التحقيق في الآراء بناءً على تعدّد المعنى
فأمّا بناءً على تعدّد المعنى للفظ «الأمر»، فأقوى الأقوال المذكورة هو القول الرابع، ويظهر ذلك من النظر فيها:
أمّا رأي صاحب (الفصول)(1) فواضح الضّعف، إذ لا حكاية للفظ «الأمر» عن «الشأن» ولا ينسبق منه إلى الذهن.
وأمّا رأي صاحب (الكفاية)(2) من أن المعنى الحقيقي للفظ «الأمر» هو «الطلب» و «الشيء» وأنّ استعماله في مثل «الغرض» و «الحادثة» و «الفعل»، ونحوها هو من باب اشتباه المصداق بالمفهوم، لأنّ «الشيء» مصداق «الغرض» مثلا، ولكونه مصداقاً له تخيّل أن مفهوم «الأمر» هو «الغرض»، فقولك: «جئتك للأمر الفلاني» ليس معناه: جئتك للغرض الفلاني، بل المعنى جئتك للشيء الفلاني، إلاّ أنه مصداقٌ للغرض، كما يكون مصداقاً للحادثة وللفعل… وهكذا…
فهذا رأي المحقق الخراساني، لكنْ فيه:
إنّ «الشيء» يطلق على: الجوهر، والعرض، من الفعل وغيره، وعلى ذات الباري عزّوجلّ، لكنّ «الأمر» لا يصحّ إطلاقه على هذه الموارد، فلا يقال في زيد: إنه أمرٌ، وفي الأخبار إنه يقال لله « شيء » لكنّه « شيء بخلاف الأشياء »(3) فيطلق عليه «الشيء» ولكنْ لا يطلق «الأمر».
وقد استشكل المحقق الإصفهاني تعبير صاحب (الكفاية) عن الإشتباه المزبور بأنه من اشتباه المفهوم بالمصداق، ببيان: إن اشتباه المفهوم بالمصداق إنما يكون في مورد يوضع اللفظ للمصداق بما أنه مصداق وبما هو كذلك ويستعمل فيه مع هذا اللّحاظ، فيدّعى وضعه للمفهوم، كما لو وضع اللفظ للغرض بالحمل الشائع، فيدّعى وضعه للغرض بالحمل الأوّلي. أما مع عدم الوضع للمصداق فلا يكون ادّعاء وضعه للمفهوم من باب الخلط بين المفهوم والمصداق، والحال في المعاني المذكورة كذلك، إذ لم يوضع اللّفظ لمصاديقها جزماً، فالمتّجه على هذا التعبير بالاشتباه، لا غير(4).
قال السيد الاستاذ بعد إيراده: وأنت خبير بأنَّ هذا التعبير كما يمكن أن يراد به ما ذكره المحقق الإصفهاني، يمكن أنْ يراد به ما قصده المحقق الخراساني، إذ يصحّ التعبير به عن دعوى الوضع للمفهوم مع استعماله في المصداق لتخيّل استعماله في المفهوم، ويكون من باب اشتباه المفهوم بالمصداق في مقام الإستعمال الذي لوحظ طريقاً لمعرفة الوضع(5).
وأمّا رأي السيد البروجردي(6)، فقد ظهر ما فيه ممّا تقدّم، لأنه قد خصّ «الأمر» بـ «الفعل» مع كونه يطلق على غير الفعل أيضاً. هذا أوّلا. وثانياً: فإنّ «الفعل» لا ينسبق إلى الذهن من لفظ «الأمر».
فظهر أن الحق كون مفهوم «الأمر» أوسع دائرة من «الفعل» وأضيق من «الشيء».
وأمّا رأي القائل بأن مدلول «الأمر» هو الإعتبار النفساني وإبرازه(7)، فإنّ المولى يجعل ـ في عالم الإعتبار ـ على ذمّة المكلَّف الحكم ويبرز اعتباره بـ«الأمر»، ففيه:
صحيح أن هناك ألفاظاً وصيغاً موضوعة لإبراز الإعتبار النفساني، مثل صيغ العقود، حيث تعتبر الملكيّة ـ مثلا ـ ويبرز هذا الإعتبار بلفظ «بعتُ»، لكنَّ هذا مطلبٌ وكون مدلول هذه الصيغة هو ذاك الإعتبار وإبرازه مطلبٌ آخر.
فالحقّ هو القول الرابع من الأقوال المذكورة.
(1) الفصول الغروية: 62، حجري.
(2) كفاية الأصول: 62 ط مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث.
(3) الكافي 1/82 باب إطلاق القول بأنه شيء.
(4) نهاية الدراية 1/249.
(5) منتقى الاصول 1/370.
(6) الحجة في الفقه: 97.
(7) محاضرات في اصول الفقه 2/9.