دلالة الآية سواء كان الاستثناء متّصلا أو منقطعاً:
وتلخّص: إنّ الآية المباركة دالّة على وجوب مودّة «أهل البيت»..
* سواء كانت مكّيّة أو مدنيّة، بغضّ النظر عن الروايات أو بالنظر إليها.
* وسواءٌ كان الاستثناء منقطعاً كما ذهب إليه غير واحد من علماء العامّة وبعض أكابر أصحابنا كالشيخ المفيد البغدادي رحمه الله، نظراً إلى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يطلب أجراً على تبليغ الرسالة، قال رحمه الله:
«لا يصحّ القول بأنّ الله تعالى جعل أجر نبيّه مودّة أهل بيته عليهم السلام، ولا أنّه جعل ذلك من أجره عليه السلام، لأنّ أجر النبيّ في التقرّب إلى الله تعالى هو الثواب الدائم، وهو مستحقّ على الله تعالى في عدله وجوده وكرمه، وليس المستحق على الأعمال يتعلّق بالعباد، لأنّ العمل يجب أن يكون لله تعالى خالصاً، وما كان لله فالأجر فيه على الله تعالى دون غيره.
هذا، مع أنّ الله تعالى يقول: (وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ) وفي موضع آخر: (يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي).
فإن قال قائل: فما معنى قوله: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)؟ أوَليس هذا يفيد أنّه قد سألهم مودّة القربى لأجره على الأداء؟
قيل له: ليس الأمر على ما ظننت، لِما قدّمنا من حجّة العقل والقرآن، والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة، لكنّه استثناء منقطع. ومعناه: قل لا أسألكم عليه أجراً لكن أُلزمكم المودّة في القربى وأسألكموها، فيكون قوله: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) كلاماً تامّاً قد استوفى معناه، ويكون قوله: (إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) كلاماً مبتدأً فائدته: لكن المودّة في القربى سألتكموها، وهذا كقوله: (فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ) والمعنى فيه: لكنّ إبليس، وليس باستثناء من جملة. كقوله: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ)معناه: لكنّ ربّ العالمين ليس بعدوٍّ لي. قال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيسُ *** إلاّ اليعافيرُ وإلاّ العيسُ»(1)
* أو كان متّصلا كما جوّزه آخرون، من العامّة كالزمخشري والنسفي(2) وغيرهما.
ومن أعلام أصحابنا كشيخ الطائفة، قال: «في هذا الاستثناء قولان: أحدهما: انّه استثناء منقطع، لأنّ المودّة في القربى ليس من الأجر، ويكون التقدير: لكن أُذكّركم المودّة في قرابتي. الثاني: إنّه استثناء حقيقةً، ويكون: أجري المودّة في القربى كأنّه أجر وإن لم يكن أجر»(3).
وكالشيخ الطبرسي، قال: «وعلى الأقوال الثلاثة فقد قيل في (إِلاَّ الْمَوَدَّةَ) قولان، أحدهما: إنّه استثناء منقطع، لأنّ هذا ممّا يجب بالإسلام فلا يكون أجراً للنبوّة. والآخر: إنّه استثناء متّصل، لأنّ هذا ممّا يجب بالإسلام فلا يكون أجراً للنبوة. والآخر: إنّه استثناء متّصل، والمعنى: لا أسألكم عليه أجراً إلاّ هذا فقد رضيت به أجراً، كما أنّك تسأل غيرك حاجةً فيعرض المسؤول عليك برّاً فتقول له: إجعل برّي قضاء حاجتي. وعلى هذا يجوز أن يكون المعنى: لا أسألكم عليه أجراً إلاّ هذا، ونفعه أيضاً عائد عليكم، فكأنّي لم أسألكم أجراً، كما مرّ بيانه في قوله: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ).
وذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره: حدّثني عثمان بن عمير، عن سعيد بن جبير، عن عبدالله بن عبّاس: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها: نأتي رسول الله فنقول له: تعروك أُمور، فهذه أموالنا…»(4).
* هذا، ولكن قد تقرّر في محلّه، أنّ الأصل في الاستثناء هو الاتّصال، وأنّه يحمل عليه ما أمكن، ومن هنا اختار البعض ـ كالبيضاوي حيث ذكر الانقطاع قولا ـ الاتّصال، بل لم يجوّز بعض أصحابنا الانقطاع، فقد قال السيّد الشهيد التستري: «تقرّر عند المحقّقين من أهل العربيّة والأُصول أنّ الاستثناء المنقطع مجاز واقع على خلاف الأصل، وأنّه لا يحمل على المنقطع إلاّ لتعذّر المتّصل، بل ربّما عدلوا عن ظاهر اللفظ الذي هو المتبادر إلى الذهن مخالفين له، لغرض الحمل على المتّصل الذي هو الظاهر من الاستثناء كما صرّح به الشارح العضدي حيث قال: واعلم أنّ الحقّ أنّ المتّصل أظهر، فلا يكون مشتركاً ولا للمشترك، بل حقيقة فيه ومجاز في المنقطع، ولذلك لم يحمله علماء الأمصار على المنفصل إلاّ عند تعذّر المتّصل حتّى عدلوا للحمل على المتّصل من الظاهر وخالفوه، ومن ثمّ قالوا في قوله: له عندي مائة درهم إلاّ ثوباً، وله عليَّ إبل إلاّ شاة، معناه: إلاّ قيمة ثوب أو قيمة شاة، فيرتكبون الإضمار وهو خلاف الظاهر ليصير متّصلا، ولو كان في المنقطع ظاهراً لم يرتكبوا مخالفة ظاهر حذراً عنه. انتهى»(5).
(1) تصحيح الاعتقاد ـ مصنّفات الشيخ المفيد ـ: 140 ـ 142.
(2) الكشّاف في تفسير القرآن 4/221، تفسير النسفي ـ هامش الخازن ـ 4/94.
(3) التبيان في تفسير القرآن 9/158.
(4) مجمع البيان في تفسير القرآن 9/29.
(5) إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل 3/21 ـ 22.