الجهة الاُولى: في معنى صيغة الأمر.
فقد وقع الخلاف بين الأعلام في معنى صيغة الأمر.
فقيل: إن للصيغة معان عديدة، أحدها هو الطلب، والمعاني الاخرى هي: التهديد، والتعجيز، والإهانة، والإختبار… وهكذا، فقولك: «صلّ» معناه الطلب الإنشائي، وفي قوله تعالى ( كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ )(1) تدلّ الصيغة على التعجيز، ومعناها في ( تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّام )(2) هو التهديد، وهكذا…
والقول الآخر: هو وحدة معنى الصيغة في جميع الإستعمالات، وهو الطلب الإنشائي، غاية الأمر أنه تارةً: يكون الداعي لاستعمال الصيغة في الطلب الإنشائي هو الطلب الجدّي، واُخرى: يكون الداعي لاستعمالها فيه هو التهديد أو غيره مما ذكر.
والقول الثاني هو مختار صاحب (الكفاية)(3)… فهو يرى وقوع الإشتباه هنا بين المفهوم والداعي، كما قال بوقوع الإشتباه بين المفهوم والمصداق في مدلول مادّة الأمر، كما تقدّم.
مختار الاستاذ
وقد اختار الاستاذ ـ في هذه الجهة ـ قول المحقق الخراساني، قال: والإرتكاز، والوجدان، والاستعمالات، كلّها تثبت هذا القول، وقصارى ما يمكن أن يقال هو: إن الصيغة في الطلب الإنشائي حقيقة، وفي غيره مجاز.
إشكال السيّد الاستاذ
أقول: وكما وقع الإشكال فيما ذكره من الاشتباه بين المصداق والمفهوم كما تقدّم، كذلك فيما ذكره من الاشتباه بين المفهوم والداعي، فقد أفاد السيد الاستاذ بأنّ ما ذهب إليه من كون الصيغة مستعملة لإيجاد الطلب إنشاءً وإنما يختلف الداعي إليه، غير معقول ثبوتاً « فإنّ الداعي ـ بحسب ما يصطلح عليه ـ هو العلّة الغائيّة، بمعنى ما يكون في تصوّره سابقاً على الشيء وفي وجوده الخارجي مترتّباً عنه، فيقال: «أكل» بداعي تحصيل الشبع، فإن الشبع تصوّراً سابق على الأكل وبلحاظ ترتّبه على الأكل ينبعث الشخص إلى الأكل، ولكنه وجوداً يترتب على الأكل ويتأخّر عنه، وعليه: فصلاحيّة الأمور المذكورة ـ من تمّن وترجّ وتعجيز وتهديد وامتحان وسخرية ـ لأنْ تكون داعياً للإنشاء في الموارد المختلفة، يصحّ في فرض ترتّب هذه الأمور على الإنشاء وجوداً وأسبقيّتها عليه تصوّراً، وليس الأمر فيها كذلك…».
ثم قال ـ بعد أن أوضح وجه عدم كون الأمر فيها كذلك ـ «فالأولى: أن يقال في هذه الموارد: إنّ الصيغة مستعملة فيها في معناها الحقيقي وبداعي البعث والتحريك، إلاّ أنّ موضوع التكليف مقيَّد، فالتكليف وارد على الموضوع الخاص لا مطلق المكلَّف، ففي مورد التعجيز يكون التكليف الحقيقي معلَّقاً على قدرة المكلَّف بناءً على ادّعائه، فيقال له في الحقيقة: إنْ كنت قادراً على ذلك فأت به، فحيث أنه لا يستطيع ذلك ولا يقدر عليه لا يكون مكلَّفاً، لا بلحاظ عدم كون التكليف حقيقيّاً بل بلحاظ انكشاف عدم توفّر شرط التكليف فيه وعدم كونه مصداقاً لموضوع الحكم، فموضوع الحكم ههنا هو القادر لا مطلق المكلَّف، وهكذا يقال في التهديد…»(4) انتهى.
لكنّ منشأ هذا الإيراد هو الجمود على لفظ «الداعي» وأخذه بالمعنى الفلسفي، وهو يندفع بإمكان أن يكون المراد من الداعي معنىً آخر غيره، كما ذكر هو ـ دام ظله ـ في بحث شرطيّة القدرة للتّكليف(5) من أن الشرط قد يطلق ويراد به معناه الفلسفي وهو العلة الغائية، وقد يطلق ويراد به معنى غير ذلك، وإنّ شرطية القدرة للتكليف ليس المقصود بها المعنى الفلسفي للشرطيّة، بل المقصود بها المعنى الآخر… بل لقد ذكر في معنى «الغرض» أنه قد يطلق ويراد منه ما يساوق العلّة الغائيّة، وهو المعنى الإصطلاحي للغرض والداعي، وقد يطلق ولا يراد منه هذا المعنى، بل يراد منه معنىً عرفي يساوق المقصود.
ومن العجيب ذكره مثال الأكل من أجل الشبع هنا للدلالة على جواز إرادة غير المعنى الفلسفي من «الغرض» قال: وهو بهذا المعنى قابل للإنفكاك عن العمل وإنْ عبّر عنه بالغرض فيقال: غرضي من هذا العمل ومقصودي كذا مع عدم ترتّبه عليه، بل يمكن أن يترتب ويمكن أن لا يترتب، كأكل الخبز بغرض الشبع…»(6).
(1) سورة البقرة: 61.
(2) سورة هود: 68.
(3) قال (في الفصل الثاني فيما يتعلَّق بصيغة الأمر وفيه مباحث) ص69 ط مؤسسة آل البيت: « ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها، وقد عُد منها: الترجي والتمني والتهديد والانذار والاهانة والاحتقار والتعجزى والتخير، إلى غير ذلك. وهذا كماترى، ضرورة أن الصيغة ما استعملت في واحد منها بل لم تستعمل الا في انشاء الطلب إلا أن الداعي الى ذلك… يكون أحد هذه الامور.
(4) منتقى الأصول 1/397 ـ 398.
(5) منتقى الاصول 1/416 ـ 417.
(6) منتقى الأصول 1/462.