ماذا كان على أبي بكر أن يفعل؟
فلننظر في القضيّة «ولنكن حياديين» ونسأل: لماذا ردّ الشهادة هذه؟
قال سعد الدين التفتازاني ـ في معرض كلامه على وجوه القدح في إمامة أبي بكر ـ : «ومنها: إنّه منع فاطمة ـ رضي اللّه تعالى عنها ـ فدك، وهي قرية بخيبر، مع أنّها ادّعت أنّ النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم قد نحلها إيّاها ووهبها منها، وشهد بذلك علي رضي اللّه عنه، وأُمّ أيمن، فلم يصدّقهم، وصدّق أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في ادّعاء الحجرة لهنَّ من غير شاهد، ومثل هذا الجور والميل لا يليق بالإمام، ولهذا ردّ عمر بن عبد العزيز من المروانيّة فدك إلى أولاد فاطمة رضي اللّه تعالى عنها».
فكان الجواب منه أنْ قال: «والجواب: انّه لو سلّم صحّة ما ذكره، فليس على الحاكم أنْ يحكم بشهادة رجل وامرأة، وإنْ فرض عصمة المدّعي والشاهد»(1).
وقال الشريف الجرجاني: «ولعلّه لم ير الحكم بشاهد ويمين»(2).
أقول: ونحن نتكلّم بغضّ النظر عن العصمة الثابتة لعلي والزهراء عليهما السلام، لأنّ في القائلين بإمامة أبي بكر من يناقش في ذلك:
كان له أنْ يحكم بشهادة علي وحده، كما حكم رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)بشهادة خزيمة بن ثابت وحده، فلقّب بذي الشهادتين(3).
وكما قضى (صلى الله عليه وآله وسلم) بشهادة عبد اللّه بن عمر وحده(4).
وهل كان علي أقلّ منزلةً من خزيمة وعبد اللّه بن عمر؟ وما ضرّه لو تبع النبي صلّى اللّه عليه وآله في عمله؟
وكان له أن يطلب اليمين من الزهراء إلى جنب شهادته (عليه السلام)حسب ميزان القضاء، وقد نزل جبرائيل على رسول اللّه(5) بالقضاء بالشاهد الواحد مع يمين المدّعي وقضى به (صلى الله عليه وآله وسلم)(6) فلماذا لم يعمل أبو بكر بذلك؟
لكنّ اللّه سبحانه قبل شهادة أمير المؤمنين وحده، فقد روى السيوطي بتفسير قوله تعالى: (أفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)(7)قال: «أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن علي بن أبي طالب قال: ما من رجل من قريش إلاّ نزل فيه طائفة من القرآن. فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أمّا تقرأ سورة هود (أفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)(8)؟ رسول اللّه على بيّنة من ربّه وأنا شاهد منه.
وأخرج ابن مردوديه وابن عساكر عن علي في الآية قال: رسول اللّه على بيّنة من ربّه وأنا شاهد منه.
وأخرج ابن مردويه من وجه آخر عن علي قال: قال رسول اللّه (أفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَة مِنْ رَبِّهِ) أنا (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) علي»(9).
وهكذا . . . كذّب أبو بكر فاطمة الزهراء وعليّاً وسائر الشهود . . . لكنّ السؤال هو:
لكنّه كذّب عليّاً والزهراء وصدّق جابراً!
فلماذا صدّق جابراً ـ لمّا جاءه مال البحرين وعنده جابر ـ في قوله له: إنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: إذا أتى مال البحرين حثوت لك ثمّ حثوت لك ـ ثلاثاً ـ . فقال له أبو بكر: تقدّم فخذ بعددها. فأخذ جابر من بيت مال المسلمين من غير بيّنة بل بمجرّد الدعوى(10).
فكيف قبلت دعوى مجرّدة من جابر بن عبد اللّه، وردّت دعوى فاطمة بنت رسول اللّه المعصومة بآية التطهير وغيرها كتاباً وسنةً، وصاحبة اليد على فدك، وفي الشهود لها علي والحسنان وأُم أيمن؟!
ولو تنزّلنا عن كلّ ذلك، فهو صحابي من الأصحاب، وهي أيضاً صحابيّة من أصحاب رسول اللّه! فهل من جواب معقول ومقبول عند اللّه والرسول؟
وإنْ شئت الرجوع إلى شُرّاح الحديث من كبار الأئمة، فهذه كلماتهم:
قال الكرماني نقلاً عن الطحاوي: «وأمّا تصديق أبي بكر جابراً في دعواه، فلقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: من كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار. فهو وعيد، ولا يظنُّ بأنَّ مثله يقدم عليه»(11).
وقال ابن حجر العسقلاني: «وفيه قبول خبر الواحد العدل من الصحابة ولو جرَّ ذلك نفعاً لنفسه، لأنّ أبا بكر لم يلتمس من جابر شاهداً على صحّة دعواه»(12).
وقال العيني بعد نقل كلام ابن حجر: «قلت: إنّما لم يلتمس شاهداً منه، لانّه عدل بالكتاب والسنّة، أمّا الكتاب فقوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة ثمّ خرجت للناس)(13)، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)(14) فمثل جابر إن لم يكن من خير أُمّة فمن يكون؟ وأمّا السنّة، فقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «من كذّب عليَّ متعمّداً» الحديث. ولا يظنّ ذلك لمسلم فضلاً عن صحابي، فلو وقعت هذه المسألة اليوم فلا يقبل إلاّ ببيّنة»(15).
فإذا كانت الآيتان تدلاّن على عدالة جابر لكونه من الصحابة، فالزهراء كذلك.
وإذا صحّ قولهم إنّه إذا لم يكن مثل جابر من خير أُمّة فمن يكون؟! فالزهراء يصحّ في حقّها ذلك.
وإذا كان الحديث المذكور وعيداً ولا يظنّ بأنّ مثل جابر يقدم عليه، فكذلك لا يظنّ بأنّ مثل الزهراء تقدم عليه.
وإذا كان لا يظنّ ذلك لمسلم فضلاً عن صحابي، فإنّ الزهراء وجابراً كليهما منزّهان عن ذلك.
وعلى الجملة، كيف لا يظنُّ بجابر ـ بل أي فرد من المسلمين ـ أنْ يكذب على رسول اللّه، ولا يكون الحال بالنسبة إلى الزهراء كذلك؟
«لنكن حياديين» ونعترف بأنّ الحقّ مع الزهراء الطاهرة، وأنّها قد ظُلمت، ولنفهم أنّ للنزاع على فدك خلفيّات هي أخطر وأعظم من مسألة فدك وغير فدك!!
(1) شرح المقاصد 5 / 278 ـ 279.
(2) شرح المواقف 8 / 356.
(3) سنن أبي داود 3 / 306 ـ 307 ح 3607.
(4) جامع الأُصول 10 / 187 ح 7686 وفيه أن مروان ابن الحكم هو الذي قبل شهادة عبداللّه بن عمر وحده لا النبي صلّى اللّه عليه وآله أخرجه البخاري.
(5) كنز العمّال ـ كتاب الخلافة 5 / 585 ح 14040.
(6) جامع الأُصول 10 / 184 ـ 185 ح 7681 ـ 7685 أخرجه مسلم وأبو داود ومالك والترمذي.
(7) سورة هود: الآية 17.
(8) سورة هود: الآية 17.
(9) الدرّ المنثور مجلد 4 ج 12 / 409 ـ 412.
(10) أخرجه البخاري كما ستعلم.
(11) شرح الكرماني على صحيح البخاري 10 / 125.
(12) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 4 / 599 ح 2296.
(13) سورة آل عمران: الآية 110.
(14) سورة البقرة: الآية 143.
(15) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري مجلد 6 ج 12 / 120 ـ 121، ح 5 باب من تكفّل عن ميت ديناً فليس له أن يرجع.