رأي الشيخ الاستاذ
وبعد ذكر المباني المطروحة في معنى الصيغة والنظر والمناقشة فيها، قال شيخنا دام بقاه، وبالنظر إلى مختاره في حقيقة الوضع من أنها «العلامتيّة»:
إن الألفاظ إنما هي للوصول إلى المعاني وإبراز الأغراض والمقاصد، فالصبيّ الذي لا يمكنه التلفّظ إذا أراد شيئاً من الأشياء تحرّك نحوه ـ إن أمكنه التحرّك ـ وأخذه، وإلاّ فيلجأ إلى غيره، كأنْ يأخذ بيد أبيه ويمدّها نحو الشيء أو يضعها عليه، وهذا هو المقصود من «البعث النسبي» في كلام المحقق الإصفهاني، و «النسبة الإرساليّة» في كلام المحقق العراقي، لكنّ هذا الطفل عندما يمكنه الإشارة نحو الشيء الذي يريده، فإنّه يستخدمها بدل الأخذ بيد أبيه مثلا، فإنْ يتمكن من التلفّظ فلا شك أنه يستخدم اللّفظ للدلالة على أنّه يريد الشيء الفلاني، فيقول لأبيه مثلا: أعطني كذا…
فالألفاظ دوالّ وكواشف وعلائم… وهذا هو الأصل فيها.
وعليه، فإنه مع التمكّن من التلفّظ، يتحقّق بيان المراد وإبرازه بواسطة اللّفظ، وتكون الألفاظ مبيّنات ومبرزات للمرادات، وهذا معنى ( عَلَّمَهُ الْبَيَانَ )(1)، فمن تمكّن من اللّفظ وأمكنه إفهام مقصوده به، لا يحتاج إلى الإشارة، ولا إلى البعث والتحريك التكويني الخارجي، ولذا تكون الإشارة أو التحريك الخارجي هي الدالّة على المقصود حيث لا يمكن اللّفظ.
وسواء كان الدالّ على المقصود هو اللّفظ أو التحريك الخارجي، فإنّه لا ينظر إليه إلاّ بالنظر غير الإستقلالي، بل إنّه ـ في هذه الحالة ـ يكون النظر الإستقلالي نحو المبعوث والمبعوث إليه، أمّا اللّفظ أو التحريك الخارجي الذي تحقق به البعث، فإنّه مغفول عنه، ووجوده وجود حرفي لا استقلالي… وهذا البعث هو «البعث النسبي» في اصطلاح المحقّق الإصفهاني، إنه يقول بأنّ نفس هذا البعث الخارجي التكويني يوجد ويتحقّق بكلمة «إفعل». والمحقق العراقي يشبّه الطلب بالصيغة بإرسال الطيور الجارحة نحو الصيد، فكأنّ الآمر يرسل المأمور بأمره «إفعل» نحو تحصيل الشيء الذي يريده منه، فالمدلول عنده رحمه الله ـ هو الإرسال ولازم ذلك هو الطلب.
والحاصل: إن هذا أمر ارتكازي لا يمكن إنكاره، وعباراتهم ـ وإنْ اختلفت في بيانه ـ مشيرة إلى هذا الأمر.
لكنّ التحقيق: أن هذه النسبة البعثيّة التكوينيّة التي تقوم الصيغة مقامها لا توجد بالصيغة، بل إنها تكون مبرزة لها، فالباعث يظهر ويبرز مقصوده باللّفظ بدلا عن التحريك الفعلي نحوه… فليس «إفعل» هو «البعث» كما قال المحقق الإصفهاني، بل إنه دالٌّ على البعث ومبرز له، لكنّه مبرز للبعث ـ كما قلنا ـ لا لثبوت الشيء في ذمّة الطرف المقابل كما قال المحقق الخوئي… فإنْ لوحظ هذا البعث النسبي باللّحاظ الاستقلالي أصبح مدلول لفظ «أبعثك»، ولذا قال السيد البروجردي: إن الطلب إن لوحظ باللّحاظ الاسمي الإستقلالي استعمل لفظ البعث والأمر فيقول: آمرك، وإن لوحظ باللّحاظ الآلي استعملت صيغة «إفعل»… لكنّ التحقيق أنه «البعث» وليس «الطلب».
وبما ذكرنا ظهر التحقيق في المقام، واختلافات الأنظار فيه.
(1) سورة الرحمن: 3.