المقدمة الخامسة ( في تشخيص محلّ الكلام في بحث الترتّب )
إن القول بالترتب لا يترتب عليه محذور طلب الجمع بين الضدّين ـ كما توهّم ـ فإنه إنما يترتب على إطلاق الخطابين دون فعليّتهما. وبيان ذلك:
إن الشرط الذي يترتّب عليه الخطاب، إمّا أن لا يكون قابلاً للتصرّف الشرعي، لخروجه عن اختيار المكلّف بالكليّة، كالزّوال بالنسبة إلى الصّلاة، وإمّا أن يكون قابلاً لذلك، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ، فإن للشارع أن يتصرّف فيه بأن يوجب ـ مثلاً ـ أداء الدين، فيرتفع الاستطاعة بحكم الشارع ويسقط وجوب الحج.
ثم إن الشرط يكون تارةً: شرطاً للحكم بحدوثه وأُخرى: ببقائه وثالثةً: بوجوده في برهة من الزمان. مثلاً: في باب الحضر والسفر قولان، فقيل: الشرط للقصر هو السّفر، ويكفي حدوثه في أوّل الوقت، فمن كان مسافراً في أول وقت الصّلاة وجب عليه القصر، وإن كان حاضراً في بلده في آخره. وقيل: لا يكفي الحدوث بل الشرط كونه مسافراً حتى آخر الوقت.
ثم إنّ الموارد تقبل التقسيم إلى قسمين بلحاظ حال المكلّف واختياره وينقلب الحكم بتبع ذلك، كما لو كان حاضراً فسافر أو العكس، فإنّ الحكم الشّرعي ينقلب قصراً أو تماماً، أمّا في مثل الإستطاعة فلا خيار للمكلّف، فإنه إذا حصل استقرّ الحج شاء أو أبى.
والخطاب الشرعي أيضاً ينقسم تارةً: إلى الخطاب الرافع للموضوع بنفسه، فلا دخل لإطاعة الخطاب، وأُخرى: يكون الرافع له امتثال الخطاب وإطاعته، كما في مسألة أرباح المكاسب، فإن الربح موضوع لوجوب الخمس، فإن أوجب الشارع على المكلّف أداء ديون تلك السنة من الأموال الحاصلة فيها ـ لا السنين الماضية ـ فإنّ نفس هذا الخطاب يرفع موضوع الخمس.
هذا، والمهم في موارد الترتّب أن يكون رفع الموضوع بامتثال الخطاب، لا أن يكون أصل وجود الخطاب رافعاً ـ كما تقدّم ـ فإن التزاحم ينتفي حينئذ ولا يبقى موضوع للترتب، لأنه فرع التزاحم بين الخطابين، فلابدّ من وجوده حتى نرى هل يرتفع باشتراط أحدهما بعصيان الآخر أو لا ؟
ثم إن هنا قاعدةً وهي: إنه لو حصل خطاب في موضوع خطاب آخر، فإمّا أن يمكن اجتماع متعلّقي الخطابين، فلا بحث، كما لو جاء في موضوع وجوب الصّلاة، ـ وهو أوّل الفجر ـ وجوب الصّوم أيضاً، فيكون أوّل الفجر موضوعاً لكليهما ولا تمانع بينهما، وإمّا لا يمكن ويقع التمانع، فعلى الحاكم لحاظ الملاكين وتقديم الأهم وإلاّ فالتخيير.
فإن كان لكلٍّ من المتعلّقين ملاك تام ووقع الإشكال في مرحلة الخطاب، من حيث القدرة وعدمها عند المكلّف على الامتثال، كان أحد الحكمين رافعاً لموضوع الآخر بامتثاله، لفرض عدم القدرة على امتثالهما معاً، وبقطع النظر عن الامتثال يكون الموضوع باقياً، إلاّ أن القدرة الواحدة لا تفي لامتثال الحكمين. فإن لزم من الجمع بينهما طلب الجمع بين الضدين، فلا مناص من الأخذ بالأهم وينعدم الخطاب بالمهم، أما إن كانا متساويين ولا أهم في البين، فالخطابان كلاهما ينعدمان ويستكشف خطاب واحد تخييري، وإن لم يلزم منهما طلب الجمع بين الضدّين ـ والمفروض وجود الملاك التام لكلّ منهما ـ وجب وجودهما… وهذا معنى قولهم: إن إمكان الترتّب مساوق لوجوبه.
إنما الكلام ـ كلّ الكلام ـ في إثبات عدم لزوم الجمع. وقد أقام الميرزا ثلاثة براهين على ذلك.
وقد ذكر قبل الورود في المطلب ما هو المنشأ للزوم الجمع بين الضدّين، فقال: بأنّ المنشأ لهذا المحذور هو أحد أُمور ثلاثة:
1 ـ أن يقيّد كلّ من الخطابين بوجود الآخر، بتقييد المطلوبين أحدهما بالآخر، كأن يقول: تجب عليك القراءة المقيّدة بالصّوم، ويجب عليك الصّوم المقيّد بالقراءة، أو بتقييد طلب كلّ بطلب الآخر، فوجوب القراءة في فرض وجود الصّوم ووجوب الصّوم في فرض وجود القراءة.
فمن الواضح أن تقييد كلّ منهما بالآخر يستلزم الجمع بينهما.
2 ـ أن يقيّد أحدهما بالآخر دون العكس، كأن يقول: صم. ثم يقول: صلّ إن كنت صائماً. فيلزم الجمع.
3 ـ أن لا يقيّد شيئاً منهما بل يجعلهما مطلقين، فيقول: صم، صلّ، فكلّ منهما واجب سواء كان الآخر موجوداً أو لا، فيلزم الجمع في فرض وجودهما.
ومن الواضح استحالة لزوم الجمع لو قيّد أحدهما بعدم الآخر، كما لو قال: صم إن لم تقرأ.
وحينئذ، فإن الإشكال على الترتّب يندفع بإقامة البرهان على عدم لزوم الجمع، لأن لزومه يكون إمّا بإيجاب الجمع بعنوانه كأن يقول: إجمع بين كذا وكذا، وإمّا بإيجاب واقع الجمع، وذلك يكون بالأمر بكليهما على نحو الإطلاق، فيلزم الجمع، أمّا إذا لم يكن هذا ولا ذاك فلا وجه للاستحالة، والبرهان هو:
أولاً: إنّ المفروض في الترتب تقييد أحد الخطابين بعصيان الآخر، فيكون وقوع أحدهما على صفة المطلوبيّة بنحو القضيّة المنفصلة الحقيقيّة، لأن الأمر بالأهم إمّا أن يمتثل في الخارج أو لا ؟ فإن امتثل استحال وقوع المهم على صفة المطلوبيّة، وإن لم يمتثل فبما أن متعلّقه لم يوجد في الخارج، يستحيل كونه مصداقاً للمطلوب ومعنوناً بعنوانه.
وبعبارة أُخرى: إن حال الأهم لا يخلو عن أن يوجد خارجاً أو لا يوجد، فإن وجد، كان هو الواقع على صفة المطلوبيّة ولا خطاب بالمهم لانتفاء شرطه أعني عصيان الأهم، وإن لم يوجد الأهم ووجد المهم، كان هو الواقع على صفة المطلوبيّة، وإن لم يوجد المهمّ كذلك لم يقع شيء منهما على صفة المطلوبية من باب السّالبة بانتفاء الموضوع… وعلى كلّ حال، يستحيل وقوعهما معاً في الخارج على صفة المطلوبيّة، فيستكشف من ذلك عدم استلزام فعليّة طلبهما لطلب الجمع.
وتوضيحه: إن خطاب المولى بـ« صلّ » مشتمل على نسبتين: نسبة طلبيّة بين المولى والصّلاة، ونسبة تلبّسية هي بين المكلّف والصّلاة، ولا تنافي بين هاتين النسبتين، فكأنه يقول للمكلّف: كن فاعلاً للإزالة أو تجب عليك الصّلاة، فالمولى آمر بالمهم ـ وهو الصّلاة ـ والمكلّف فاعل للأهم ـ وهو الإزالة ـ فأين الاجتماع بين النسبتين ؟ بل الاجتماع ضروري الامتناع! لأنّ واقع الجمع هو في مطلوبيّة الأهم والمهم ـ المتضادّين ـ في زمان واحد، لكنّ المفروض في الترتّب عدم اجتماع فاعليّة الأهم مع وجوب المهم، لأنّه لمّا يكون فاعلاً للأهم لا يكون مخاطباً بالمهم، وعندما يكون مخاطباً بالمهم ويجب عليه، لا يكون للأهم فاعليّة، فهما ليسا مطلوبين في وقت واحد ليلزم طلب الجمع بين الضدّين.
وثانياً: إن القيد يكون تارةً: قيداً للمطلوب كالطهارة بالنسبة إلى الصّلاة ويكون تحصيله واجباً. وأُخرى: قيداً للطلب وتحصيله غير واجب كالاستطاعة فإنه قيد لطلب الحجّ لا لنفس الحج.
وقيد الطلب لا يكون قيداً للمطلوب.
وهنا: ترك الأهم قيد لطلب المهم ـ وليس قيداً للمهم نفسه ـ إذ كان عصيان الأمر بالأهم شرطاً لوجوب المهم وهو الصّلاة، فهي ليست بواجبة إلاّ عند ترك الإزالة، فالنتيجة ضد إيجاب الجمع… لأن إيجاب الجمع عبارة عن أن يكون المتضادّان متّصفين بالمطلوبيّة، ومع الالتفات إلى ما تقدّم يستحيل تحقق المطلوبيّة لهما معاً، لأن المفروض توقّف اتّصاف المهم بالمطلوبيّة على ترك الأهم لا على وجوده، فشرط مطلوبيّة الصّلاة عدم الإزالة لا وجودها… وإلاّ لزم خلف الشرط، كما أنه لا يتصف المهم بالمطلوبيّة إلاّ مع عدم الأهم، فلو اتّصف بها مع وجوده، لزم وجود الأهم وعدمه وهو اجتماع للنقيضين… فإيجاب الجمع يستلزم الاستحالة من وجهين أحدهما: لزوم الخلف، والآخر: لزوم اجتماع النقيضين. وكلّما استلزم المحال فهو محال.
قال الأُستاذ:
في كلامه نقص لابدّ من تتميمه، إذ للمنكر للترتب أن يقول: حاصل البرهان عدم مطلوبيّة المهم مع وجود الأهم، لكنّ الأهمّ مع وجود المهم مطلوبٌ، وما ذكرتموه لا يثبت استحالة مطلوبيّته. وبعبارة أُخرى: إن إطلاق الأهم يقتضي مطلوبيّته مع وجود المهم، فيلزم اجتماع الضدّين ويعود الإشكال، وإن كان مندفعاً بالنظر إلى تقيّد المهم بعدم الأهم.
وتتميم البرهان يكون بالاستفادة ممّا ذكره الميرزا في المقدمات السابقة، من أن مطلوبيّة المهم إنّما هي في حال ترك الأهم، إذ أصبح تركه موضوعاً لمطلوبيّة المهم، وإذا تحقق ترك الأهم تحقق مطلوبيّة المهم في ظرف عدم الأهم.
هذا تمام الكلام في مطالب الميرزا في هذا المقام.
Menu