روي بالتواتر: أنّ يوم السقيفة لمّا احتج أبو بكر ـ رضي اللّه عنه ـ على الأنصار بقوله عليه الصلاة والسلام: الأئمّة من قريش، مع أنّه مخصّصٌ لعموم قوله تعالى: (أطِيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولى الأمْرِ مِنْكُمْ)(5) قبلوه ولم ينكر عليه أحد . . . الثاني: الاستدلال بأُمور لا ندّعي التواتر في كلّ واحد منها، بل في مجموعها. وتقريره: أنّ نبيّن أنّ الصحابة عملوا على وفق خبر الواحد، ثمّ نبيّن أنّهم إنّما عملوا به لا بغيره. أمّا المقام الأوّل، فبيانه من وجوه:
الأوّل: رجوع الصحابة إلى خبر الصدّيق في قوله عليه الصلاة والسلام: الأنبياء يدفنون حيث يموتون. وفي قوله: الأئمّة من قريش. وفي قوله: نحن معاشر الأنبياء لا نورث . . .»(6).
وقال الغزّالي: «وكلام من ينكر خبر الواحد ولا يجعله حجّةً في غاية الضعف، ولذلك ترك توريث فاطمة ـ رضي اللّه عنها ـ بقول أبي بكر: نحن معاشر الأنبياء لا نورث. الحديث. فنحن نعلم أنّ تقدير كذب أبي بكر وكذب كلّ عدل، أبعد في النفس من تقدير كون آية المواريث مسوقة لتقدير المواريث، لا للقصد إلى بيان حكم النبي عليه الصلاة والسلام . . .»(7).
وقال الآمدي ـ في مبحث حجّيّة خبر الواحد ـ: «ويدلّ على ذلك ما نقل عن الصحابة من الوقائع المختلفة الخارجة عن العدّ والحصر، المتفقة على العمل بخبر الواحد ووجوب العمل به، فمن ذلك ما روي عن أبي بكر الصدّيق ـ رضي اللّه عنه ـ أنّه عمل بخبر المغيرة و . . . ومن ذلك عمل جميع الصحابة بما رواه أبو بكر الصدّيق من قوله: الأئمّة من قريش، ومن قوله: الأنبياء يدفنون حيث يموتون. ومن قوله: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة . . .»(8).
وقال علاء الدين البخاري: «وكذلك أصحابه عملوا بالآحاد وحاجّوا بها في وقائع خارجة عن العدّ والحصر، من غير نكير منكر ولا مدافعة دافع . . . ومنها: رجوعهم إلى خبر أبي بكر رضي اللّه عنه في قوله (عليه السلام): نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة . . .»(9).
وقال عبد العلي الأنصاري: «ولنا ثانياً: إجماع الصحابة على وجوب العمل بخبر العدل . . . فمن ذلك: أنّه عمل الكلّ من الصحابة بخبر خليفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أبي بكر الصدّيق رضي اللّه تعالى عنه: الأئمّة من قريش، ونحن معاشر الأنبياء لا نورث . . .»(10).
وقال نظام الدين الأنصاري ـ في مبحث وجوب قبول خبر الواحد، من (شرح المنار في علم الأُصول) ـ : «ولهم أيضاً: الإجماع، وتفصيله ـ على ما في التحرير ـ أنّه تواتر عن الصحابة ـ رضوان اللّه تعالى عليهم ـ في وقائع خرجت عن الإحصاء يفيد مجموعها اجماعهم على وجوب القبول . . . فلنعد جملةً: منها: عمل أمير المؤمنين أبي بكر الصدّيق بخبر المغيرة … .
وأيضاً: إنّ الإجماع قد ثبت على قبول خبر أبي بكر: الأئمّة من قريش. و: نحن معاشر الأنبياء لا نورث… .
وهاهنا دغدغة: فإنّ ذلك يستلزم أن ينسخ الكتاب بخبر الواحد، فإنّه قبل انعقاد الإجماع كان خبراً واحداً محضاً، وفي الكتاب توريث البنت مطلق. نعم، إنّ أبا بكر إذ سمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فلا شبهة عنده، فإنّه أتم من التواتر، فصحّ له ذلك مخصّصاً أو نسخاً، بخلاف مغيرة، فإنّه إنّما خصّ أو نسخ بخبر الواحد. وبعد الإجماع فإنّما الإنساخ والتقييد بخبر الواحد عند المحقّقين.
والجواب: إنّ عمل أمير المؤمنين أبي بكر بمنزلة قوله وقول غيره من الصحابة: إنّ هذا منسوخ، وهو حجّة في النسخ، مع أنّ طاعة أُولي الأمر واجبة».
أقول: والمتكلّمون أيضاً يعترفون ـ في كتبهم الكلاميّة ـ بانفراد أبي بكر في رواية هذا الحديث عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونحن نكتفي بذكر كلام بعضهم:
قال القاضي الإيجي وشارحه الشريف الجرجاني ما نصّه:
«شرائط الإمامة ما تقدّم، وكان أبو بكر مستجمعاً لها، يدلّ عليه كتب السير والتواريخ، ولا نسلّم كونه ظالماً. قولهم: كان كافراً قبل البعثة، تقدّم الكلام فيه، حيث قلنا: الظالم من ارتكب معصيةً تسقط العدالة بلا توبة وإصلاح، فمن آمن عند البعثة وأصلح حاله لا يكون ظالماً. قولهم: خالف الآية في منع الإرث. قلنا: لمعارضتها بقوله (عليه السلام) : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة. فإن قيل: لا بدّ لكم من بيان حجّيّة ذلك الحديث الذي هو من قبيل الآحاد ومن بيان ترجيحه على الآية.
قلنا: حجّيّة خبر الواحد والترجيح ممّا لا حاجة لنا إليه ها هنا، لأنّه رضي اللّه عنه كان حاكماً بما سمعه من رسول اللّه، فلا اشتباه عنده في سنده»(11).
وقال سعد الدين التفتازاني: «فممّا يقدح في إمامة أبي بكر ـ رضي اللّه تعالى عنه ـ أنّه خالف كتاب اللّه تعالى في منع إرث النبي، بخبر رواه وهو: نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة، وتخصيص الكتاب إنّما يجوز بالخبر المتواتر دون الآحاد.
والجواب: إنّ خبر الواحد ـ وإن كان ظنّي المتن ـ قد يكون قطعي الدلالة، فيخصّص به عامّ الكتاب لكونه ظنّي الدلالة وإن كان قطعي المتن، جمعاً بين الدليلين، وتمام تحقيق ذلك في أُصول الفقه، على أنّ الخبر المسموع من فم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إن لم يكن فوق المتواتر فلا خفاء في كونه بمنزلته، فيجوز للسامع المجتهد أن يخصص به عامّ الكتاب»(12).
«فلنكن حياديين» ولنتأمّل هذه الكلمات، لنستكشف منها طرفاً من واقع الحال:
(1) تاريخ الخلفاء: 86 وانظر: تاريخ دمشق 30 / 311 وفيه: «تركنا».
(2) الصواعق المحرقة: 19 وفيه «واختلفوا في ميراثه لما وجدنا . . .
(3) انظر: كنز العمال 5 / 604 ح 1409 عن ابن سعد. أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن الجارود وأبو عوانة وابن حبان والبيهقي و ج 11 / 20 ح 30458 عن أحمد والبيهقي.
(4) شرح المختصر 2 / 58 ـ 59.
(5) سورة النساء 4 : 59.
(6) المحصول في علم الأُصول 2 / 180 ـ 181.
(7) المستصفى في علم الأُصول 2 / 121 ـ 122.
(8) الإحكام في أُصول الأحكام 2 / 297 ـ 298.
(9) كشف الأسرار في شرح أُصول البزدوي 2 / 688.
(10) فواتح الرحموت ـ شرح مسلّم الثبوت ـ هامش المستصفى 2 / 132.
(11) شرح المواقف 8 / 355 المقصد الرابع.
(12) شرح المقاصد 5 / 278.